الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله واصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}[البينة:1] {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً}[البينة:2] {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}[البينة:3] {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}[البينة:4] {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة:5] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}[البينة:6] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}[البينة:7] {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}[البينة:8]، سورة البيِّنة، قول الله -تبارك وتعالى- {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}[البينة:1]، يُبيِّن -سبحانه وتعالى- {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}، أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وسمَّاهم الله -تبارك وتعالى- أهل الكتاب لأنهم منسوبون إلى كتاب الله -تبارك وتعالى-؛ التوراة والإنجيل، فالتوراة المُنزَلَة على موسى مما يؤمن به اليهود، وكفر اليهود في ما بعد ذلك بعيسى ابن مريم وما أُنزِلَ إليه، والنصارى يؤمنون بالتوراة المُنزَلة على موسى والإنجيل المُنزَل على عيسى -عليه السلام-.
يُناديهم الله -تبارك وتعالى- ويصِفَهُم بهذا الوصْف؛ بأنهم أهل الكتاب، قيل أن هذا من باب تذكيرهم بالكتاب المُنزَّل عليهم من الله -تبارك وتعالى-؛ ويكون في هذا حَض لهم على الإيمان بالله -تبارك وتعالى-؛ والإيمان برسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، لأن الكتاب المُنزَل إليه هو من جنس هذه الكُتُب؛ كلها كُتُب من الله -تبارك وتعالى-، والرسول محمد -صلوات الله والسلام عليه- إنما هو مُكمِّلٌ لهذه الرسالات؛ وأخوٌ لعيسى، وأخوٌ لموسى -عليه السلام-، ودينهم واحد، وقيل أن {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}، تسمية الله لهم بأهل الكتاب تشنيع عليهم لأنهم وإن كان يُنسَبون إلى هذا لكنهم لم يحمِلوه؛ ولم يعملوا به، {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}، فتكون تسميتهم بأهل الكتاب من باب الشناعة عليهم، أنكم سُمِّيتُم بأهل الكتاب؛ أنتم أهل الكتاب، لكنكم لم تقوموا به، يخبر -سبحانه وتعالى- بأن هؤلاء الذي كفروا من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكفرهم لا شك في كفر قبل مبعَث النبي -صلوات الله والسلام عليه- بما أدخلوه على دينهم من أمور الشِّرك والكفر، وكفر أخر بعد ذلك بمجيء النبي -صل الله عليه وسلم-؛ وكفرهم به فهذا كفر على كفر، فكفرهم قبل مجيء النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- بما ابتدعوه، فالنصارى ابتدعوا القول بأن عيسى ابن الله، أو أنه هو والله في زعمهم سمُّونهم الأب وروح القُدُس إله واحد؛ فهذا كُفر، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ}، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}.
كذلك اليهود كفروا قبل بعثة النبي -صل الله عليه وسلم-؛ كفروا بردِّهم رسالة عيسى -عليه السلام-، كما قال -تبارك وتعالى- {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا}[النساء:156] {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}، فهذا كُفرٌ بعد كُفر، فيخبر -سبحانه وتعالى- بأن هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ كُفرهم قبل بعثة النبي -صل الله عليه وسلم-، وكُفرهم بعد ذلك ببعثة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، والمُشركين هم العرب، وأصبح هذا الوصْف لائق بهم وعَلَم عليهم لأن دينهم هو الشِّرك بالله -تبارك وتعالى-؛ وقد أشركوا بالله -تبارك وتعالى- آلهة كثيرة، هذه الأصنام التي اتخذوها؛ كل قبيلة اتخذت لها صنم، وكان أحيانًا كل فرد يجعل له صنم خاص ويعبدونه من دون الله -تبارك وتعالى-، وشِركُهم في قولهم بأن الملائكة بنات الله؛ وأنهم يشفعون عند الله -تبارك وتعالى-، أنواع ودروب كثيرة من الشِّرك تلبَّسَت بهم؛ ودينهم في الأساس قائم على الشِّرك بالله -تبارك وتعالى-، الشِّرك في صفات الله -تبارك وتعالى- وفي عبادته، فإنهم لم يتصوَّروا قط أن يُعبَد الله وحده لا شريك له، بل رأوا أن هذه الآلهة لا تُترَك؛ وأنها يجب أن تُعبَد مع الله -تبارك وتعالى-.
