الإثنين 21 شوّال 1445 . 29 أبريل 2024

الحلقة (795) - سورة التكاثر وسورة العصر

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}[التكاثر:1] {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}[التكاثر:2] {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}[التكاثر:3] {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}[التكاثر:4] {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ}[التكاثر:5] {لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ}[التكاثر:6] {ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ}[التكاثر:7] {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[التكاثر:8]، هذه سورة التكاثُر؛ وهي موعظة عظيمة بليغة من الرب -سبحانه وتعالى- لعباده، وتذكير لهم بما ينتظرهم في الآخرة ليستعِدوا له، قال -جل وعلا- {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}[التكاثر:1]، إخبار من الله -سبحانه وتعالى- أن الناس عمومهم الكفار ألهاهم التكاثُر، الَّلهو هو الانشغال بالأدنى عن الأعلى، التكاثُر؛ طلب الكثرة من كل أحد، والناس تتكاثِر كما قال -تبارك وتعالى- في الأموال والأولاد، كما قال -جل وعلا- {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ}، هذه حياة الكفار؛ فحياتهم لعب ولهو، فارغة من الحق؛ من عبادة الله -تبارك وتعالى-، ومن السير على طريقه وانتظار مرضاته -سبحانه وتعالى- في الآخرة، فهم في لهو وفي غفلة عن ما ينتظرهم، {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ}، ثم صوَّرَ الله -تبارك وتعالى- هذا فقال {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا}.

هنا قال -جل وعلا- {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}[التكاثر:1] {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}[التكاثر:2]، يعني انشغلتم بالتكاثُر في الأموال والأولاد كلٌ يُريد أن يكون أكثر من الأخر، كما وصَفَ النبي -صل الله عليه وسلم- أحوال الناس قبل يوم القيامة؛ وهو من علامات الساعة، قال -صل الله عليه وسلم- «وأن ترى الحُفاة العُراة العالة رُعاء الشاة بتطاولون في البُنيان»، يتطاولون يعني كلٌ منهم يُريد أن يكون بنائه أطول من الأخر، فهذا نوع من التكاثرُ؛ يتكاثَر في طول البناء، في كثرة الأولاد، في كثرة الأموال أن يكون أكثر من غيره، هذا تكاثُر وهو بذاته ليس بمفيد حتى في الدنيا، فإن الكثرة في الدنيا وأن يكون الأنسان أكثر من الأخر في الدنيا لا نصيب له ولا حظ له كذلك من السعادة الحقيقية؛ وإنما انشغالٌ هَمُّ، فإذا كان هذا بعد ذلك يُلهي عن عمل الآخرة فيكون أشد ضررًا وخطرًا، {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}[التكاثر:1]، قال -جل وعلا- {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}[التكاثر:2]، يعني أنه تمادى بكم هذا الأمر؛ تمادى بكم الَّلهو بالتكاثُر في الأموال، وفي الأولاد، وفي زينة وزُخرُف هذه الحياة، إلى أن زُرتُم المقابر؛ إلى الموت، وقال -جل وعلا- {........ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}[التكاثر:2]، وذلك أن الميت الذي يوضَع في قبره ليس بمُقيم؛ وإنما هو زائر، فالقبر زيارة ثم بعد ذلك الانتقال إلى اليوم الآخر؛ فالحياة الأبديَّة بعد ذلك، ولذلك لمَّا سَمِعَ هذا مَن يعرف العربية قال والله تركوها، لمَّا قال {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}[التكاثر:2]، قال والله ليترُكُنَّها؛ المقابر، لأن الزائر لا يُقيم؛ فالزائر لا يُقيم، فالله -تبارك وتعالى- أخبر عن مجيء الناس إلى القبور بالموت أنه زيارة، تمادى بكم التكاثُر في هذه الدنيا إلى الموت، {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}[التكاثر:2]، وفي القبر انتهى الأمر؛ خُتِمَ على العمل وأصبح لا مجال لتصحيح الخطأ بعد ذلك.

