الإثنين 21 شوّال 1445 . 29 أبريل 2024

الحلقة (794) - سورة العاديات وسورة القارعة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا}[العاديات:1] {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا}[العاديات:2] {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا}[العاديات:3] {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا}[العاديات:4] {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا}[العاديات:5] {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ}[العاديات:6] {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ}[العاديات:7] {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}[العاديات:8] {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ}[العاديات:9] {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}[العاديات:10] {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}[العاديات:11]، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة؛ سورة العاديات، بهذه الأقسام المُتتابِعة فيقول -جل وعلا- {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا}[العاديات:1]، العاديات؛ الخيل العاديات من الجري، ضبحًا؛ صوت الخيل، عند الجري تُخرِج هذا الصوت الذي هو من تسارُع النفَس عند جريها، وهذا قَسَم بأولًا شيء يُحِبه الله -تبارك وتعالى- وهو الخيل المُجاهِدة في سبيله -جل وعلا-، فإجراء الخيل وعَدوها في سبيل الله مما يحبه الله -تبارك وتعالى-، هذه من الأعمال الجليلة التي يحبها الله -تبارك وتعالى- فالله يُقسِم بها -جل وعلا-، ثم الخيل آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، والمجاهِدون الذي يُجاهِدون في سبيل الله -تبارك وتعالى- على ظهور الخيل هم في ذواتهم آية من آيات الله -تبارك وتعالى-؛ وكذلك هم عباد الله -تبارك وتعالى- المحبوبون عنده، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ}[الصف:4].

{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا}[العاديات:1] {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا}[العاديات:2]، الموريات؛ توري الخيل إذا ركضَت بحوافِرها على الحجر فإنها مع الاحتكاك تُرسِل الشَّرَر بمعنى توريه، قَدْح؛ قَدْح النار بحوافرها، إذا كانت هذه الحوافِر محدوَّة بالحديد ثم جائت إلى الأحجار فإنها توري النار بعد ذلك في جريانها، صورة من صور الإبداع وصور القوة، وصورة خيل تعدوا في سبيل الله -تبارك وتعالى-؛ تعدوا ضبحًا، وتوري النار في جريانها قَدْحًا، ثم قال -جل وعلا- {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا}[العاديات:3]، الإغارة؛ الهجوم، صُبحًا؛ على القوم، والغارة في الصباح هذا هو وقت المفاجأة والنصر، وقد كان من سُنَّة النبي -صلوات الله والسلام عليه- أنه لا يُغير إلا بعد الفجر؛ بعد صلاة الصبح، كانت ينتظر إذا أراد أن يغزوا قومًا فإنه ينتظر خارج قُراهم حتى إذا سَمِعَ أذانًا كَف؛ وإذا لم يسمع أذانًا أغار -صلوات الله والسلام عليه-، وقال النبي -صل الله عليه وسلم- «إنا إذا نزلنا بساحة قومٍ فساء صباح المُنذَرين»، فساء صباح المُنذَرين لأن هذا الصُبح الذي يأتيهم كما فاجأ النبي -صل الله عليه وسلم- أهل خيبر في الصبح، وكان وهو يدفع بزُقاق خيبر قال هذه المقالة «إنا إذا نزلنا بساحة قومٍ فساء صباح المُنذَرين»، الوقت الذي هو أمكَن الوقت للقتال، وقد جاء في كلام خالد ابن الوليد -رضي الله تعالى عنه- "ما ليلة تُزَف إليَّ فيها عروس أنا لها راغب وأُحِبها بأحب عندي من ليلة شاتية باردة معي جماعة من المُهاجِرين نُصبِّح فيها العدو"، نُصبِّح فيها العدو يعني غزوًا في سبيل الله، يعني أن هذا أحب إليه من ليلة هانئة مع عروس في مخدعها، {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا}[العاديات:3].

