الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (793) - سورة الزلزلة 1-8

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا}[الزلزلة:1] {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا}[الزلزلة:2] {وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا}[الزلزلة:3] {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}[الزلزلة:4] {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}[الزلزلة:5] {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ}[الزلزلة:6] {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه}[الزلزلة:7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}[الزلزلة:8]، سورة الزلزلة وفيها تذكير الله -تبارك وتعالى- بيوم القيامة وما يكون فيه، يقول -جل وعلا- {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا}[الزلزلة:1]، الزَّلزلة هي الحركة الشديدة، وهذه الحركة الشديدة تكون للجمادات كالأرض والسماوات، {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا}[الطور:9]، وتكون كذلك للنفوس، زلزال النفوس كما في قول الله –تبارك وتعالى- {........ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}[الأحزاب:11]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}[الأحزاب:9] {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}[الأحزاب:10] {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}[الأحزاب:11]، زُلزِلوا بهذا الكَرب والخوف الذي أحاط بهم من كل مكان، فقد أحاط الأعداء بالمدينة وجائوهم من كل مكان؛ قريش، وغَطَفان، وبنوا قُريظة، وأصبح الأمر في غاية الخوف والرعب؛ وظهر أمر النفاق كذلك، وقال بعض المنافقين {........ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا}[الأحزاب:12]، فزلزال نفوس هذا، كما قال -جل وعلا- {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}[البقرة:214]، وزُلزِلوا؛ أي زلزال نفوس وقلوب، يعني تحرَّكَت قلوبهم ونفوسهم لهذا البلاء العظيم الذي أحاط بهم.

الأرض تُزَلزَل قال -جل وعلا- {زِلْزَالَهَا}، زلزالها يعني الذي هو زلزالها، تصبح الزلازل التي مرَّت على الأرض بالنسبة إلى هذا الزلزال وكأنها لا شيء، فإن تلك الزلازل كانت حركة في جزء قليل من الأرض؛ في جبل، أو في قاع محيط، أو في ناحية، أما هذا فزلزالها الذي يُحرِّك كل أجزائها، لا يبقى جزء في الأرض إلى ويتهدَّم ويتحرَّك بهذا، كما وصَفَ الله -تبارك وتعالى- هذا الزلزال العظيم فقال {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13] {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14]، فالأرض كلها بكل ما فيها وما عليها تُدَك دكَّة واحدة، والدَّك هو الهَدم ووقوع الأعلى إلى الأسفل وارتطامه بالأرض، فالله يخبر بأن هذه الأرض ستُحمَل كلها من هذه النفخة؛ تطيش بها في السماء، ثم تُدَك دكَّة واحدة، ثم أن كل ما على الأرض يأتيه التغيير والتبديل؛ فلا البحار هي البحار، ولا الجبال هي الجبال، فالجبال تكون كالعِهن؛ أو كالصوف المنفوش، كما قال -تبارك وتعالى- {........ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ}[القارعة:5]، وهو الصوف الذي تباعدَت أطرافه، وقال {........ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا}[المزمل:14]، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}[طه:105] {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا}[طه:106] {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا}[طه:107]، والبحار تتفجَّر، {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ}[الانفطار:1] {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ}[الانفطار:2] {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ}[الانفطار:3]، هذا في الأرض، {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ}[الانفطار:4]، بُعثِرَت يعني تبعثَرَ وانتشرَ ما في داخلها؛ كل عَظْم وكل ما كان يذهب في ناحية، فالأرض كلها تتزلزل زلزال لا يُبقي فيها شيء على حاله؛ وإنما يتزلزل ويتحرَّك كل ما فيها، فهذا زلزالها الذي هو زلزالها، {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا}[الزلزلة:1]، زلزالها الأعظم والأكبر وهذا يوم القيامة.