ثم قال -جل وعلا- {كَلَّا}، كلمة زجر، ونهي، وكَف، يعني لا تفعلوا، ثم قال -جل وعلا- {........ سَوْفَ تَعْلَمُونَ}[التكاثر:3]، سوف تعلمون؛ تهديد ووعيد من الله -تبارك وتعالى-، سوف تعلمون؛ والذي يعلمونه محذوف هنا، سوف تعلمون أن بانشغالكم ولهوكم بالتكاثُر في هذه الدنيا كان ضارًّا بكم؛ لم يكُن نافعًا لكم، كان أكبر خيبة وخسارة هي أن تتلهَّوا بهذا التكاثُر عن الآخرة، سوف تعلمون مغبَّة ونهاية ما أشغلكم عن الآخرة، {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}[التكاثر:4]، تهديد، {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}[التكاثر:4]، تأكيد لهذا ووعيد إثر وعيد، سوف تعلمون ما ينتظركم عند الله -تبارك وتعالى- أيها المُفرِّطون المُضيِّعون؛ الذي عاشوا في هذه الدنيا في هذا الَّهو، وفي هذا اللعب، وفي التكاثُر في الأموال والأولاد، وأمر لن يعود عليهم إلا بالضرر في الآخرة.

ثم قال -جل وعلا- {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ}[التكاثر:5]، كلا؛ كذلك زجر لِما يفعلونه من الَّلهو بهذه الدنيا، ثم قال -جل وعلا- {........ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ}[التكاثر:5]، لو الشرطية؛ وجوابها هنا محذوف، لو تعلمون أيها الناس عِلم اليقين بالآخرة؛ وما ينتظركم عند الله -تبارك وتعالى-، وكيف ستكون هذه الآخرة؟ وكيف ستكون النار؟ أي لو تعلمون عِلم اليقين لَما ألهاكم التكاثُر، لتغيَّر حالكم تمامًا؛ ما ألهاكم التكاثُر، وإنما عِشتُم في هذه الدنيا تُقَدِّرونها حق قَدرِها؛ وأنها مِعبَرَة للآخرة، وأن السعيد كل السعيد مَن استقام على أمر الله -تبارك وتعالى-؛ وسار في الصراط، وأخذَ من هذه الدنيا ما يُبلِّغَه للآخرة فقط ولم تشغله عن حياته الحقيقية، فالآخرة هي الحياة الحقيقية، {........ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت:64]، ولذلك الكافر يعُض أصبع الندم يوم القيامة ويقول يا ليتني قدَّمت لحياتي، يا ليتني قدَّمت لحياتي في الآخرة قدَّمت في هذه الدنيا لحياتي الحقيقية، فالآخرة هي الحياة الحقيقية ولكن هذا لا يُفيده في هذا الوقت، {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ}[التكاثر:5]، أي لَما ألهاكم التكاثُر.

ثم قال -جل وعلا- {لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ}[التكاثر:6]، باللام المؤكِّدة للأمر والمؤكِّدة للقَسَم، لترون؛ يعني والله لترون الجحيم، وهذا للجميع؛ كلٌ سيرى الجحيم، والجحيم؛ النار، نار الله الموقَدَة -سبحانه وتعالى-؛ سجنه الذي لا أعظم منه ولا أكبر منه، السجن الناري هذا الذي هو نار؛ من أسفله إلى أعلاه نار وجُدرانه نار، فهذا الجحيم يخبر -سبحانه وتعالى- بأنكم سترونَه، قال -جل وعلا- {لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ}[التكاثر:6]، وقد أقسَمَ -سبحانه وتعالى- على هذا المعنى إقسامًا، كما قال -تبارك وتعالى- {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا}[مريم:68]، فهذا حضور الجميع، {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا}[مريم:70] {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا}[مريم:71] {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}[مريم:72]، فالله يُقسِم -سبحانه وتعالى- {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا}[مريم:68]، فوربك؛ يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بنفسه رب محمد -صل الله عليه وسلم-، {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ}، الجميع، ثم لنُحضِرنَّهم؛ أي جميعًا، {حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا}، جاثين على الرُّكَب، يعني لا يقِف على قدميه وإنما يقِف على رُكبَتيه؛ وهذه وقفة الذليل، {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا}[مريم:69] {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا}[مريم:70] {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}، وإن منكم؛ الجميع، {........ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا}[مريم:71] {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}[مريم:72]، فيخبر -سبحانه وتعالى- بهذه الأقسام بأن الجميع سيرى الجحيم.