قال -جل وعلا- {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا}[العاديات:4]، أثَرنَ؛ الإثارة هي إخراج الغُبار، النَّقْع؛ الغُبار، {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا}[العاديات:4]، عدو الخيل وجريانها على هذا النحو؛ وهجومها في الصباح تُثير النَّقع في ساحة القوم، {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا}[العاديات:4] {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا}[العاديات:5]، وسطنا به جمع؛ جمع الكفار، لتُقاتِل هذه القوة المُهاجِمة باسم الله -تبارك وتعالى- على خيلها تتوسَّط الكفار في صبيحة اليوم، {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا}[العاديات:5]، هذه الأقسام التي يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بها صورة من صور الجهاد بالخيل، ما أقسَمَ الله -تبارك وتعالى- بها هذا القَسَم إلا وهي صورة يُحِبُها الله -تبارك وتعالى- من عباده المؤمنين، وكأن هذا حَثٌّ لهم أن يكون جهادهم في سبيل الله على هذه الصورة، وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا}[العاديات:1] {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا}[العاديات:2] {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا}[العاديات:3] {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا}[العاديات:4] {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا}[العاديات:5].

ثم جاء المُقسَم عليه فقال -جل وعلا- {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ}[العاديات:6]، الإنسان؛ الكافر، لرب -سبحانه وتعالى؛ لخالقه، ومُدبِّر أمره، وسيده، وهو الإله وهو المولى -سبحانه وتعالى-، لكنود؛ الكَنود هو البخيل الجَحود، جاحد النِعمة وجاحد الإنسان، فالله -تبارك وتعالى- المُحسِن على عباده -سبحانه وتعالى-؛ المُمتَن عليهم بكل صنوف النِعَم، فما بالعباد من نعمة إلا منه -سبحانه وتعالى-، لكن الإنسان الكافر كنود؛ جحود، يُشرِك به -سبحانه وتعالى-، يوَلِّي ظهره لكلام الرب -جل وعلا-، يُقبِل على لهوه وفساده؛ ويشِح ويضِن بنفسه وماله في سبيل الله -تبارك وتعالى-، في سبيل الله الذي خلَقَه -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ}[العاديات:6]، وقوله لربه هنا لربه الذي خلَقَه، وسوَّاه، وعدَّلَه، وأنعم عليه، وتفضَّلَ عليه، ولكنه جَحود؛ بخيل، ثم قال -جل وعلا- {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ}[العاديات:7]، وإنه؛ أي هذا الإنسان، {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ}[العاديات:7]، الشهادة إما أن تكون شهادة لسان أو شهادة حال، فشهادة لسان؛ الكفار شهِدوا بألسنتهم على كُفره، وجحودهم، وعنادهم، وقد قالوا ما قالوا من كلمات الكُفر في الله -تبارك وتعالى-؛ واعتقدوا هذا، وجحدوا أمره، وهاجموا رُسُلَه، وتنكَّبوا طريق الله -تبارك وتعالى-، وكذلك شهادة الحال مع شهادة المقالة، وشهادة الحال أن يكون الإنسان بحاله وقيامه كنود لله -تبارك وتعالى- فلا يقوم بحقِّه؛ وإنما هو في معاصي الرب -تبارك وتعالى-، فالكافر في قيامه بعمله شاهدٌ بعمله على جحوده؛ وعلى نُكرانه، وعلى بُعْدِه عن الله -تبارك وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ ........}[التوبة:17]، شاهدين على أنفسهم بالكُفر شهادة حال، فإن شهادة حالهم هي عكوفهم على الإصنام؛ قيامهم لها، عبادتهم لغير الله -تبارك وتعالى-، إعراضهم عن دين الله -تبارك وتعالى-، كل هذا بشهادة الحال، كما أنهم بشهادة المقال شاهدين على أنفسهم بالكُفر، عندما تلفَّظوا وقالوا بكلمات الكُفر فهذه شهادة باللسان أنهم كفروا، لا يقولوا أنهم هم كفار لكن عندما يشهدوا شهادة الباطل ويقولوا الكُفر والشِّرك بألسنتهم فهم شاهدين بألسنتهم أنهم كفار، {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ}[العاديات:7]، هذا الإنسان على ذلك الجحود والكنود لشهيد.

{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}[العاديات:8]، وإنه؛ أي هذا الإنسان الكافر، حُب الخير؛ الخير كله، شديد؛ هو شديد لحب هذا الخير، خير الدنيا من شهواتها، وملذَّاتها، وأموالها، فهو حريص عليه ومُحِب له والحال أن هذا الخير هو خير الله -تبارك وتعالى-؛ وهو عطائه، وفضله، ومَنُّه -سبحانه وتعالى-، فانظر حالة هذا الإنسان في جحوده، وكفره، وشِركه بالله -تبارك وتعالى-، وانظر محبته للخير الذي هو خلْق الله وعطائه -سبحانه وتعالى-.