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}، اليهود والنصارى، {وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ}، الانفكاك هو الانفصال عنه وتركه، قيل مُنفَكِّين؛ أي عن الكُفر، يعني عمَّاهم عليه من الكُفر الذي كانوا عليه، قال -جل وعلا- {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً}[البينة:2]، {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}، البيِّنة؛ الأمر الذي يُبيِّن الحقائق ويُجَلِّي الأمور، وهذا الدين الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- على رسوله هو البيِّنة، ثم جاء تعريف هذه البيِّنة بدل منها رسولٌ، فالرسول هو البيِّنة وذلك أنه قد أنزل الله -تبارك وتعالى- عليه الوحي الذي أبان كل الإشياء؛ حقيقة التوحيد، صفات الرب -تبارك وتعالى-، حقيقة ما عليه اليهود، حقيقة ما عليه النصارى، حقيقة ما عليه المُشرِكين؛ وأنهم قد كفروا، وضلوا، وانصرفوا عن صراط الرب -تبارك وتعالى-، وأن كل ما يدَّعونه مما يدَّعونه من أنهم أبناء الله وأحبَّائه؛ وأن طريقتهم هي المُثلى، وأنهم أهل الجنة؛ والجنة خالصة لهم من دون الله، وأنهم على الحق المُبين، كل هذا جاء البيان وجاء الرسول ليُبيِّن زيف إدِّعاءاتهم هذه؛ وأنها باطلة، وأنه من المُفترى والمكذوب، رسول من الله؛ هذه البيِّنة التي أنزلها الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء لدعوتهم إلى الصراط المستقيم، رسولٌ من الله هو محمد ابن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه-، وصَفَه الله هنا فقال {........ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً}[البينة:2]، يتلوا؛ يقرأ، هذا الأُمِّي الذي اختاره الله -تبارك وتعالى- جاء ليقرأ على الناس جميعًا، صُحُفًا مُطهَّرة؛ القرآن، والقرآن صُحُف مُطهَّرة في السماء، كما قال -تبارك وتعالى- {عَبَسَ وَتَوَلَّى}[عبس:1] {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى}[عبس:2] {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}[عبس:3] {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}[عبس:4] {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى}[عبس:5] {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى}[عبس:6] {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى}[عبس:7] {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى}[عبس:8] {وَهُوَ يَخْشَى}[عبس:9] {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى}[عبس:10] {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}[عبس:11] {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ}[عبس:12] {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ}[عبس:13] {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ}[عبس:14]، فهذا القرآن في صُحُف مُكرَّمة في السماء، {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ}[عبس:14] {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}[عبس:15] {كِرَامٍ بَرَرَةٍ}[عبس:16].
فهذا النبي جاء ليقرأ الصُّحُف المُطهَّرة التي في السماء؛ أنزلها الله -تبارك وتعالى- عليه، نزَلَ القرآن مُنجَمَّا على النبي -صل الله عليه وسلم- في عشرين سنة؛ عُمرِه الرسالي -صلوات الله والسلام عليه- يدعوا إلى الهُدى والحق، {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ ........}[البينة:2]، وكونه رسول من الله؛ الله هو الذي اختاره، وهو الذي ارسَلَه -سبحانه وتعالى-، يتلوا؛ يقرأ، {صُحُفًا مُطَهَّرَةً} {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}[البينة:3]، كُتُب؛ أي مما كتَبَ الله -تبارك وتعالى- على عباده، قَيِّمة؛ قويمة، فهذه شِرعة قويمة، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ........}[الأنعام:115]، فكل ما كتَبَ الله -تبارك وتعالى- على عباده في هذه الصُّحُف المُطهَّرة النازلة من السماء؛ القرآن، إنما هو أمرٌ قويم يدعوا إلى الصراط المُستقيم، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ........}[الشورى:52]، وكل ما كتَبَ الله -تبارك وتعالى- فيه وفَرضَ فيه إنما هو الحق المُبين، {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}[البينة:3].