قال {لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ}[التكاثر:6] {ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ}[التكاثر:7]، ثم لترونَّها؛ والله لترونَّها، عين اليقين؛ يعني نظر بنظركم، وهذا نظر اليقين ليس هو رؤيا منامية، ولا هو رؤية في غفلة، ولا هي بغَبَش، وإنما تشاهِدونها مشاهدة حقيقية برؤية الأبصار وأنتم حولها، وقد جاء أن أهل المحشَر يوم القيامة يؤتى بالنار لها سبعون ألف زمام؛ في كل زمام سبعون ألف مَلَك يجرُّونها، ثم إذا زفرَت زفرة؛ ومعنى زفرَت يعني أخرجت مكتوم من مكتوم حرارتها فزفرته زفرة، عند ذلك يَذِل كل مَن في الموقِف؛ ويخاف ويُرعَب الرعب العظيم جدًا، كيف سيكون مَن سيكون في داخل هذه النار -عياذًا بالله-؟ {لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ}[التكاثر:6] {ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ}[التكاثر:7]، وهؤلاء جميع الذين يرونها أخبر -سبحانه وتعالى- أنه لن ينجوا منها بعد ذلك إلا مَن أراد الله -تبارك وتعالى- إنجائه من أهل الإيمان والعمل الصالح، {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا}[مريم:71] {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ........}[مريم:72]، فالذين سينجون في هذا اليوم من النار هم الذين اتقَوا؛ الذي خافوا ربهم وجعلوا لهم حماية بينهم وبين النار، فالذين حموا أنفسهم من هذه النار وهذا في الدنيا بالإيمان بالله -تبارك وتعالى- وطاعته، فالذي خافوا الله -تبارك وتعالى- في الدنيا وجعلوا لهم حماية تحميهم من هذه النار هم الذي سيُنجِيهم الله -تبارك وتعالى-، ثم قال -جل وعلا- {........ وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا}[مريم:72].

ثم قال -جل وعلا- {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[التكاثر:8]، ثم لتُسألُنَّ؛ أيها المُخاطَبون، أيها الخلْق، {........ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[التكاثر:8]، والذي سيسأل هو الله -سبحانه وتعالى- فإن مَرَد العباد إلى ربهم -سبحانه وتعالى-؛ وسؤالهم إليه، وحسابهم إليه، والله -تبارك وتعالى- لا يوكِلُ أحدًا بحساب الخلْق؛ بل هو الذي يتوَلَّى حساب الخلْق جميعًا بنفسه -سبحانه وتعالى-، «ما منكم إلا وسيُكلِّمه ربه ليس بينه وبينه حاجب أو ترجمان يحجُبه دونه، فيقول له ألم يأتِك رسوله فبلَّغَك؛ وأتيتُك مالًا وأفضلت عليك، فماذا قدَّمت لنفسك»، والسؤال من جُملة السؤال يُسأل عن النعيم، هنا قال الله -تبارك وتعالى- {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[التكاثر:8]، من النعيم الماء البارد، وقد جاء في الحديث أن الله -تبارك وتعالى- يقول لهذا المسئول الكافر «ألم نُصِح جسمك ونُروِّكَ من الماء البارد؛ فما قدَّمت لنفسك؟»، ألم نُصِح جسمك؟ فصحة الجسم نعيم، وجاء في حديث مُسلِم أيضًا أن الله -تبارك وتعالى- يسأل فيقول «ألم أُركِبكَ الخيل والإبل؛ وأُزوِّجكَ النساء، وأجعلك ترأس وتربَع، فأين شُكر ذلك؟»، فأين شًكر ذلك؟ هل شكرت هذا؟ «ألم أُركِبكَ الخيل والإبل؛ وأُزوِّجكَ النساء، وأجعلك ترأس وتربَع»، ترأس؛ تصبح رئيسًا، تربَع؛ الرَّبع هو الإقامة في المكان وأن يكون لك رَبعٌ وجماعة، فهل قُمت بشكر ذلك؟ فيُسأل العبد عن كل ما هو داخل في النعيم مما أنعَمَ الله -تبارك وتعالى- به على العبد؛ من الماء البارد، من الطعام، من الطيبات، من اللباس، من غير ذلك.