ثم قال -جل وعلا- {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا}[الزلزلة:2]، قال أهل العِلم بالتفسير أن أثقالها هي كل ما في بطنها يخرج إلى ظاهرها، ومن هذا الذي كان في باطن الأرض البشر الذي طوَتهُم هذه الأرض في هذه الرحلة الطويلة للإنسان؛ مُنذ وجِد والأر تطوي جيل بعد جيل يذهب إلى باطنها، كل هذا تُخرِجه بعد ذلك، كما قال -جل وعلا- {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ}[الانشقاق:3] {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ}[الانشقاق:4]، {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ}[الانشقاق:3]، بعد أن كانت على شكل هذه الكُرة فإنما تُسطَّح وتُمَد، {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ}[الانشقاق:4]، ألقَت مما فيها بطنها وتخلَّت منهم؛ أو وتخلَّت من المسئولية، كما قال -جل وعلا- {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ}[الانشقاق:1] {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}[الانشقاق:2]، حُقَّ لها أن تسمع لله -تبارك وتعالى-، {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ}[الانشقاق:3] {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا ........}[الانشقاق:4]، أي ما في بطنها، {وَتَخَلَّتْ}، وتخلَّت منهم أو وتخلَّت من المسئولية؛ أنها قد أدت هذه المسئولية التي أُنِيطَت بها وكلَّفها الله -تبارك وتعالى- بها على وجهها الأكمل، فالأرض لا تحجُب شيء ولو كان فيها سِقط صغير وكان في زاوية من زوايا؛ كله تُخرِجُه بعد ذلك.

{وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا}[الزلزلة:2]، والصحيح أن ما حدَّثَ به النبي -صل الله عليه وسلم- أن قبل الساعة فإن الأرض تُخرِج ما في بطنها من الكنوز؛ حتى أنه تُخرِج الذهب كأنه مثل الاسطوان، الاسطوانة هي العمود الكبير من البناء؛ الأرض تلفِظُه إلى خارجها، حتى أن الناس يمشون ومن كثرة ما لفَظَت الأرض من الذهب يضربه الشخص برجله؛ ويقول أفيك يقتتِل كان مَن يقتتل قبلنا؟ يعني في التنافُس على هذا الذهب كان يقتتل مَن كان قبلنا، يعني يصبح الأمر غريبًا عليه بعد أن يصبح الذهب مما قد لفَظَته الأرض على ظاهرها أمور عظيمة، فهذا من علامات الساعة وليس هو الذي يكون في يوم القيامة، فإن يوم القيامة الناس تخرُج إلى أرض بيضاء ليس فيها عَلَمٌ لأحد، أما النفخ الأول في الصور فإنه يصعَق الموجود؛ الذين تقوم عليهم الساعة، وتُخرِج الأرض كل ما في باطنها، لكن ليس في هذا عندما تُخرِج الأرض ما في باطنها وإن كانت تُخرِج ربما يكون فيها معادنُها وغيرها، لكن ليس فيها عند ذلك إنسان يسير على وجهها؛ ويقول أفيك كان يقتتل من كان يقتتل قبلنا؟ {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا}[الزلزلة:2] {وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا}[الزلزلة:3]، قال الإنسان عند رؤية هذا الزلزال العظيم في بدايته قبل أن تأتيه الصعقة فيصعَق، يقول ما لها؛ ماذا دهى الأرض؟ ما الذي لها؟ ماذا دهاها؟ وكانت ثابتة؛ مستقرة، آمنة، تحرَّك كل شيء فيها ونُسِفَ على هذا النحو؛ وفُتِّحَت البحار على بعضها وأسجِرَت نارًا، واشتُعِلَت نارًا؛ فُجِّرَت النيران، ونُسِفَت الجبال نسفًا، فيقول الإنسان ما لها؟ ما الذي دهى هذه الأرض أن يحدث فيها هذا الانقلاب المفاجئ الذي لم يكُن يتوقَّعَه أحد ممَن كان على ظهرها؛ فإن الساعة تفجأ الناس فجأة، {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}، تأتيهم بغتة ولا يكون هناك على ظهر الأرض أن هذا الوقت هو الوقت الذي تقوم فيه الساعة؛ ويكون فيه النفخ في الصور، {وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا}[الزلزلة:3].