ثم قال -جل وعلا- {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}[البينة:4]، انظر هذا الرسول الذي جائهم بالهُدى والنور؛ والذي يُبيِّن لهم ما هم عليه من الكُفر والضلال، ويُريد أن ينقلهم إلى طريق الحق والرشاد، لكنهم لمَّا جائهم زادهم كُفر وتفرَّقوا حتى عن الأمر الذي كانوا يجتمِعون عليه، قال -جل وعلا- {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}[البينة:4]، تفرَّقوا عن الأمر الذين كانوا مُجمِعون عليه، فإنهم قد كانوا مُجمِعون على أنه سيأتي رسول من الله -تبارك وتعالى- مُخلِّص؛ يُبيِّن لهم الطريق ويأخذهم، وهو على مسار الأنبياء، فاليهود كانوا ينتظرون هذا المُخلِّص والنصارى كانوا ينتظرونه، كما بشَّرَهم عيسى -عليه السلام- {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}، وأن فترته ستنتهي ويرفعه الله -تبارك وتعالى- إلى السماء وسيأتي رسول مُكمِّل؛ وهو الرسول الأخر، واليهود قد كانوا ينتظرون بعثة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وكانوا يعرفونه بصفته المُنزَلَة من الله -تبارك وتعالى- كما يعرفون أبنائهم، كما قال –جل وعلا- {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[البقرة:146]، عبد الله ابن سلام يقول للنبي والله إني لأعرِفُك أكثر من ابني بصفته وعِلمه؛ صفة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، لكن هذا الأمر الذي كانوا مُجمِعون عليه من أنه سيأتي رسول؛ لمَّا جاء هذا الرسول تفرَّقوا فِرَقًا وكفروا بهذا الرسول، وكل ما نزل على هذا النبي من حق وبيان يزيدهم كُفرًا، كما قال -جل وعلا- {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}، وقال {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ........}[المائدة:67]، وقال {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[المائدة:68]، {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا}، فيزدادوا بالهُدى والنور المُنزَل من الله -تبارك وتعالى- كُفر وطُغيان، فهؤلاء ما تفرَّقوا هذا التفرُّق إلا من بعد ما جائتهم البيِّنة.
قال -جل وعلا- {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}[البينة:4]، فزادهم الأمر فُرقة، وكذلك فُرقَتهم قبل بعثة النبي -صلوات الله والسلام عليه- إنما كانت بعد البيِّنة، فإنهم تفرَّقوا ليس عن افتقاد الدليل وعدم معرفة الحق... لا؛ وإنما بالبَغي، والتحاسُد، ومجيء البيِّنة لهم، كما قال -جل وعلا- {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ........}[البقرة:213]، فلم يتفرَّق في الكتاب إلى أهله؛ وتفرَّقوا فيه من بعد ما جائهم العِلم بالحق لكن بغيًا بينهم، يعني بغيًا؛ بسبب البَغي، مفعول لأجله هذا، يعني لأجل البَغي بينهم والتحاسُد والتباغُض تفرَّقوا فيه، وكذلك قال -جل وعلا- {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}[البقرة:253]، فاختلفوا ليس لفقد الدليل وإنما للتحاسُد والتباغُض بينهم، وقد قال النبي -صل الله عليه وسلم- «افترقَت اليهود على إحدى وسبعين فِرقة، وافترَقَت النصارى على اثنتين وسبعين فِرقة»، وقال أيضًا «وستفترِق هذه الأُمة على ثلاثٍ وسبعين فِرقة»، والافتراق في الدين ليس لأن الدين فيه أمر مُعمَّى ولم يعرفوه؛ لكن عرفوا الحق وذهبوا يمينًا ويسارًا، كما قال -تبارك وتعالى- {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران:105]، ولا تكونوا؛ تحذير من الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين أن يتفرَّقوا في الدين كما تفرَّق الذي تفرَّقوا من قبلهم من بعد ما جائهم البينات، {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران:105] {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}[آل عمران:106] {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[آل عمران:107].
فيخبر -سبحانه وتعالى- أن تفرُّق الذين أتوا الكتاب قديمًا قبل بعثة النبي -صل الله عليه وسلم-؛ ما تفرَّقوا إلى من بعد ما جائتهم البيِّنة في ما جائهم به الرُسُل، وكذلك بقوا على شيء من الحق مثل انتظار الرسول الهادي الذي سيأتيهم، لكنهم لمَّا أتاهم الرسول تفرَّقوا كذلك وكفروا به، كما قال -تبارك وتعالى- عن اليهود {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}[البقرة:89] {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}[البقرة:90]، {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}[البينة:4].