قد جاء في الحديث «النبي خرَجَ يومًا من بيته في وقت ظهيرة فوجَدَ أبو بكر وعُمَر جالسان في ناحية، فقال ما أخرجكما الساعة؟ فقالوا والله يا رسول الله ما أخرجنا إلا الجوع»، يعني خرجا من بيوتهما ما أخرجهما إلا الجوع، «فقال النبي -صل الله عليه وسلم- والذي نفسي بيده ما أخرج صاحبكما إلا الجوع، ثم النبي -صل الله عليه وسلم- انطَلَقَ بهم إلى بيت أحد الأنصار»، يعني يُضيف نفسَه ومَن معه –صل الله عليه وسلم-، وفي هذا دليل على أن الإنسان يجوز أن يضيف نفسه عند مَن يظُن أو يعتقِد أنه يُكرِمه؛ وأنه يفرح بذلك، «فلمَّا وصَل لم يجِد الرجل وإنما وجَدَ امرأته؛ ورحَّبَت بالنبي -صل الله عليه وسلم- وبصاحبيه، ولمَّا سألوها عن زوجها قالت إنه ذهب يستعذِب لنا الماء»، يستعذِب يعني يبحث ويأتي بماء عذب من مكان بعيد، «فلمَّا جاء الرجل فرِحَ وسُرَّ سرورًا عظيمًا بالنبي -صلوات الله والسلام عليه- وصاحبيه؛ وقال أنا اليوم أشرف وأسعد أهل الأرض»، أن يعني يكون في بيتي وفي ضيافتي الرسول -صل الله عليه وسلم- وصاحبيه، «ثم ذهب الرجل إلى بستانه فقطع عِذقًا فيه تمر، وفيه رُطَب، وفيه بُسَر»، كلها هذه جمعها في عِذق كامل، «فقال له النبي هلَّا اجتنيت»، والجنى هو أخذ الثمرة التي نضجَت فقط، «فقال لهم أحببت أن تختاروا أنتم»، أن يختار الإنسان ما يأكل؛ يعني تمرة قد تمَّرَت، أو رُطَبة مازالت بُسرة، يعني فلتختاروا أنتم، «ثم أخذ شفرته»، الشفرة؛ الموس أو السكين، «فقال له النبي إياك والحلوب»، إياك والحلوب يعني لا تذبَح شاةً حلوبًا، فذَبَحَ لهم ثم بعد أن أكلوا من التمر والرُطَب الذي بين أيديهم؛ وشربوا الماء البارد، قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «إن هذا من النعيم؛ ولتُسألُنَّ عن هذا النعيم يوم القيامة»، قال لهم هذا من النعيم؛ أن هذا مما أنَعمَ به الله -تبارك وتعالى-، قال «خرجتم من بيتكم جائعين ثم رزَقَكم الله -تبارك وتعالى- هذا الرزق، ثم لتسألُنَّ عن هذا النعيم يوم القيامة».