قال –جل وعلا- {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}[الزلزلة:4] {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}[الزلزلة:5]، يومئذٍ؛ في يوم القيامة، {........ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}[الزلزلة:4]، يعني تُحدِّث الأرض أخبارها، {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}[الزلزلة:5]، قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- أن كل موضع في الأرض يقول فُعِلَ عليَّ كذا وكذا يوم كذا وكذا، فالأرض تشهد على فاعليها؛ كل بُقعة فيها هي شاهدة على ما وقع عليها من خير وشر، صُنِعَ عليَّ كذا وكذا يوم كذا، تشهد على الذَّكَر وعلى الأُنثى وعلى كل مَن تشهد عليه؛ أنها تشهد عليه يوم القيامة، كما جاء في الحديث «المؤذِّن إلى أذَّن فلا يبقى شاخص في الأرض إلا ويشهد له يوم القيامة»، كل شيء يشهد له يوم القيامة أنه سمِعَ الأذان من فَمِ هذا المؤذِّن؛ وأنه وصَلَه صوته، فالأرض ستُحدِّث أخبارها قال -جل وعلا- {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}[الزلزلة:5]، أوحى لها -سبحانه وتعالى- أن تُحدِّث أخبارها، وكذلك أوحى لها بأن تتزلزل هذا الزلزال في النفخة الأولى في الصور؛ فهذا من وحي الله -تبارك وتعالى-، وأوحى لها وأوحى إليها واحد؛ يعني هذه كهذه، أوحى لها -تبارك وتعالى- بهذا الذي صنعته الأرض وهو زلزالُها، وكذلك أوحى لها بأن تُحدِّث أخبارها -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ}[الزلزلة:6]، يومئذٍ؛ هذا اليوم اللي هو يوم القيامة، يصدُر الناس؛ يعني يخرجون من قبورهم صادرين إلى المحشَر، أشتاتًا؛ أنواع مختلفة، يعني مختلفين؛ كلٌ يذهب إلى شكله وزوجه، فهؤلاء يُسار بهم إلى النار -عياذًا بالله-؛ وهؤلاء يُسار بهم إلى الجنة مع أزواجهم، {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ}[الصافات:22] {مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ}[الصافات:23]، فهذا قِسم، وأما المؤمنون أهل الإيمان فإنهم كذلك يُحشَرون إلى ربهم -سبحانه وتعالى-، {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا}[مريم:85] {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا}[مريم:86]، فالمجرمون؛ فاعلوا الإجرام، يُساقون إلى جهنم بملائكة العذاب، إلى جهنم وِردًا؛ عِطاشًا، وأما أهل الإيمان فإنهم يُجمَعون ويُحشَرون إلى الله -تبارك وتعالى- وفدًا؛ والوفد هو الذي يُكرَم، كما نقول الوفد في الدنيا هو الذي يأتيك وتحتفل به لمهمة عظيمة، فهذا وفد الله -تبارك وتعالى- الوافِدون عليه؛ يعني الآتون عليه -سبحانه وتعالى- على موعِدة منه، فإن الله -تبارك وتعالى- قد وَعَدَهم الجنة؛ ووَعَدَهم بالجزاء الحَسَن، فهذا قِسم، {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا ........}[الزلزلة:6]، مختلفين؛ وفد الرحمن، وحزب الشيطان من المجرمين الذي يُساقون إلى النار سوقًا -عياذًا بالله-.

قال -جل وعلا- {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ}، ليُرَوا أعمالهم بالبناء لِما لم يُسمَّى فاعله؛ يعني ليُري الله -تبارك وتعالى- كل إنسان عمله، يوقَف على عمله؛ والوقوف على عمله أولًا بكتاب أعماله، كلٌ سيؤتى كتاب أعمال المُسجَّل فيه كل ما عَمِل من خير وشر، فالمؤمن يؤتى كتاب عمله بيمينه، والكافر والمنافق يؤتى كتاب عملِه بشِماله من وراء ظهره، ويُقال لكلٍّ {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء:14]، فيرى كل إنسان عمله، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ........}[آل عمران:30]، ثم إن الله -تبارك وتعالى- يُقرِّر كل أحد بعَمَله، فالكفار قد ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- أنهم لهم أحوال كثيرة في تقريرهم بعملهم، منها أنهم يُنكِرون؛ يعني في بعض المواقِف يُنكِرون أنهم عَمِلوا هذه الأعمال، كما قال -تبارك وتعالى- {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}[الأنعام:23]، فيُقسِمون بالله قَسَم أنهم ما كانوا مُشرِكين ولا فعلوا هذا الشِّرك، كما قال -تبارك وتعالى- أيضًا {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}[المجادلة:18]، فيبعَثهم الله -تبارك وتعالى- فيحلِفون لله بالأيمان المُغلَّظة يمين كاذبة أنهم ما فعلوا هذا الذي يُقرَّرون به؛ وأنهم ما شَهِدوه، فيُنكِرون؛ يعني في بعض المواقِف يُنكِروا آلهتهم ويُنكِروا شركائهم، ثم يُقرِّرُهم الله -تبارك وتعالى- بأن يُقيم شواهد على أنفسهم من غيرهم، حتى أن بعضهم يقول لا نقبَل شاهد إلا من أنفسنا، ما نقبل شاهد لا من الملائكة ولا من الأرض إلا من أنفسنا، فالله -تبارك وتعالى- يُشهِد عليهم أعضائهم، كما قال -تبارك وتعالى- {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ}[فصلت:22] {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[فصلت:23]، فما كان يظُن الكافر وهو يعمل العمل مُستَتِرًا به كما كان في كفار قريش يقولون أرأيت إن عمِلنا عملًا أيطَّلِع الله -عز وجل-؛ أيعرِفَه الله؟ فالله إذا عمِلنا في الجهر عَلِمَه؛ وإذا عمِلنا في السر لم يعلَمَه، فكانوا يستَتِرون لأنهم يظنون أن الله -تبارك وتعالى- لا يعلم أعمالهم لذلك لا يُحاسِبُهم عليها، فالله قال لهم {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ}[فصلت:22] {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[فصلت:23].

