الإثنين 21 شوّال 1445 . 29 أبريل 2024

الحلقة (796) - سورة الهمزة 1-9

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}[الهمزة:1] {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ}[الهمزة:2] {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}[الهمزة:3] {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ}[الهمزة:4] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ}[الهمزة:5] {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ}[الهمزة:6] {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ}[الهمزة:7] {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ}[الهمزة:8] {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}[الهمزة:9]، سورة الهُمَزَة وهي من القرآن المكي؛ توعَّد الله -تبارك وتعالى- فيها فاعل هذا الفعل الشنيع بالنبي -صلوات الله والسلام عليه- وبالمؤمنين، قال -جل وعلا- {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}[الهمزة:1]، الويل؛ كلمة تهديد، أو قيل هو وادٍ في جهنم توعَّدَ الله -تبارك وتعالى- به مَن يتوَعَّدُهم، {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}[الهمزة:1]، ولكل؛ من أسماء العموم، {........ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}[الهمزة:1]، هُمَزَة هذا وزن فُعَلَة؛ يأتي للمهارة والمبالغة، والهَمْز والَّلمزْ بمعنى وهو عيب الناس والاستهزاء بهم عن طريق الإشارة أو اللسان، يقول ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- هو المِعياب النمَّام، فهو الذي يعيب الناس وينِمُّ في الحديث، فهو المغتاب الذي يحتقِر الناس ويستصغِرهم كأنه هذا بالنسبة له؛ يعني همزهم ولمزهم، أصبح هذا تفنُّنًا عنده، فهو قد بلغ في الأمر مبلغة، فهو من الهُمَزَة الُّلمَزَة، قيل الهَمز يكون باللسان والَّلمز يكون بالإشارة؛ وقيل العكس، وهما بمعنى أن كل مَن استهزأ بالناس إشارةً أو كلامًا فهو همَّاز وهو لمَّاز كذلك؛ هَمَزَه ولَمَزَه.

قال بعض أهل العِلم أن هذا نازل في أُناس بأعيناهم من كفار مكة؛ ممَن كانوا يصنعون هذا الصنيع بالنبي -صلوات الله والسلام عليه- وبالمؤمنين، كالأخنس ابن شُريق، وأُمي ابن خلف، والعاص ابن وائل السهمي، وغيرهم، فإنهم كانوا لا يدعون فرصة إلا ويستهزئون بالرسول -صل الله عليه وسلم- وبأهل الإيمان، وكون أن الله -تبارك وتعالى- يبدأ في هؤلاء الكفار بذِكر عَيب من عيوبهم هو أقل من الكُفر؛ وذلك أنهم جمعوا بين الكُفر وبين هذه المعايب، والكُفر بالله -تبارك وتعالى- هو أصل الشر وهذه فروعه، وهؤلاء اتصفوا بهذا وهذا؛ بالكُفر بالله -تبارك وتعالى- وكذلك انحطاط الخُلُق، كما قال -تبارك وتعالى- {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ}[القلم:10] {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}[القلم:11] {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}[القلم:12] {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ}[القلم:13] {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ}[القلم:14] {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}[القلم:15]، فقوله في القرآن أنه أساطير الأولين كُفر بالقرآن وكُفر بالله -تبارك وتعالى-؛ وهو كذلك مُتَصِف بهذه الصفات من صفات الذَّم، {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ ........}[القلم:10]، كثير الحَلِف، همَّاز؛ كثير الهَمز، مشَّاءٍ بنميم؛ يسير بالنميمة ليوقِع بين الناس، عُتُل؛ قاسي، {........ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ}[القلم:13] {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ}[القلم:14]، فهؤلاء جمعوا بين الكُفر وبين هذه الصفات الخسيسة؛ والله -تبارك وتعالى- يُعذِّبهم على هذا وهذا، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}[المدثر:42] {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}[المدثر:43] {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}[المدثر:44] {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ}[المدثر:45] {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ}[المدثر:46]، فهم جمعوا كل الصفات الخسيسة مع الكُفر، {........ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}[المدثر:43]، والصلاة فرض، {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}[المدثر:44]، فقد كانوا قُساة قلوب، {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ}[المدثر:45] {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ}[المدثر:46] {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ}[المدثر:47].