هذا من النبي -صلوات الله والسلام عليه- بأن ما يلقاه العبد من طعام جيد أو شراب بارد كل هذا من النعمة؛ وأن الله -تبارك وتعالى- سائل العباد عنها يوم القيامة، والسؤال إنما هو عن شُكرها؛ هل قام العبد بحق هذه النِّعَم التي أنعَمَ الله -تبارك وتعالى- بها عليه أم لا؟ صحته في بدنه، طعامه، شرابه، لباسه، مركَبَه، كل ما أنعَمَ الله -تبارك وتعالى- به عليه؛ ماله، وَلَده، كل هذا رزق، ونعمة، ونعيم أنعَمَ الله -تبارك وتعالى- به عليه، هل قام بشُكر ذلك أم لا؟ يقول الرب -تبارك وتعالى- {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[التكاثر:8]، وذلك السؤال في يوم القيامة، فالكافر لا شك أنه مُعذَّب على كل شربة ماء شربها ولم يشكُر الله -تبارك وتعالى- عليها، لأن الله -تبارك وتعالى- لا يرضى من العبد أن يعيش في نعمائه ويكفُر به؛ ويجحَد به -سبحانه وتعالى-، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[البقرة:168]، وقال -جل وعلا- {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[الأعراف:32]، فالخطاب للناس بأن يأكلوا مما في الأرض حلالًا طيبًا، والكافر لا يأكل حال كونه حلالًا لأنه لا يحِل له أن يأكل ويشرب من رزق الله -تبارك وتعالى- ثم هو يكفر بالله -تبارك وتعالى-؛ ويجحَد نعمائه -سبحانه وتعالى-، وأما العبد المؤمن فإن الله -تبارك وتعالى- يرضى عن العبد المؤمن؛ يشرب الشربة فيحمَدَه عليها، ويأكل الُّلقمة فيحمَدَه عليها، «إن الله ليرضى عن العبد يشرب الشربة فيحمَدَه عليها؛ ويأكل الُّلقمة فيحمَدَه عليها»، فهو حامدٌ لله -تبارك وتعالى- وشاكرٌ له على نعمائه -سبحانه وتعالى-.

فالسؤال عن شُكْر هذه النعمة، والشُّكر يكون باللسان ويكون بالقلب، يعني يشكر الله -تبارك وتعالى- بلسانه؛ حَمْدُه، والثناء عليه -سبحانه وتعالى-، ويكون بالقلب؛ إقراره بنعمة الله -عز وجل-، وفضله، وإحسانه عليه -سبحانه وتعالى-، وكذلك بالجوارح فإن السعي في مرضاة الرب -تبارك وتعالى-؛ القيام بما أمَرَ الله -عز وجل- به من شُكرِه، «أفلا أكون عبدًا شكورًا»، لمَّا قام بالصلاة، فالصلاة من شُكر الله، والصيام من شُكر الله، والحج من شُكر الله -سبحانه وتعالى-، فهذه العبادات إنما هي قيام بشُكر الله -تبارك وتعالى-، فالمؤمن وفَّقَه الله -تبارك وتعالى- أن ما أنعَمَ الله -تبارك وتعالى- به عليه يقوم فيه بأمر الله -تبارك وتعالى-؛ يقوم بالعبادة فيشكُر الله -تبارك وتعالى- على هذه النِعَم، يُقدَّم له الطعام فيقول بسم الله، يفرُغ من الطعام فيقول الحمد لله، يُقدَّم له الماء فيقول بسم الله، يفرُغ من الماء فيقول الحمد لله، يلبَس فيقول الحمد لله الذي ألبَسَني ما أواري به عورَتي وأتجمَّل به في حياتي، يركب فيقول {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ}[الزخرف:14]، فهو دائمًا حامدٌ لله -تبارك وتعالى- وشاكرٌ له؛ أما الكافر فلا، الكافر مسخوط؛ مغضوب عليه، فإنه يقوم ويقعُد في سخَط الله -تبارك وتعالى- وفي غضبه -جل وعلا عياذًا بالله-، {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[التكاثر:8]، سورة قصيرة؛ بليغة، عظيمة، فيها موعِظة للعباد؛ وأن أكثرهم قد ألهاه التكاثُر إلى الموت، ظَلَّ في غفلته إلى الموت، {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}[التكاثر:1] {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}[التكاثر:2] {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}[التكاثر:3] {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}[التكاثر:4]، يعني لا تفعلوا؛ وهو تهديد، {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ}[التكاثر:5]، أي لَمَا ألهاكم التكاثُر، ما سِرتُم هذا المسير، {لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ}[التكاثر:6]، يعني والله لترونَّ الجحيم، {ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ}[التكاثر:7]، هذا قَسَم من الله -تبارك وتعالى- بأن الجحيم؛ هذا العذاب الأكبر، سترَونَه رؤية عين وستكونون موجودن؛ والجميع كلهم سيكونون موجودون، {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[التكاثر:8]، الحمد لله رب العالمين، وبهذا تمَّت هذه السورة.