فالكفار لهم مواقف عظيمة من تناقُضهِم، وجهلهم، وعنادهم؛ وبعضهم طبعًا يستسلِموا، عندما يوقُف على عمله بعضهم يقولون {........ رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ}[النحل:86] {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[النحل:87]، فكل أحدٍ سيوقِفه الله -تبارك وتعالى- على عمله ويُقرِّره به، فالكافر يُقرَّر بعمله تمامًا بعد ذلك في النهاية يُقِر به وإذا كان قبل ذلك يُنكِره؛ ويظل في الإنكار إلى أن ينهار بعد ذلك، فعترف بأن هذا نعم؛ قد وقع منه الكُفر، ووقع منه الشِّرك، ووقع منه ما وقع بعد أن يشهَد عليه مَن حوله وتشهَد عليه نفسه، حتى إن الكافر يقول لأعضائه عنكُنَّ كنت أُجادِل، فتقول هذه الأعضاء {أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}، والمؤمن كذلك يُبعَث ليُريَه الله -تبارك وتعالى- عمله، فأما أهل الإيمان من أهل الدرجات العُلا فإن أعمالهم تُعرَض عرضًا ولا يُناقَش الحساب، كما قال -صل الله عليه وسلم- «مَن نوقِشَ الحساب عُذِّب، فقالت عائشة يا رسول الله أوليس يقول الله –تبارك وتعالى- {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ}[الانشقاق:7] {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}[الانشقاق:8] {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا}[الانشقاق:9]، قال إنما ذلك العرض؛ مَن نوقِشَ الحساب عُذِّب»، فأهل الإيمان تُعرَض أعمالهم عرضًا، وفي هذا العرض طبعًا يستبشِر المؤمن الصالح بعمله الذي عَمِل ويفرح أشد الفرَح، يُعرَض على الله -تبارك وتعالى- ثم يُجاز إلى الجنة، «أدخِل مَن لا حساب عليه من أُمَّتِك»، مَن لا حساب عليهم هؤلاء السبعين ألف الذي يدخلون الجنة بغير حساب، يقول الله -تبارك وتعالى- لرسوله «أدخِل مَن لا حساب عليه من أُمَّتِك»، هؤلاء لا يُناقَشون الحساب ولا يسبِق لهم عذاب قبل دخول الجنة، «أدخِل مَن لا حساب عليه من أُمَّتِك من الباب الأيمن في الجنة؛ وهم شركاء الناس في ما سوى ذلك من الأبواب»، وهناك مَن يُسأل عن عمله وقد يُحاسَب بشيء من العذاب قبل أن يدخل الجنة من أهل الإيمان؛ عذاب في الموقِف، عذاب في النار للذين يتساقطون من على الصراط، الله -تبارك وتعالى- سيبعَث العباد ليُريَهُم أعمالهم؛ ليوقِف كل إنسان على عمله، {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ}[الزلزلة:6]، ليُري الله -تبارك وتعالى- كل إنسان عمله، وطبعًا إذا رأى عمله وعَرَف ما فيه؛ عَرَف المجرم إجرامه، وعَرَف المؤمن الصالح صلاحه، وتقواه، وإيمانه؛ واستبشَر بذلك، وأما هذا فاغتَم بذلك، فإن كل أحد سيلقى جزاء عمله.