ثم قال -جل وعلا- {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة:5]، {وَمَا أُمِرُوا}، الفعل هنا مُضاف إلى ما يُسمَّى فاعله؛ والذي أمَرَهم بهذا هو الله -سبحانه وتعالى- على ألسنة الرُسُل، {وَمَا أُمِرُوا}، على ألسنة الرُسُل؛ على لسان موسى، وعلى لسان عيسى -عليه السلام-، ثم على لسان النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، {إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، هذه دعوة الرُسُل أن دعوا الناس إلى أن يعبدوا الله وحده مُخلصين له الدين، يعني لا يعبدون إلا هو –سبحانه وتعالى- ولا يدعون إلا هو، قال -جل وعلا- {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}، فلا عبادة إلا له؛ فهذا قضاء الله -تبارك وتعالى- وهذا أمره لجميع الرُسُل، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ........}[البينة:5]، الحنيف هو المائل عن الشِّرك لأن أصل الحَنَف هو المَيل، فحنفاء يعني بعيدين ومائلين عن كل طُرُق الشِّرك إلى طريق الرب -سبحانه وتعالى- وطريق التوحيد، كما كان الشأن في إبراهيم سمَّاه الله -تبارك وتعالى- حنيفًا لأنه ترك كل هذه الطُرُق المائلة؛ ورجع إلى طريق الرب -تبارك وتعالى- واستقام على أمر الله، {حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ}، هذه أشرف الأعمال، ويُقيموها؛ يؤدُّوها على الوجه الأكمل، هذا أمر الله -تبارك وتعالى- للعباد، {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ}، الزكاة هي حق الله -تبارك وتعالى- في المال، يؤتوه؛ يعني في مصارفه كما أمَرَ -تبارك وتعالى-، وهو سُمِّي زكاة لأنها طُهرى، ولأنه زكاة لنفس الفاعل تُزَكِّي نفسه من الشُّح والبُخل؛ وتورِثُه الرحمة، والعطف، والإحسان على مَن أمَرَ الله -تبارك وتعالى- بإخراج المال لهم، فكذلك هو كما طُهرة للمال فهو طُهرة للنفوس، {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ}، ثم قال -جل وعلا- {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}، هذا الدين القويم؛ القيِّم، الذي لا نقص فيه ولا عِوَجَ فيه، أن يُعبَد الله وحده لا شريك له وأن يُقيم الناس الصلاة؛ هذا من أشرف العبادات، ويؤتوا الزكاة، هذا هو الدين القيِّم وهذا هو الذي جاء به محمد -صلوات الله والسلام عليه- ودعاهم إلى الله، هذه دعوة النبي لهم إلى الله -تبارك وتعالى-؛ فلِما يستنكِرونها؟ لِما يستكِرون ذلك؟ فهذه الدعوة هي التي دعى إليها موسى وهي الدعوة التي دعى إليها عيسى -عليه السلام-؛ والكُل مدعوا إلى هذا الدين الذي هكذا يكون هو، فالنبي دعى كل الأمم؛ دعى اليهود، ودعى النصارى، ودعى المُشرِكين إلى هذا الدين القيِّم، {وَمَا أُمِرُوا}، هؤلاء الجميع؛ هو المخالِفون جميعًا من الذين كفوا من أهل الكتاب والمُشرِكين.
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة:5]، فماذا في هذه الدعوة؟ هذا هو الدين القويم؛ وهذا هو الذي دعى إليه هذا النبي الرسول، رسول الله -تبارك وتعالى- وجاء بهذه البيِّنة، {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً}[البينة:2] {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}[البينة:3]، إشادة بهذا الرسول الذي يقرأ صُحُف مُطهَّرة مُنزَلة من الله -تبارك وتعالى- في السماء؛ مكتوبة في السماء، ويقرأها الملائكة في السماء، وجيئَت ليُقرأ بها في الأرض وتهدي إلى صراط الله -تبارك وتعالى-، {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}[البينة:3]، فيها فرائض عظيمة جدًا فرَضَها الله -تبارك وتعالى- على العباد، ثم قال -جل وعلا- {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}[البينة:4]، هذا إنكار على هؤلاء الذي تفرَّقوا قديمًا بعد البيان؛ وتفرَّقوا أيضًا هنا بعد مجيء النبي بهذه البيِّنة -صلوات الله والسلام عليه-، والحال {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة:5].