يقول -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {وَالْعَصْرِ}[العصر:1] {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ}[العصر:2] {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[العصر:3]، سورة قصيرة جمَعَ الله -تبارك وتعالى- فيها أحوال الناس، بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بقَسَم فقال {وَالْعَصْرِ}[العصر:1]، قيل العصر؛ الزمان، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بالزمان الذي هو وقت حدوث هذا الإنسان، {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ}[العصر:2]، وقيل والعصر؛ صلاة العصر، يُقسِم الله -تبارك وتعالى- بصلاة العصر؛ وهي الصلاة الوسطى، أشرف الصلوات الخمس التي فرَضَها الله -تبارك وتعالى- على عباده، كما قال النبي «حبسونا عن الصلاة الوسطى؛ صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا»، وذلك عندما حبَسَه الكفار في يوم الخندق عن أن يُصلُّوا؛ مشغولون بالحراسة حتى غرُبَت الشمس، {وَالْعَصْرِ}[العصر:1]، يُقسِم الله -عز وجل- فيقول {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ}[العصر:2]، إن الإنسان؛ جنس الإنسان، كل إنسان، هذه هي الألف الاستغراقية التي تستغرِق الجنس كله؛ كل إنسان، {........ لَفِي خُسْرٍ}[العصر:2]، الخسارة ضد الربح والكَسب؛ كل إنسان خاسر، ثم استثنى الله -تبارك وتعالى- فقال {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ........}[العصر:3]، كل إنسان خاسر خسارة؛ والخسارة الكبرى هي خسارة النفس، والإهل، والمال، وكل شيء، وهذه خسارة الكافر في النار -عياذًا بالله-.