قال -جل وعلا- {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه}[الزلزلة:7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}[الزلزلة:8]، هذا الحساب عند الله، هذه قاعدة الحساب عند الرب -سبحانه وتعالى- أن مَن يعمل مثقال ذرَّة من خير فإنه يراه، الموازين لله -تبارك وتعالى-، وتقدير مدى هذا العمل في ميزان الرب -تبارك وتعالى- هذا إلى الله -جل وعلا-، ومثقال الذرَّة من الخير ينال صاحبها أجرها عند الله لا يُضيعُها، {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:40]، لذلك قال النبي -صل الله عليه وسلم- وهو يحُث أُمته على ألا يحقِروا من المعروف شيئًا «لا تحقِر من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلْق»، يعني أي معروف لا تحقِرُه؛ لا تحتقِرَه لأن له أجر عند الله وله مثوبة، ولو أن تلقى أخاك؛ يعني المسلم، بوجه طَلْق؛ يعني ليس فيه عُبوس، فإذا قابلت أخاك المُسلِم بوجه لا عُبوس فيه؛ يعني تلقاه ببِشْر وترحاب، فلكَ بهذا أجر عند الله -تبارك وتعالى-، ثم بعد ذلك كل عمل من الأعمال له حسنته، فالسلام له حسنته؛ قال السلام عليكم عشر حسنات، ورحمة الله عشرون، وبركاته ثلاثون، تسبيح الله -تبارك وتعالى- أن يُسَبِّح الإنسان ربه -جل وعلا- عمل قليل ولكن هذا ثقيل في الميزان، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «الطهور شِطر الإيمان»، عِلمًا أن الطهور نظافة؛ يعني هو نظافة، وفوائده في الدنيا محسوسة؛ ملموسة، فتطهير الأطراف بالماء؛ تطهير الفَم والأنف، وغسل الوجه، وغسل هذه الأطراف، الاغتسال، كل هذه طهارة ونظافة، وفائدته الدنيوية فائدة معلومة ومحسوسة؛ ويحرِص عليها كل مَن له حِرص على صحته وعلى دُنياه، ولكن العبد المسلم مأجور عليها، هذه يقول الرسول عليها نصف الإيمان، كما قال -صلوات الله والسلام عليه- «إذا توضَّأ العبد المؤمن فغسل يديه خرجَت خطاياه مع الماء؛ أو مع قَطر الماء، أو ما آخر قَطر الماء، حتى تخرُج من تحت أظفاره، فإذا تمضمَضَ خرجَت كل خطيئة أخطأها فَمَه مع الماء»، تخرُج الخطايا مع الماء أو مع آخر قَطر الماء، وهكذا قال النبي -صل الله عليه وسلم- إلى رجليه، إذا غسل رجليه وسار كل خطيئة أخطأتها رجله بأن سار إلى طريقٍ خاطئ فإنها تخرُج مع الماء أو ما آخر قَطر الماء، فهذا وضوء؛ وهو طهارة، وهو أمر مُحبَّب، وهو يحرص عليه كل مَن له عناية بنفسه، لكنه فيه أجر وثواب عند الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال النبي «وسبحان الله والحمد لله تملأن ما بين السماء والأرض»، سبحان الله والحمد لله كلمتان خفيفتان على اللسان، كما قال النبي «كلمتان خفيفتان على اللسان؛ ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم»، فهو عمل من حيث العمل والجُهد قليل لكن من حيث الأجر والمثوبة عند الله -تبارك وتعالى- عظيم، وقول الله تملأ الميزان؛ تملأ ميزان المؤمن حسنات، وهنا لمَّا أراد النبي -صل الله عليه وسلم- أن يُصوِّر كفَّة الميزان قال تملأن ما بين السماء والأرض حسنات عندما يقول العبد سبحان الله والحمد لله، فذرَّة الخير مكتوبة عند الله -تبارك وتعالى-، ومن ذرَّة الخير النيَّة الحسنة؛ يعني جعل كذلك النيَّة هي من الخير الذي يُحاسَب عليه العبد، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «إن الله كتَبَ الحسنات والسيئات، فمَن همَّ بحسنة فلم يعملها قال الله -تبارك وتعالى- اكتبوها له حسنة كاملة، فإن عمِلَها كُتِبَت عشر حسنات»، فمُجرَّد الهَم والعَزم على عمل شيء من الخير فهو خير ويؤجَر عليه العبد من الله -سبحانه وتعالى-، الشاهد أن الله -تبارك وتعالى- قال {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه}[الزلزلة:7]، مثقال ذرَّة؛ وزن الذرَّة، والذرَّة هي النملة الصغيرة، خيرًا؛ من الخير، يَرَه؛ ويَرَه بالجزم فلابد أن يراه، ويَرَه إذا رآه مكتوبًا قد كتَبَه الله -تبارك وتعالى-؛ ودوَّنه، وسجَّلَه له، وكذلك محسوبًا عنده -سبحانه وتعالى- أنه مأجور عليه؛ أن هذا العبد مأجور على هذا، وقد يكون عمل قليل لكن يُبارِك الله -تبارك وتعالى- فيه فيجعله كثيرًا؛ يكون هذا سبب دخوله الجنة، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «إن رجلًا كان يسير في الطريق فرأى غُصنًا من شوك فقال لأقطعنَّ هذا عن طريق المسلمين، فنزَلَ فقطَعَه فنحَّاه فشكَرَ الله له فغفَرَ له»، غفَرَ له بهذا العمل، وقد جاء بأن «الرجل ليتكلَّم بالكلمة من رضوان الله -تعالى- لا يُلقي لها بالًا فيرفعه الله في الجنة ما بين السماء والأرض»، هذه رِفعَة؛ ورِفعة في درجات الجنة، فقط تكلَّم كلمة من رضوان الله -تعالى- لا يُلقي لها بالًا؛ يعني لا يظُن أنها تبلُغ في الخير هذا المبلَغ، وتبلُغ عند الله -تبارك وتعالى- هذه الدرجة، لكن يعلوا بها العبد على هذا النحو عند الله -تبارك وتعالى-، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه}[الزلزلة:7].

وكذلك بالمُقابِل قال -جل وعلا- {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}[الزلزلة:8]، فالحساب كذلك بمثقال الذرَّة للشر، فإن الغمزة، واللمزة، همزة، واحد غَمَزَ؛ لَمَزَ، خائنة الأعين؛ نظر نظرة، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر:19]، ويُحاسَب عليها، {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}[الهمزة:1] {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ}[الهمزة:2] {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}[الهمزة:3]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ........}[الحجرات:11]، فنهى عن السُّخرية؛ وقد تكون هذه السُّخرية بالكلام، وقد تكون بالإشارة، وقال -جل وعلا- {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ}، فمُجرَّد إعطاء لقب بالذَّم لأحدٍ أخر نبَذَه به فهذا محسوب ومكتوب، فكلمة غِيبة وكلمة نميمة «لا يدخل الجنة نمَّام، لا يدخل الجنة قاطع»، الغِيبة جاء فيها هذا الوعيد الشديد {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ}، «قالوا يا رسول الله إن كان في أخي ما أقول؟ قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتَبتَه»، يعني إذا تكلَّمت بعيبه من وراء ظهره وإن كان هذا العَيب فيه وأنت صادق، «وإن لم يكُن فيه ما تقول فقد بهَتَه؛ والبُهتان أعظم»، فكل الحساب عند الله -تبارك وتعالى- بمثقال الذرَّة، وقد يكون هناك ذنب يظُنُّه الناس صغيرًا وهو عند الله كبيرًا لا يُفوَّت، كما جاء في الحديث «ثلاثة لا يُكلِّمُهم الله؛ ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يُزَكِّيهم، ولهم عذاب أليم»، وجاء في بعضها أنها من مُحقِّرات الذنوب كما قال «رجلٌ يُنفِّق سلعَته بالحَلِف الكاذب، أو رجلُ يحلِف على يمين صبر هو فيها كاذب ليقتَطِعَ بها حق امرئٍ مسلم لَقيَ الله وهو عليه غضبان»، وهذا قد يكون فقط أراد أن يأكل دينارًا من هذا اليمين، فهذه الآية كما قال النبي آيةٌ فاذَّة جامعة، «أُنزِلَت عليَّ هذه الآية الفاذَّة الجامعة في عمل الخير والشر، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه}[الزلزلة:7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}[الزلزلة:8]».

استغفر الله العظيم، وأُصلِّي في الختام على نبيه الكريم، والحمد لله رب العالمين.