وكذلك قول الله -تبارك وتعالى- {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ}[الماعون:1] {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}[الماعون:2] {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[الماعون:3] {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ}[الماعون:4] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ}[الماعون:5]، فكأن هذا مُرتبِط بهذا، سوء الأخلاق هذه {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ}[الماعون:1]، والتكذيب بالدين كُفر بالله -تبارك وتعالى-؛ كُفر بالجزاء وكُفر بالبعث، هذا كافر بالبعث وكافر بالله -تبارك وتعالى-، {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}[الماعون:2]، فجمع بين كُفره بالله -تبارك وتعالى- وبين دعِّه اليتيم يعني دَزَّه وقساوة قلبه، {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[الماعون:3]، فهو قاسي القلب لا يحُض على طعام المسكين؛ لا يَحُث على هذا، فكون الله -تبارك وتعالى- يبدأ السورة بذَم هؤلاء الكفار بذِكر نقيصة من نقائصهم هي دون الشِّرك والكُفر؛ وذلك أنهم جمعوا بين هذا وهذا أولًا، وأن هذه من صفاتهم وكأن هذه الخساسة التي في أخلاقهم هي كذلك التي دفعتهم إلى الكُفر والشِّرك، {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}[الهمزة:1]، ولا شك أن أن الهَمز والَّمز كذلك من المؤمن كبيرة من الكبائر؛ يعني إذا وقعت من المؤمن فإنها تقع كبيرة من الكبائر، كما في قول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «لا يدخل الجنة نمَّام»، فإن النمَّام يخبر النبي بأنه لا يدخل الجنة، والذي يسعى بالنميمة بين الناس هو من هذا الباب، وكذلك قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- في عَيب الأخرين أن هذا أمر كبير، كما جاء في الحديث «لقد تكلَّمت بكلمة لو مُزِجَت بماء البحر لمَزَجَته»، في مَن قالت حسبُكَ من فلانة وأنها قصيرة، فهَمز الناس سواءً كان بالإشارة أو بالكلام، واختقارهم، واستصغارهم أمر كبير، وقد قال النبي -صل الله عليه وسلم- «بحسْب امرئٍ من الشر أن يحقِر أخاه المسلم»، فأن يحقِرَه بإشارة أو بكلام يقول حسْبُهُ من الشر؛ يعني حسْبُهُ أن يكون فيه من الشر أن يدخل به النار -عياذًا بالله-، {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}[الهمزة:1]، فإذا كان ماهِرًا ومُبالغًا في الهَمز والَّلمز فيكون هذا يستحق هذا الوعيد سواءً جمع مع الهَمز والَّلمز الكُفر بالله -تبارك وتعالى-؛ أو كان من أهل الإسلام لكنه لا عمل له هَمز الناس، ولمزهم، واحتقارهم، فيكون قد جمع خِصلة شنيعة من أعظم خِصال الذَّم.

قال -جل وعلا- {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ}[الهمزة:2]، هذا الكافر الذي جمع مالًا له وعدَّدَه، قيل عدَّدَه من المُبالغة يعني عَدَّه المرة تلوا المرة من حرصه عليه؛ ومن محبته له، جمع مال؛ المال هو كل ما يُتموَّل ويُنتفَع به سواءً كان من الذهب والفضة، أو من غير ذلك من الأموال كالأنعام، والثياب، وغير ذلك، والفُرُش، والبسائط، فقد جمع ماله؛ نقوده، وعدَّدَه؛ وعدَّه، يعني عدَّدَه المرة تلوا المرة حرصًا عليه، وكَلَفًا به، وحُبًّا له، {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ}[الهمزة:2]، قال -جل وعلا- {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}[الهمزة:3]، يحسَب؛ يظُن، يظُن هذا الغبي الجاهل؛ الكافر، المُعانِد، أن ماله؛ الذي يجمعه، أخلَدَه؛ يعني مُخلِّدَه ومُبقيه حياة أبدية، والحال أنه لا خلود في هذه الدنيا؛ وأنه مهما جمع الجامع من الأموال فإنه مُفارِقُها، فإنه مُفارِقه أو هالك؛ يعني أن هذا المال إما أن يهلَك وإما أن يُفارِقَه، لابد أن يُفارِقَه ولن يأخذ شيئًا معه، وكذلك لن يُطيل المال في عُمرِه ولا يوم ولا ساعة، فإن له عُمر محدود وإن المال مهما كَثُر فإنه لا يُطيل شيئًا في عُمر صاحبه، لكن هذا يظُن بغبائه وعدم فَهْمِه وفقهِهِ أن ماله الذي يجمعه أخلَدَه، ولم يُفكِّر في مصيره وأنه ميت ومُخَلِّيه.

ثم قال -جل وعلا- {كَلَّا}، كلمة زجر عن كل ما سبق؛ عن الهَمز، وعن الَّلمز، وعن تجميع المال على هذا النحو؛ وتعديده، والظَّن أن هذا المال مُخلِّدٌ لصاحبه، فإن المال إنما هو بُلغة وله وظيفة في هذه الحياة، بالنسبة لأهل الإيمان فهو مُبلِّغٌ للطريق؛ وإلا فهو ليس الغاية والهدف، وقد نهى الله -تبارك وتعالى- عن التكاثُر فيه، والتنافُس فيه، وتعداده، وملء القلب به، وقال {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ........}[الحديد:20]، يعني أنه زهرة من زهرات الدنيا؛ شيء حلو خَضُر، ثم إنه سُرعان ما يذبُل وينتهي، {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}، فالاغترار بالدنيا إنما هو من المغرور ومن فعل الغَرور؛ الشيطان الذي يُغرِّر أصحابه، فهذا غرَّرَه الشيطان بما جمعه من الأموال؛ ويظُن أن ماله أخلَدَه ومُخلِّدَه، والحال أنه لن يُخلِّدَه، ثم قال -جل وعلا- {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ}[الهمزة:4]، بلام التأكيد ليُنبَذَن؛ النبذ هو الإلقاء بإهمال، أي شيء أخذته وألقيته بإهمال نبذته، كما تقول أكلت التمرة ونبذت النواة؛ نبذتُها يعني ألقيتُها، ليُنبذَنَّ؛ يعني هذا الكافر، المُجرم، الهمَّاز، الَّلمَّاز، وهؤلاء الهُمَزَة الُّلمَزَة، في الحُطَمَة؛ وصَفَ الله -تبارك وتعالى- النار بأنها حُطَمَة، وهذا أيضًا على هذا الوزن الذي جاء في السورة فُعَلَة، ومعنى أنها حُطَمَة يعني أنها شديدة التحطيم لِمَن يدخُلها؛ فهي تُحَطِّمه حَطْم، وكذلك النار تحطِم بعضها بعض، فنار الآخرة تحطِم بعضها بعض؛ تحطِم الحجارة فهذه وقودها، وتحطِم الناس يعني أنها تُحَطِّمُهم -عياذًا بالله-، فهذا من أسماء النار، والاسم هنا في الحُطَمَة مُناسِب لسياق هذه السورة؛ هُمَزَة، ولُمَزَة، وحُطَمَة، كل هذا جاء على وزن فُعَلَة، {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ}[الهمزة:4].

ثم بالَغَ الله -تبارك وتعالى- وأشاد بهذا الأمر؛ وهوَّلَه تهويلًا عظيمًا فقال {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ}[الهمزة:5]، هذا أسلوب التهويل، والتضخيم، والتجهيل، لأنها شيء فوق ما يُتَصوَّره المُتصوِّرون وما يعقِله أهل الدنيا، هذا أمر عظيم جدًا أكبر مما تتصوَّره العقول في هذه الدنيا، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ}[الهمزة:5]، قال -جل وعلا- {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ}[الهمزة:6]، نسَبَ الله -تبارك وتعالى- هذه الحُطَمَة أنها ناره؛ نسَبَها إليه فقال {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ}[الهمزة:6]، وحَسْبُكَ بهذا وصفَين لبيان شدة هذا الأمر وعِظَمِه، أولًا أنها نار الله؛ فهي منسوبة إلى الله -تبارك وتعالى-، والله يُعذِّب بها أعدائه، وهي موقَدَة؛ يعني أنها مُشتَعِلَة، فهذا دليل كذلك على أنها نار موجودة مخلوقة؛ وأن الله خلَقَها، وأنها موجودة بالفعل، وهي ناره -سبحانه وتعالى- التي أعدَّها لأعدائه، {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ}[الهمزة:6]، المُشتعِلَة دائمًا، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- بأن هذه النار وقودها الناس والحجارة، قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ ........}[التحريم:6]، وقودها يعني ما يتقِد بها ويُشعِلُها الناس والحجارة؛ حجارة تصهرُها وتشتعِل فيها -عياذًا بالله-، وقال أيضًا -جل وعلا- {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:23] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة:24]، فهذه النار الموقَدَة -عياذًا بالله-؛ يعني المُشتعِلَة اشتعالًا دائمًا وقودها الناس والحجارة، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- أنها موقَدَة أبدًا؛ وأنها تظَل مُشتعلَة أبدًا، وليس لها وقت تنطفئ فيها، بل قال -جل وعلا- {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا}، كلما خبَت هذه النار؛ ومعنى خبَت يعني خفَتت أو هدأت، زِدناهم سعيرًا وذلك ليظَل وقودها واشتعالها -عياذًا بالله- أبدًا، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ}[الهمزة:5] {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ}[الهمزة:6].

ثم وصَفَ الله -تبارك وتعالى- هذه النار الموقَدَة فقال {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ}[الهمزة:7]، هذه النار تطَّلِع على الأفئدة، ومعنى أنها تطَّلِع على الأفئدة إما اطِّلاع علمي أو اطِّلاع مادي، فبالاطِّلاع المادي قال بعض أهل العِلم بأنها تشتعل، وتُذيب، وتحطِم جسد المُعذَّب بها إلى القلب وإلى الفؤاد، والفؤاد أو القلب هو أكبر الأعضاء في الجسد إحساسًا، فتشتعل النار إلى القلب -عياذًا بالله- يعني أنها تدخل إليه؛ إلى جوفه وتُذيبه إلى القلب، فإذا ذاب رجَعَ مرة ثانية فبُنيَ بناءً من جديد، وقد قال -تبارك وتعالى- في الجلود {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}، وهنا قال الله -تبارك وتعالى- بأن هذه النار تطَّلِع على الأفئدة؛ يعني أنها تدخل على المُعذَّب إلى فؤاده، والفؤاد هو القلب -عياذًا بالله-، أو أنها تطَّلِع على الأفئدة أي أنها تعرف ما في فؤاد المُعذَّب، والله -تبارك وتعالى- قد جعل للجمادات إدراكات؛ فكل هذه الجمادات تُدرِك، فالنار الله يقول عنها {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ}، تكادُ تميَّزُ من الغيظ يعني تتقطَّع من شدة الغيظ تحرُّقًا على تعذيب مَن يُلقى فيها -عياذًا بالله-، {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}[الملك:8]، فالنار لها إدراك تُدرِك به، فهي تطَّلِع على قلوب هؤلاء الكفار والذي كانوا في هذه الدنيا هم أهل الغَمز، والَّلمز، والغِيبة، والنميمة، والاستهزاء بأهل الإيمان، فهي تطَّلِعُ وتنظر ماذا في قلوبهم، وكأن النار تصِل إلى هذا المكان الذي حوى هذه الأخلاق السوداء التي كانت فيه، فتذهب إلى قلبه لتُعذِّبَه على هذا النحو، {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ}[الهمزة:7].