ثم ندَّدَ الله -تبارك وتعالى- به ووعظ هذا الإنسان فقال {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ}[العاديات:9] {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}[العاديات:10] {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}[العاديات:11]، يعني أفلا يعلم هذا الإنسان إذا بُعثِرَ ما في القبور، البعثرة هي النثر والتفريق، والقبور يُبعثَر ما فيها من الجُثَث، والعظام، وكل ما كان فيها بالنفخة الأولى في الصور، فإن النفخ الأول في الصور يُزلزِل الأرض كلها؛ وتُخرِج الأرض أثقالها، وتنثُر ما عليها، ويختلط بحرها ببرِّها؛ جبالها بأرضِها، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13] {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14] {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الحاقة:15] {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}[الحاقة:16]، فهذا النفخ الأول في الصور يُزَلزِل الأرض زلزالًا كاملًا؛ ومن هذا الزلزال الكامل أن ما في القبور يُبعثَر، {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ}[العاديات:9]، الهَول الأعظم والزلزال الأعظم، ثم بعد ذلك في النفخة الثانية يقوم الناس لرب العالمين -سبحانه وتعالى-، {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}[العاديات:10]، يوم القيامة، وتحصيله؛ إخراجه، كل ما كان في الصدر يُخرِجُه، والذي في الصدر؛ كل ما خزَنَه الإنسان من عقائده، من أفكاره، من اعتقاداته، كل هذا يُخرَج وذلك أنه يُحاسَب عليه؛ يعني هذا يُحاسَب الإنسان عليه، {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}[العاديات:10]، كما قال -تبارك وتعالى- {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}[الطارق:9] {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ}[الطارق:10]، فما له؛ للإنسان الكافر، من قوة؛ تحميه من غضب الله وعقابه، ولا ناصر؛ ينصره، لا قوة من نفسه ولا ناصر من غيره ينصُرُه، فهذا وعْظ من الله -تبارك وتعالى- لهذا الإنسان الكافر وتذكيرٌ له بيوم القيامة الذي يكون في هذا اليوم لا حول له ولا قوة؛ وأن كل هذا الموجود من هذه السماوات والأرض يتأثَّر بهذا اليوم، ويُبعثَر ما في القبر، ويُخرَج الناس لرب العالمين -سبحانه وتعالى-، ويُحاسَب كل أحد على ما قدَّم، ومن الحساب أن ما أخفاه في قلبه يُخرَج، فليس الحساب فقط على ما ظهَرَ على الجوارح بل كذلك ما أُخفيَ في القلب، كما قال -جل وعلا- {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:284].

فهؤلاء الذي أخفوا ما أخفوا في قلوبهم يُخرِجه الله -تبارك وتعالى- ويُحاسِب عليه، {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}[العاديات:10]، حساب عام لكل ما عَمِلَه الإنسان وبالذَّات ما كان يُخفيه في قلبه؛ ذات الصدر، {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[الملك:13]، فهذا الذي كان في الصدر من هذه الأسرار الدفينة يُحصَّل؛ يُخرَج كله ويُنزَع من صدر صاحبه ليُحاسَب عليه، قال -جل وعلا- {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}[العاديات:11]، إن ربهم؛ خالقهم الذي خلَقَهم وسوَّاهم، والذي يدعوهم -سبحانه وتعالى- إليه، بهِم؛ بهؤلاء الخلْق جميعًا، يومئذٍ؛ في هذا اليوم العظيم يوم القيامة، {لَخَبِيرٌ}، الخبرة؛ العِلم الخَفي، يعني قد كان عليمًا بكل خفاياهم -سبحانه وتعالى- وبكل ما يُخفُونَه، وبالتالي سيُحاسِبُهم على كل ما قدَّمَت أيديهُم وكل ما فعلوا، موعظة عظيمة من الله -تبارك وتعالى- للإنسان بعد أن ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة أولًا صورة من صور الجهاد في سبيله على ظهور الخيل؛ وهذه صورة يُحِبُّها الله -تبارك وتعالى-، ثم ذكَرَ الصورة المُقابِلة بالنسبة للإنسان الكافر، {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا}[العاديات:1] {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا}[العاديات:2] {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا}[العاديات:3] {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا}[العاديات:4] {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا}[العاديات:5]، أحوال أهل الإيمان على خيلهم هذا الشيء الذي يُحِبه الله -تبارك وتعالى- من الجهاد في سبيله، ثم صورة الكُفر والعِناد؛ صورة الإنسان الكافر، {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ}[العاديات:6] {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ}[العاديات:7] {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}[العاديات:8] {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ}[العاديات:9] {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}[العاديات:10] {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}[العاديات:11].