ثم قال -جل وعلا- {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}، الإيمان يُخرِج صاحبه من هذه الخسارة، قال {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[العصر:3]، أربعة صفات جمعَها الله -تبارك وتعالى- في الذين خرجوا من هذا الخسران، قال {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ........}[العصر:3]، إذا اجتمع الإيمان والعمل الصالح فإن الإيمان ينصرِف إلى أعمال القلب؛ وهو التصديق واليقين بالله -تبارك وتعالى- وبغيبه، وما يؤدي إليه هذا التصديق واليقين من الخوف منه -سبحانه وتعالى-، فإن الله أهلٌ لأن يُخاف منه لأنه يؤاخِذ بالذنب ويُعاقِب عليه؛ ولا أحد يُعاقِب كما يُعاقِب الله -سبحانه وتعالى-، وكذلك الرجاء لأن الله -تبارك وتعالى- هو الذي بيده المُلك كله؛ والخير كله عنده -سبحانه وتعالى-، وهو الذي يملِك الدنيا والآخرة، فهو الذي يُرجى -سبحانه وتعالى- لدفع الضُّر ولجلب الخير، المحبة؛ الله -تبارك وتعالى- يُحَب لذاته -سبحانه وتعالى- ويُحَب لإنعامه وإفضاله، الخشية، الإنابة، التوكُّل؛ هذه كلها أعمال القلوب وكلها من مُسمَّى الإيمان، والعمل الصالح؛ كل ما أمَرَ الله -تبارك وتعالى- به عباده من الأعمال الصالحة، أشرفها الصلاة، والصيام، والزكاة، والحَج، وبِر الوالدين، وصِلَة الأرحام، وصدق الحديث، وإحسان الجوار، والله لا يأمر إلا بخير -سبحانه وتعالى-، فهي أعمال صالحة؛ تُصلِح النفس، تُصلِح الحياة، ثم لها أجر ومثوبة عند الله -تبارك وتعالى- في الآخرة، أما إذا انفرَدَ الإيمان وحده فإنه يدخل فيه العمل الصالح كذلك، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «الإيمان بِضعٌ وستون شُعبة؛ أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، الحياء شُعبة من الإيمان».

فالذين آمنوا وعملوا الصالحات ها دول أوَل شيء؛ ها دول الذي خرجوا من الخسار، {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}، تواصَوا يعني وصَّى كلٌ منهم أخاه بالحق؛ يعني أنهم يأمرون بالمعروف، ينهَون عن المُنكَر، يوصي بعضهم بعضًا بالحق؛ يعني تمسَّك بهذا يا عبد الله، يا أخي، يا مولاي، يا ابني، يا صديقي، فيُنادي كلٌ منهم أخاه، وجماعته، وقومه، وأهله، ومَن تحته، كلٌ يبذُل وصيَّتَه؛ والوصيَّة إنما هي إيصال حِرص الموصي ورغبته في الخير لِمَن يوصيه، يُريد أن يدلَّه على الخير ويحميه من الشر فيوصيه بذلك، وتكون الوصيَّة من الحريص على محبة الخير للأخر، فهُم يُحِبون الخير بعضهم لبعض فكلٌ منهم يوصِّي بعضه بالحق، والحق هو الثابت المُستقِر؛ الحق ما قاله الله -تبارك وتعالى-، الله لا يقول إلا حقًّا، فما أخبرنا الله -تبارك وتعالى- به عن نفسه، وعن غيبه، وعن أمره وشرعِه؛ كله حق، الله حق، اللهم أنت الحق؛ قولك حق، لقائك حق، الجنة حق، النار حق، محمد حق، النبيون حق، بهذا كله حق، هذا حق فيوصِّي بعضهم بعضًا به؛ يعني بالتزامه، بالإيمان بالغيب والعمل لما أمَرَ الله -تبارك وتعالى-؛ كل هذا داخل في معنى الحق.

{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، يوصي بعضهم بعضًا بالصبر، الصبر؛ حبس النفس على المكروه دون تأفُّف ودون تضجُّر منه، والصبر هذا هو العمود الفقري للدين، فإن الذين الذي شرَعَه الله -تبارك وتعالى- لعباده عموده الصبر؛ الصبر جزء من كل تكاليفه، فالعبادة اللي هي القُرَب تحتاج إلى صبر، لا يمكن أن تؤدي الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج؛ هذه العبادات إلا بصبر، إذا لم تصبِر ما تؤدي هذا، {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}[البقرة:45]، فهي صعبة وكبيرة لكن ليست على الخاشع الصابر، الصوم من الصبر، الحج يحتاج صبر، الزكاة تحتاج صبر؛ حبس نفس الإنسان عن البُخل، وعن الشُّح، كذلك المُحرَّمات تحتاج صبر؛ أن تصبِر على ما حرَّمَه الله -سبحانه وتعالى-، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا من هؤلاء {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[العصر:3]، أسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا منهم، استغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين.