الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
يقول -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}[الفيل:1] {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ}[الفيل:2] {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ}[الفيل:3] {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ}[الفيل:4] {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}[الفيل:5]، بسم الله الرحمن الرحيم، {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ}[قريش:1] {إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}[قريش:2] {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}[قريش:3] {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}[قريش:4]، سورة الفيل وسورة قريش هما في موضوع واحد، وقد يمتَن الله -تبارك وتعالى- في هاتين السورتين على قريش وأهل مكة بمِنَّته -سبحانه وتعالى- أولًا بدفع الفيل وجيش أبرهة عن بيت الله -تبارك وتعالى- وكعبة الله، وكان هذا من الله نعمة عظيمة وإرهاص لبعثة هذا النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فإن النبي ولِدَ في عام الفيل؛ العام الذي أهلك فيه الله -تبارك وتعالى- الفيل، وصدَّ جيش الحبشة النصراني عن الكعبة، وكان من شأن أبرهة أولًا أن مَلِك اليمن الحِميري ذي نواس الذي قتل النصارى في الحادثة المشهورة؛ أصحاب الأُخدود، فهو الذي نزل فيه قول الله -تبارك وتعالى- {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}[البروج:1] {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ}[البروج:2] {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}[البروج:3] {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ}[البروج:4] {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ}[البروج:5] {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ}[البروج:6].
هذا المَلِك الحِميري لمَّا دخل الناس في النصرانية بدعوة عبد الله ابن السَّامر -رحِمَه الله-؛ وبتعليم هذا الراهب النصراني، وقام وأخذ كل مَن دخل في هذه النصرانية وأبادهم وحرَقَهم على هذا النحو، لم ينجوا إلى رجل واحد؛ وهذا الشخص ذهب إلى قيصر مَلِك الروم واستجاره على ذو نواس، فجاء قيصر وكتَبَ لمَلِك الحبشة أن يُرسِل جيشًا لحرب هذا المَلِك؛ الحِميري، فانتدب لذلك جيش وجعل عليه أبرهة الحبشي وقائد أخر يُسمَّى أرياط، وجائوا بهذا الجيش إلى الحبشة فقضوا على مُلك حِميَر؛ واتخذوا اليمن قاعدة لهم، وبدأت النصرانية تنتشر وقامت حروب بين أرياط وبين أبرهة انتهت في النهاية بقتل أرياط وبقي أبرهة، ثم إنه غَضِبَ عليه ملِك الحبشة فاستماله وأرسل له، كان يُقسِم أنه سيطأ أرض اليمن ويجُزَّ ناصيته، فجاء أبرهة الحبشي جزَّ ناصية نفسه وأرسل له كيس فيه تراب من اليمن، وقال له يا أيها الملِك طأ هذا التراب وهذه ناصيتي، وتذلَّلَ له فأبقاه ملِكًا على اليمن، وقال أبرهة بأنه سيبني في اليمن كنيسة لم يُرَ مثلها؛ وأنه سيدعوا العرب إلى الدخول في النصرانية، فبنى كنيسة عظيمة في صنعاء كانوا يُسمُّونها القُليس من بياضها ومن كِبَرِها، وقيل سُمِّيَت القُليس لأنه كان كل مَن يطَّلِع إلى أعلاها تقع قلنسوته، أغضب هذا كثير من العرب وقريش على الخصوص؛ وأرسلوا مَن دخل إلى هذه الكنيسة وأشعل النار في جوانبها فحرَّقَها وهدَّمَها، وقيل أنه أُرسِل رجل وتخلَّى في هذه الكنيسة وقذَّرها، فاستشاط أبرهة غضبًا لذلك ووجَدَ أن الجزاء لهذا هو أن يهدِمَ الكعبة، فجمع جيشة وأتى بالأفيال ولم تكُن تعهد العرب القتال بالفيلة، فأخذ مجموعة من الأفيال؛ قيل إثنى عشر فيلًا، وكان على رأسهم فيل عظيم يُسمَّى محمود، وأخذ جيشًا كثيفًا وأتى به حتى لا يمكن أن يُقاوم، في أثناء سفَرِه تصدَّى له بعض قبائل العرب لردعه ولكن كانت قوى غير مُتكافِئة، تصدَّى له رجل يُسمَّى ذو نفر، وتصدَّى له نُفَيل الخثعَمي فأسَرَه وأخذه معه دليلًا له، لمَّا مَرَّ على الطائف صانَعَه أهلها وأرسَلوا معه أبو رُغال ليكون دليلًا له؛ يدُلُّه في أرض الحجاز إلى أن يصِلَ مكة، وأبو رُغال هذا الذي تضرِب به العرب المَثَل؛ وقد رجموا قبره بعد ذلك، لأنه هو الذي قاد جيش أبرهة ليدُلَّهم على الطريق إلى مكة.
لمَّا وصَل أبرهة بجيشه إلى قُرب مكة سرَّحَ جيشه في النواحي وأخذوا سَرْح أهل مكة؛ ومن جملة ما أخذوه مائتي بعير لعبد المُطَّلِب، ثم إن أبرهة أرسَلَ إلى قريش؛ إلى أشرافهم، يُبلِّغهم أنهم إن كفوا عنه فإنه سيكُفَّ عنهم وإلا فإن مقصِدَه أن يهدِم الكعبة، فإن خلُّوا بينه ذهب وإلا عارضوه ووقفوا أمامه قاتلهم، لمَّا ذهب هذا الوفد أتى ببعض الأشراف ومنهم عبد المُطَّلِب اللي هو جَد النبي -صلوات الله والسلام عليه-، ولمَّا دخل عبد المُطَّلِب على أبرهة أعظَمَه أبره؛ وذلك قيل لجمال عبد المُطَّلِب، ولجسامته، ولوسامته، فكلَّمَه وقال له نحن لن نقِف أمامك، قال له ماذا تطلُب مِنِّي؟ قال له جيشُك أخذ مائتين من إبلي، فقال له لقد عظُمتَ في عيني أول ما رأيتك والآن صغُرتَ في عيني، أنا قادم لأهدم بيتكم، وكعبتكم، ورمز عِزِّكم، ثم تسألني في مجموعة من الإبل، فقال له أنا رب الإبل؛ وهذا البيت له رب يحميه، قال له فإني قادم لهدمِه، فقال له أنت وذلك، هذا له رب يحميه وأنت وذاك، إذا تظُن أنك تهدِمُه فافعل، ورجَعَ عبد المُطَّلِب فأمر أهل مكة وقريش بأن يتحصَّنوا بالجبال وأن يخرجوا منها حتى لا يطأئهم ولا يُذِلُّهم هذا الجيش بدخوله؛ وأن يتركوا مكة ويُخلُّوهم، وهُم في قُرب مكة عند وادي مُحسِّر جاء نُفَيل ابن حبيب الخثعَمي الذي أسروه وكان قد تصدَّى لجيش أبرهة، جاء نُفَيل هذا إلى أُذن الفيل الكبير محمود وقال له يا محمود هذا بيت الله؛ لا تذهب وإن أجبروك فابرُك في مكانك، فبرَكَ الفيل في مكانه وضربوه في مراقِه، وفي كل مكان، وعلى رأسه ليقوم فما أمكنهم ذلك، فكانوا لما يُوجِّهوه إلى الشام يسير؛ إلى اليمن يرجِع، وإذا وجَّهوه إلى مكة فإنه لا يتحرَّك، ثم أنهم في هذه الأثناء أرسَلَ الله -تبارك وتعالى- عليهم طير كما قال الله هنا طير أبابيل؛ جماعات من الطيور، وقيل أن هذه الطيور كل طير يحمِل في مِنقاره حجر صغير وفي أرجُله في كل رجل حجر، ثم أسقطوا هذه الحجارة على هذا الجيش فانتشر فيهم وباء أهلَكَ مَن أهلَكَ فيهم في التَّو والحال، وبدأ الجيش يهرب ويتساقط شيئًا فشيئًا؛ وانتشر المرض فيه، حتى أن أبرهة الذي هو رأسهم أخذوه في الطريق فتساقط قطعة قطعة، قيل أنه مات في الطريق وقيل أنه وصَلَ صنعاء وقد تهرَّى جسمه ومات بها.