السورة التي تلي سورة العاديات هي سورة القارعة، يقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {الْقَارِعَةُ}[القارعة:1] {مَا الْقَارِعَةُ}[القارعة:2] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}[القارعة:3] {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ}[القارعة:4] {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ}[القارعة:5] {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}[القارعة:6] {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}[القارعة:7] {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ}[القارعة:8] {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}[القارعة:9] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ}[القارعة:10] {نَارٌ حَامِيَةٌ}[القارعة:11]، {الْقَارِعَةُ}[القارعة:1]، هذا اسم من أسماء يوم القيامة، وهذا الاسم يحمل صفة من صفات هذا اليوم العظيم؛ يوم القيامة، القارعة لأنها تقرَع قلوب الناس بزلزالها العظيم وشدتها الكبيرة، فهذا يوم الفَزَع الأكبر؛ لا أكبر من هذا الفَزَع، فَزَع الناس من قبورهم ليواجِهوا هذه الحقيقة الكبرى؛ يواجِهوا أنهم قاموا ليوم الحساب، يعني ليفصِل الله -تبارك وتعالى- فصل القضاء؛ وأن المؤدى بعد ذلك إما إلى الجنة وإما إلى النار، هناك ظروف وهناك أحوال تختلف عما كانت عليه الدنيا قط؛ فهم يقومون على أرض واحدة ليس فيها عَلَمٌ لأحد، ينفُذُهم البصَر ويُسمِعُهُم الدَّاعي، تدنوا الشمس من الرؤوس حتى تكون قَدْر ميل، يخرُج الناس من قبورهم على الحالة التي خُلِقوا عليها؛ عُراة، حُفاةً، غُرلًا، أهوال تنتظرهم؛ أهوال عظيمة، فهي تقرَعَهم، {الْقَارِعَةُ}[القارعة:1]، القارعة للقلوب، والقارعة للناس، كأنها تقرَعَهم قَرْع بشدة؛ قرع على قلوبهم، وقرع على رؤوسِهم، الداهية العُظمى هذه؛ الطَّامة الكبرى، {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى}[النازعات:34]، الطَّامة؛ المُصيبة العظيمة التي تَطُم، الغاشية {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}[الغاشية:1]، فهي تغشى الناس كلهم؛ تُغطِّيهم كلهم بهَولها وعظَمَتِها، فهذه الأسماء أسماء يوم القيامة؛ الطَّامة، والصَّاغة، والقارعة، والواقعة، كلها أسماء يوم القيامة؛ وكل اسم يُبيِّن صفة من صفات هذا اليوم العظيم، {الْقَارِعَةُ}[القارعة:1].