ثم وصَفَ الله -تبارك وتعالى- هذه النار بصفة أُخرى فقال {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ}[الهمزة:8]، إنها؛ يعني هذه النار، عليهم؛ يعني على الكفار، موصَدة؛ فهي سجن وموصَدة يعني أنها مُغلَقَة أبوابها، قد أخبر الله -تبارك وتعالى- أولًا بأن هذه النار لها سبعة أبواب، قال {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ}[الحجر:44]، وأن هذه الأبواب إذا دخلوا فيها فإنها تُغلَق عليهم ولا تُفتَح بعد ذلك، {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ ........}[الهمزة:8]، أي النار بأبوابها {مُوصَدَةٌ}، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- أنها كما جاء في الحديث بئر عميقة، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «لو أن حجرًا أُلقيَ من شفير النار فإنه يمكث سبعين عامًا لا يصِل قَعرها»، وقد قال -صل الله عليه وسلم- «إن الرجل ليتكلَّم بالكلمة من سَخَط الله -تعالى- لا يُلقي لها بالًا فيهوي بها في النار سبعين خريفًا»، يهوي بهذه الكلمة في النار سبعين خريفًا، وقال -جل وعلا- {الْقَارِعَةُ}[القارعة:1] {مَا الْقَارِعَةُ}[القارعة:2] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}[القارعة:3] {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ}[القارعة:4] {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ}[القارعة:5] {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}[القارعة:6] {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}[القارعة:7] {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ}[القارعة:8] {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}[القارعة:9]، أمه؛ رأسه، هاوية؛ تهوي بمعنى تسقُط، قال {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ}[القارعة:10] {نَارٌ حَامِيَةٌ}[القارعة:11]، يعني سقوطه هذا السقوط إنما يسقَط في النار -عياذًا بالله-، فالنار بئر عميقة، وقد جاء في حديث عبد الله ابن عُمَر -رضي الله تعالى عنه- أنه قال «كان الناس مَن رأى منهم رؤيا قصَّها على رسول الله -صل الله عليه وسلم-، كُنت أتمنَّى أن أرى رؤيا أقُصُّها على النبي -صلوات الله والسلام عليه-، يقول فرأيت أنه قد أتاني رجلان فأخذاني إلى النار، ثم نظرت في النار فإذا هي كالبئر العميقة ولها قرنان»، كقرنَي البئر اللذان يوضَع عليهما البكرة التي تُخرِج المياه، «يقول ثم جاء رجل أخر فقال دعاه دعاه؛ اتركوه، وخلَّصَني منهم وخرجت، يقول فقصصتُها على حفصة؛ اللي هي أخته، فقصَّتها حفصة على النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فقال النبي نِعمَ الرجل عبد الله لو كان يُصلِّي من الليل»، قال نِعمَ الرجل عبد الله؛ أي عبد الله ابن عُمَر -رضي الله تعالى عنهما-، «لو كان يُصلِّي من الليل، يقول ما تركت صلاة الليل بعد ذلك أبدًا»، -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-.

الشاهد أن هذه رؤيا؛ وهي رؤيا حق، وهي كما جاء في وصْف النار بأنها مثل البئر؛ وأن لها شفير، وأنها كما جائت في ما وصَفَ النبي -صلوات الله والسلام عليه- فهي رؤيا حق، فالنار بئر ولها هذه الأبواب، وهل هذه الأبواب طبقات؟ قالوا إن النار دَرَكَات، كما قال -تبارك وتعالى- {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}[النساء:145]، فالنار دَرَكات بعضها دون بعض وفيها الدَّرك الأسفل؛ والتي فيها كبار المجرمين والمنافقين جعلهم الله -تبارك وتعالى- في الدَّرك الأسفل، فهل كل باب من هذه الأبواب إنما ينفتِح على طبقة من طبقات النار؛ أم أن الأبواب عند شفير جهنم فوقها؟ ثم مَن يُلقى فيها يُلقى في النار بعد ذلك، الله -تعالى- أعلم هل الأبواب هذه أبواب رأسية في هذه النار؛ أم أنها أبواب على سور النار؟ التي أخبر -سبحانه وتعالى- فقال {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ}، أحاط بهم؛ بأهل النار، سُرادِقُها؛ السُّرادِق هو الرواق الذي يُحيط بها، فهي سور عظيم وبناء عظيم في باطن الأرض ينزل سُفلًا إلى الأرض السفلى -عياذًا بالله-؛ وفيها هذه الطبقات.

يخبر -سبحانه وتعالى- بأن هذه النار على الكفار -عياذًا بالله- موصَدَة، إنها؛ النار، عليهم؛ على هؤلاء الكفار، موصَدَة؛ أي أنها مُغلقَة عليهم أبوابها، إذا دخلوقها أُغلِقَت عليهم -عياذًا بالله-، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- بأن هذه الأبواب تُفتَح إذا جائوها، كما قال -جل وعلا- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}[الزمر:68] {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[الزمر:69] {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ}[الزمر:70] {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا}، سِيقَ؛ ساقهم الله إليها، {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا}، حتى إذا جائوها؛ إذا أتى الكفار إلى هذه النار، فُتِحَت أبوابها؛ فتُفتَح أبوابها فجأة بمُجرَّد إتيانها ثم يُلقَون فيها إلقاء، كما قال -تبارك وتعالى- {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}[الطور:13]، يعني أنهم يُدَزُّون ويُدفَعون إليها دفعًا؛ وهذا من زبانية العذاب -عياذًا بالله-، {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}[الطور:13] {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}[الطور:14]، فإذا دخلوها على هذا النحو المَهين من الذَّز، والدَّع، والأخذ بالنواصي والأقدام والإلقاء في هذه النار، عند ذلك تُغلَق أبوابها -عياذًا بالله- إذا تمَّ دخولهم فيها ولا تُفتَح أبدًا، لا مجال بعد ذلك لهذا السجن أن ينفتِحَ قط؛ وإنما يُقفَل، إنها؛ أي النار، عليهم؛ على الكفار موصَدَة.

ثم قال -جل وعلا- {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}[الهمزة:9]، قيل في عَمَد يعني أن هذه الأبواب الموصَدَة عليهم داخلة في أعمِدَة؛ الأعمِدَة التي تحفظ هذه الأبواب، وهذه الأعمِدَة مُمدَّدة، مُمدَّدَة؛ قيل في الأرض لتكون أقوى لها، أو أن هذه الأبواب قد شُدَّت بسلاسل وأوتاد وأصبحت مُربَّطة بأعمِدَة ممدَّدَة في الأرض بحيث أنه يستحيل فتحُها، فهذه النار الله -تبارك وتعالى- ويستحيل فتحُها، والله -تبارك وتعالى- أخبر عن أهلها أنهم {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}[الحج:22]، فهي قد بُنيَت بهذا البناء المُحكَم بهذه الأسوار؛ وهي أسوار من نار، وأنه لا يستطيع أحدٌ أن يعلوها، وأنها أُغلِقَت هذا الإغلاق على أهلها -عياذًا بالله- وأوصِدَت عليهم إيصادًا بحيث أنه لا يمكن فتحُها، قال -جل وعلا- {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ}[الهمزة:8] {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}[الهمزة:9]، وقيل {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}[الهمزة:9]، يعني في مُدَد مُتطاوِلة مُمدَّدَة لا تنتهي، والصحيح هو الأول في قول الله -تبارك وتعالى- {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}[الهمزة:9].

هذه سورة عظيمة في جرسِها؛ في بلاغتها، في صياغتها، فانظر من تناظُر الصياغة هذا الوزن الذي جاء فيها ووصف هذا الكافر بأنه هُمَزَة لُمَزَز؛ ووصف النار بأنها كذلك حُطَمَة يعني فُعَلَة، هذا ولمَّا كان هذا الكافر قاسي القلب وأعمى القلب فإن النار جُعِلَت لقلبه كذلك، قال -جل وعلا- عن النار {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ}[الهمزة:7]، كذلك انظر هذا كيف وعى هذا المال، وعدَّدَه، وحَرِصَ عليه؟ ثم كيف أنه أُهمِلَ هذا الإهمال وأُلقيَ في النار بعيدًا عن ماله الذي عدَّدَه وجمعه؟ سورة عظيمة وفيها موعِظة عظيمة طبعًا للكافر الذي كانت هذه صفته؛ وكذلك لأي مؤمن أخذ صفة من هذه الصفات الخسيسة، {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}[الهمزة:1] {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ}[الهمزة:2] {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}[الهمزة:3] {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ}[الهمزة:4] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ}[الهمزة:5] {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ}[الهمزة:6] {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ}[الهمزة:7] {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ}[الهمزة:8] {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}[الهمزة:9].

وصل الله وسلَّم على عبده ورسوله محمد، والحمد لله رب العالمين.