بعد هذه المُقدِّمة العظيمة جاء هناحُكْم الله -تبارك وتعالى- في المُكذِّبين وكذلك في المؤمنين، بدأ الله -تبارك وتعالى- بأهل التكذيب وما ينتظرهم من الوعيد فقال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}[البينة:6]، هذا حُكْم الله في هؤلاء الكفار، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ}، الذين كفروا من أهل الكتاب؛ يهودًا ونصارى، والمشركين؛ مشركي العرب، كل هؤلاء {فِي نَارِ جَهَنَّمَ}، فيها؛ ظرف لهم، يعني ظرف أنهم في وسط النار، ظرف لأنه جهنم إنما هي كلها نار، هو مُستقَر من نار؛ أرضه، وغطائه، وجُدرانه كلها نار، فهم في هذه النار وليسوا عليها؛ أو حولها، أو يُقاسون من بعيد... لا؛ بل هم في وسط النار، {فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا}، يعني باقين فيها، الخلود هو المُكث الطويل، الخلود في لغة العرب هو المُكث الطويل، والخلود هنا بالنسبة لخلود أهل النار فيها وخلود كذلك أهل الجنة فيها هو البقاء بقاءً سرمديًا أبديًا لا ينقطع؛ وما له نهاية ولا له حَد ينتهي عنده، ولو ملايين السنين والأحقاب الطويلة فليس له حَدٌّ ينتهي عنده ويُقال انتهى عذابكم وانتهت آلامكم... لا؛ بل هم باقون فيها بقاءً لا ينقطع -عياذًا بالله-، {فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا}، قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}، أولئك؛ بإشارة البعيد إليهم تحقيرًا لهم، هُم؛ تأكيد، {شَرُّ الْبَرِيَّةِ}، البَريَّة؛ البرايا وهم الخلائق، يعني شَر ما خلَقَ الله -تبارك وتعالى- من مخلوقات هم هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمُشركين، هؤلاء الكفار والمشركون الذي كفروا برسالة الله -تبارك وتعالى- الناصحة؛ الناصعة، الواضحة، التي هي صُحُفٌ مُطهَّرةٌ في السماء بأيدي الملائكة؛ وصُحُفٌ يتلوها رسول الله -تبارك وتعالى- المُرسَل من الله -تبارك وتعالى-، والتي كتَبَ الله -تبارك وتعالى- فيها على العبادة الكتابة القويمة؛ الدين القيِّم، كل شيء قويم يُقيم الإنسان على الطاعة ويُزَكِّي نفسه، الذي يكفر بهذا خلاص؛ هؤلاء هم شر البَريَّة، هم أهل العذاب في نار جهنم خالدين فيها، قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}، يعني أشر ما خلَقَ الله -تبارك وتعالى- في المخلوقات هم هؤلاء الكفار، {أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}.
بعد هذا الحُكْم ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان فقال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}[البينة:7]، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ........}[البينة:7]، الذين اتصفوا بالإيمان والعمل الصالح، ودائمًا يجمع الله -تبارك وتعالى- بين الإيمان والعمل الصالح لدخول الجنة لأنها مُتلازِمان، فالإيمان ينصرِف إلى عمل القلوب وأركانه سِت؛ الإيمان بالله، وملائكته، وكُتُبِه، ورُسُلِه، واليوم الآخر، والقَدَر خيره وشره من الله -تعالى-، هذه أركان الأيمان، فالإيمان بهذا هو عبارة عن تصديق بالقلب وعمل بمُقتضى هذا التصديق، صدَّقَ بقلبه هذا الغيب وعَمِلَ بمُقتضى هذا التصديق، ومن العمل بالتصديق الخوف من الله -تبارك وتعالى-، لأن الذي يؤمن بأن الله هو الإله القوي؛ القادر، المُطَّلِع عليه، والذي يعرف هذا، والذي يُحاسِب بالذنب ويؤاخِذ به، والذي يُعاقِب عليه، يقوم يتَّقي الله؛ يخاف الله، فإذا لم يخاف الله -تبارك وتعالى- معناه أنه ما آمن، وإن قال أنه مُصدِّق هذا لكنه عَمِلَ بغير ذلك يكون ما عَمِل بمُقتضى التصديق، فمَن لم يخَف الله -تبارك وتعالى- ولا يخاف عقابه لا يمكن أن يكون مؤمنًا، كذلك الرجاء؛ فالخوف، والرجاء، والحب، والإنابة، والخشية، والتعظيم، كلها هذه من أعمال القلوب وهي ثمرة الإيمان؛ هي ثمرة هذا التصديق، ثم بعد ذلك الأعمال الصالحة وهي كل ما أمَرَ الله -تبارك وتعالى- به عباده من الخير؛ وأشرف هذا الصلاة، وأركان الإسلام؛ الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وبِر الوالدين، وصدق الحديث، والجهاد في سبيل الله، كل هذه هي شُعَب الإيمان.