ثم قال -جل وعلا- {مَا الْقَارِعَةُ}[القارعة:2]، للتهويل والتعظيم؛ تهويل الأمر وتعظيمه، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}[القارعة:3]، وما أدراك هذا أسلوب تجهيل لتهويل الأمر، وتعظيمه، وتفخيمه، أنه أكبر من كل تصوُّر وأعظم مما يُتخيَّل، وما أدراك أيها المُخاطَب ما القارعة؟ والجواب أنها أمرٌ عظيم وهَول كبير لا أكبر منه ولا أعظم منه، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}[القارعة:3]، ثم ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- من أحوال هذا اليوم فقال –جل وعلا- {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ}[القارعة:4]، في هذا اليوم؛ يوم القارعة، يكون الناس؛ كل الناس، كالفراش؛ هذا الدَّبى الصغير اللي هو بدايات الجراد ونحوه، أو الفراش؛ هذه الحشرات، المبثوث؛ المنتشِر في كل جنبات الأرض، شبَّه الله -تبارك وتعالى- انتشار الناس في ساحة يوم القيامة؛ في عرَصات يوم القيامة، كأنهم جراد كما قال -جل وعلا- {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ}، وقال هنا {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ}، يعني المُنتشِر في كل ناحية من النواحي، {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ}[القارعة:5]، الجبال؛ هذه الصُّم العظيمة الشامِخة الصلبة لكنها تكون كالعِهن، العِهن؛ الصوف، المنفوش؛ يعني الذي تباعَدَت خيوطه وشعراته بعضها عن بعض، وهذه صورة مما تكون عليه الجبال وحالة من حالاتها، فالجبال أخبر -سبحانه وتعالى- بأنها تمُر بمراحل؛ أول شيء {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}[طه:105] {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا}[طه:106] {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا}[طه:107]، تُنسَف نسف ثم تُرفَع من أماكِنها رفع؛ هذه واحدة، ثم قال -تبارك وتعالى- {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا}[المزمل:14]، ترجُف الأرض؛ الرجفة اللي هي الزلزلة الشديدة، الأرض كلها والجبال ترجُف، ثم تكون الجبال كالكثيب المَهيل، الكثيب هو جبل الرمل، المَهيل؛ الذي يهيل بعضه على بعض فمُجرَّد ما يتحرَّك يسيل الرمل من جانب إلى جانب من دقة حبَّات الرمل التي فيه، فتكون الجبال كالكثيب المَهيل، ثم بعد ذلك تتحوَّل هذه الجبال التي أصبحَت قد فُتِّتَت وأصبحت كالكثيب المَهيل إلى أن تتوسَّع ذرَّاتُها وتكون كالصوف المنفوش، ثم يذروها الله -تبارك وتعالى- حيث شاء أن يذروها، وقد فُسِّرَ قول الله -تبارك وتعالى- {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا}[طه:105] {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا}[طه:106] {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا}[طه:107]، وقول الله -تبارك وتعالى- {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}[النمل:88]، فهذا حال الجبال؛ هذا يومٌ يجعل الجبال على هذا النحو، الجبال الصُّم الشامخة القوية لكنها تكون في هذا اليوم كالعِهن المنفوشز

ثم قال -جل وعلا- {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}[القارعة:6] {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}[القارعة:7]، هذه أحوال الناس في المحشَر ثم بعد ذلك المآل والمصير، الناس هناك سيتحوَّلون إلى قِسمَين لا ثالث لهما، {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}[القارعة:6]، موازينه؛ الذي يوزَن يوم القيامة إنما هي أعمالهم، وحسناتهم، وسيئاتهم، الله -تبارك وتعالى- جعل للحسنات مثاقيل وموازين؛ وللسيئات كذلك مثاقيل وموازين، فالذي ترجُح حسناته على سيئاته {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}[القارعة:6]، في هذا الميزان، وهذا لا شك أنه أمر حقيقي وليس صورة تخيلية، كما يقول مَن يقول من الذين حكَّموا عقولهم في النصوص وأوَّلوها التأويل الذي يُناسِب عقولهم، يجب حَمْل كلام الله -تبارك وتعالى- على الحقيقة والظاهر منه؛ وأن هناك ميزان حقيقي، وقد جاء ذِكْر هذا الميزان في آيات كثيرة كقول الله -تبارك وتعالى- {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:8] {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ}[الأعراف:9]، وجاء أيضًا من الأحاديث النبوية ما يُبيِّن هذا؛ وأن الحسنات توضَع في كِفَّة من هذا الميزان، والسيئات توضَع في كِفَّة من هذا الميزان، وأن مَن رجَحَت حسناته هذا كان مآله إلى الجنة، وأما مَن رجَحَت سيئاته على حسناته فيكون مآله إلى النار -عياذًا بالله-.

{فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}[القارعة:6] {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}[القارعة:7]، ها دول أهل الإيمان الذي زادت حسناتهم على سيئاتهم، عيشة راضية؛ عيشة الجنة، راضية لأن كل شيء فيها مَرضِي، المُنعَّم يرضى عنه؛ يرضى عن ما أعطاه الله -تبارك وتعالى-، ما في شيء يُتسخَّط في الآخرة؛ يعني لا يسخط شيئًا، لا يسخَط موقِعًا لجنته، ولا ثمرة في بستانه، ولا آفة من الآفات، ليس هناك آفة من الآفات في الجنة ولا نقص؛ أن يُتَصوَّر أن إنسان ينقُصُه شيء أو يحتاج إلى شيء، فالعيشة كلها مَرضِيَّة، فالجنة هي غاية الحبور والسرور بزروعها، وثمارها، وأنهارها، وقصورها، ونسائها، وبهجتها، وجمالها، وسرور وحبور أهلها؛ واجتماعهم كلهم، {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا}[الواقعة:25] {إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا}[الواقعة:26]، ليس فيها خصومة بين اثنين؛ ما في خصومة، ولا جدال، ولا تلاسُن، ولا سِباب، ولا شتائم بين اثنين قط، بل ما في إحنة قلب؛ بل ما في أي إحنة في القلب، الله يقول {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}[الحجر:47]، لا يَحسُد أحدٌ منهم الأخر في ما أعطاه الله -تبارك وتعالى-، وإن كان الله قد فضَّلَ بعضهم على بعض درجات عظيمة لكن لا حسَدَ فيها، ولا غمَّ فيها، ولا هَمَّ فيها، ولا وصَب، ولا مُعالجَة، فهي عيشة راضية؛ راضية بكل معاني الرِّضا، نفس العيشة راضية، ونُسِبَ الرِّضا إلى العيشة والمقصود طبعًا رِضا أهلها؛ أن كل ما فيها مَرضِي عند أهلها، {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}[القارعة:6] {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}[القارعة:7]، عيشة الجنة وهي الحياة الحقيقية، هي الحياة الحقيقية كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة»، إذا كان هناك عيش حقيقي ...، الدنيا ليست عيش؛ الدنيا ممَر زائل، وعيشة مُنغَّصة بكل معاني التنغيص، مع ما فيها من النِعَم لكنها مخلوطة بالمُنغِّصات، فلا عيش حقيقي إلا عيش الآخرة، {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}[القارعة:7].

ثم قال -جل وعلا- {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ}[القارعة:8]، أن حسناته كانت أقل من سيئاته؛ ثقُلَت موازين سيئاته، {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ}[القارعة:8] {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}[القارعة:9]، أمه؛ رأسه، لأن الأُم هي الإصل؛ وأصل الإنسان الرأس، وأمه هاوية يعني إذا سقَطَ المُعذَّب في النار فإنه يسقُط برأسه أولًا، {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}[القارعة:9]، يعني رأسه هاوية، والهُوِي هو السقوط من أعلى إلى أسفل؛ وذلك أن النار بمثابة البئر العميقة، لها شفير من فوقها ويُدَع فيها؛ يعني يُدفَع فيها أهلها -عياذًا بالله-، يُدفَعون فيها ثم يتساقطون؛ يتساقطون برؤوسهم، وقد أخبر النبي -صلوات الله والسلام عليه- أنها بعيدة القَعر؛ قَعرها بعيد، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «سَمِعَ الصحابة وجبة على رؤوسهم؛ قال أسمِعتُم هذا؟ نعم، هذا حجر أُلقيَ من شفير جهنم مكث سبعين سنة؛ هذا أوان وصوله الآن»، إن الحجر الواحد يُلقى من شفير جهنم فيستمر سبعين سنة نزولًا لا يصِل قَعرًا لها -عياذًا بالله-، فأمه؛ أُم رأسة هاوية، أثقل ما في الإنسان رأسه، وهذا تنكيسه ونزوله على هذا النحو من المهانة ومن العذاب له، {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}[القارعة:9]، في النار -عياذًا بالله-.

ثم قال -جل وعلا- {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ}[القارعة:10]، للتفخيم والتعظيم، وما أدراك؛ أيها الإنسان، أيها المُخاطَب، ما هي؛ ما هي هذه جهم الذي سيسقُط فيها هذا المُعذَّب، قال -جل وعلا- {نَارٌ حَامِيَةٌ}[القارعة:11]، يعني أنه يسقُط هذا السقوط في نار حامية مُشتعِلة كلها، فهو ليس سقوطًا من سماء إلى الأرض في جو بارد؛ أو مُحتَمِل، أو فيه ظِل... لا، وإنما هو سقوط في النار -عياذًا بالله-، والنبي يقول -صلوات الله والسلام عليه- «إن الرجل ليتكلَّم بالكلمة سخَطِ الله -تعالى- لا يُلقي لها بالًا فيهوي بها في النار سبعين خريفًا»، نسأل الله -تبارك وتعالى- بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلا أن يجعلنا من أهل الإيمان الذين تثقُل حسناتهم يوم العرض، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.