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}[البينة:7]، أولئك؛ والإشارة هنا بالبعيد لكن للتعظيم تعظيمًا لهم، خير البَريَّة يعني خير ما برَأَ الله -تبارك وتعالى- من المخلوقات هم أهل الإيمان والعمل الصالح، فهؤلاء خير البرايا لأن المؤمن الصالح هذا أفضل الموجود في الخلْق، كما سُئِلَ النبي -صل الله عليه وسلم- مَن أنفَس الناس؟ فقال أتقاهم، خير الناس أتقاهم، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}[البينة:7]، طبعًا من أهل الإيمان والعمل الصالح أشرف هؤلاء وهو محمد ابن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه-، وقد جاء رجل فقال للنبي يا خير البَريَّة أو يا خير البرايا، فقال له النبي -صل الله عليه وسلم- ذاك إبراهيم -عليه السلام-، وكأن هذا تواضُعًا من النبي -صلوات الله والسلام عليه-، ولا شك أن إبراهيم من خير البرايا لأنه خليل الرحمن، ومحمد خليل الرحمن لكن لا شك بالنظر في ما فضَّلَ الله -تبارك وتعالى- به إبراهيم ومحمد وإن كان من نسل إبراهيم؛ لا شك أنه محمد أفضل من إبراهيم -صلوات الله وسلامه على أنبياء الله ورُسُلِه جميعًا-، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البرايا؛ وخيرهم الخليلان إبراهيم ومحمد -صلوات الله والسلام عليهما-.
ثم قال -جل وعلا- {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}[البينة:8]، جزاؤهم؛ جزاء هؤلاء المؤمنين الذين عمِلوا الصالحات، جزاؤهم اللي هو ما يُعطيهم الله -تبارك وتعالى-، الجزاء؛ ما يُعطى في مُقابِل العمل، ففي مُقابِل إيمانهم وعملهم الصالح هذا جزاؤهم عند الله؛ ما جزاؤهم؟ قال عند ربهم؛ وقوله عند ربهم هذا له دلالات عظيمة، أولًا كونه عند الله فإنه لا يضيع لأن هذا عند الله، ثم أنه عند ربهم كذلك بمعنى أنه ربهم إذن هنا أضافهم الله -تبارك وتعالى- إليه ليكون هذا تكريم، فإذن فلينتظروا الجائزة العُظمى لأنها من ربهم -سبحانه وتعالى-، ثم أخبر الله بأن هذا الجزاء جنات، جنات جمع جنة؛ والجنة هي البستان العظيم، عدن؛ إقامة، يعني جنات يُقيمون فيها إقامة دائمة؛ لا يُسافِرون، ولا يرتحِلون، ولا يموتون، ولا يُخرَجون منها، {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}، من تحتها؛ من تحت أشجارها ومن تحت قصورها، {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}، ماكثين فيها مُكثًا لا ينقطع، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}، رضي الله عنهم؛ هذا من رضا الله -تبارك وتعالى- عنهم، والرضا صفة من صفة الرب -تبارك وتعالى- لائقة بذاته -جل وعلا-، ورضوا عن الله؛ رضوا عنه بما أعطاهم وبما أكرمهم به -سبحانه وتعالى-، من أن وفَّقَهم للعمل الصالح؛ وجزاهم هذا الجزاء الذي هو أكبر وأعظم مما ظنوه، وتخيَّلوه، وتمَنُّوه، قال -جل وعلا- ذلك الجزاء {لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}، لِمَن خاف ربه -سبحانه وتعالى-، والخشية؛ الخوف مع التعظيم، فإن الله -تبارك وتعالى- جعل له هذا الجزاء، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا منهم.
استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.