يُذكِّر الله -تبارك وتعالى- ويذكُر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين؛ ويُبيِّن فضله على قريش بالذَّات وهم سكان هذا البيت، يقول -جل وعلا- {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}[الفيل:1]، وكل ما فيه ألم ترَ قد أراه الله -تبارك وتعالى-؛ وقد رأى العالمون كيف صنع الله -تبارك وتعالى- بأصحاب الفيل، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}[الفيل:1]، تذكير بصنيع الله -تبارك وتعالى- وفعله العجيب بأصحاب الفيل وهُم هذا الجيش العَرَمرَم الضخم؛ جيش الحبشة الذي أتى قاصدًا بيت الله -تبارك وتعالى- ليهدِمَه، وسُمُّوا أصحاب الفيل لأن الفيل كان أعظم رمز عندهم في هذا الجيش؛ والعرب لا قوة لقتالهم، العرب تُقاتِل على الخيل؛ والخيل تنفِر من الفيل، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}[الفيل:1]، قال -جل وعلا- {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ}[الفيل:2]، سؤال يُراد به التقرير، الكَيد هنا هو مكرَهم وتدبير الخبيث في هدم كعبة الله -تبارك وتعالى- وبيت الله، جعل الله -تبارك وتعالى- هذا الكَيد في تضليل، فإن هذا الكَيد والمَكر الذي مكروه؛ إعداد العُدَّة، وأخذ الجيش، وجعل الفيلة على مُقدِّمة هذا الجيش، والسير في الطريق، وإشاعة الرعب في العرب، كل هذا الكَيد وأخذ الفيلة أنهم سيربِطوا البيت بالحبال؛ ويربِطوا هذه الحبال بالفيلة، ثم يزجروا الفيلة فيُسحَب البيت ويُهدَم هدمة واحدةن قال -جل وعلا- {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ ........}[الفيل:2]، كَيدَهم ببيت الله -تبارك وتعالى- {فِي تَضْلِيلٍ}، كل هذا التدبير والكَيد والعمل الذي عَمِلوه انتهى إلى تضليل وإلى ضلال، لم يحصلوا من وراء ذلك على شيء؛ بل حصَّلوا الخيبة، والندامة، والحسرة، وهلاك جيشهم، وهلاك أمتهم.
قال -جل وعلا- {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ}[الفيل:3]، أرسَلَ الله -تبارك وتعالى- عليهم؛ على هذا الجيش، {........ طَيْرًا أَبَابِيلَ}[الفيل:3]، قيل أبابيل؛ جماعات، يعني جماعات جماعات تأتي وتُلقي بهذه الأحجار، وانظر المُفارَقَة بين الطير الصغير وبين الفيل الكبير، فهؤلاء أتوا بالفيل وهو من أضخم الحيوانات؛ وأقواها، وأعنفها، وجعلوه في مُقدِّمة الجيش، والله -تبارك وتعالى- أرسَلَ لهم جُنْد صغير جدًا وهو طير، وهذا الطير قيل أنه مثل السنونو؛ مثل الخُطَّاف الصغير، فهو من أضعف الطيور ويحمِل أحجار صغيرة، وهؤلاء بعُدَّتِهم وعتادهم لكن الله -تبارك وتعالى- أرسل لهم هذا الجُنْد الصغير؛ وكان هلاكهم به، يعني أهلكهم الله -تبارك وتعالى- بمجموعة من الطيور الصغيرة؛ وهذا لحقارة شأنهم على الله -تبارك وتعالى-، انظر إن الله لم يُرسِل لهم جُنْدًا كثيفًا كريح عاصفة؛ وصاعقة، وجُنْد من الملائكة، ولكنه أرسل لهم هذه الجنود الصغيرة الضعيفة، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}، انظر هذا الجُنْد، {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ}[الفيل:3].
قال -جل وعلا- {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ}[الفيل:4]، وماذا يكون هذا الحجر الذي يحمله هذا الطير؟ الحجر هذا كان كحبَّة الحُمُّص؛ حجر صغير، {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ ........}[الفيل:4]، انظر ماذا تصنع هذه الحجارة في هذه الفيلة وفي هذا الجيش، لكن هذه الحجارة من سِجِّيل؛ السِجِّيل هو الطين الذي أوقِدَ عليه حتى يُصبح حجارة، يعني هي حجارة أصلها من الطين وحُميَ عليه وأوقِدَ عليه حتى أصبح بهذه الصلابة، فهي حجارة صغيرة من سِجِّيل، قال -جل وعلا- {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}[الفيل:5]، جعلهم؛ جعل هؤلاء الكفار، كعَصْف؛ العَصْف هو القش كعيدان القمح ونحوها، هذا العَصْف إذا أُكِل فإنه يتهرَّى ويصبح مثل العجينة، يعني أنه الله -تبارك وتعالى- جعل أجسادهم كهذا؛ يعني كأنها هذا الحشيش وهذه العيدان إلى أكلها، ومضغها، واجترَّها المُجتَر من الإبل؛ أو من المبقر، أو من هذه الحيوانات المُجتَرَّة إذا أكلتها، أو الحيوات الأكول كالخيل والإبل فإنها تجعلها على هذا النحو بعد ذلك، يعني جعل الله -تبارك وتعالى- في النهاية أجسادهم على هذا النحو؛ قيل تهرَّت أجسامهم وتساقطَت قطعة قطعة، فجعلهم؛ جعل هذا الجيش العظيم، {........ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}[الفيل:5]، فانظر هذه السورة بيان لعظَمَة الرب -تبارك وتعالى- وقدرته؛ وأنه يحمي ما أراد الله –تبارك وتعالى- حمايته، أن هذا بيته وأنه قد حماه -سبحانه وتعالى- والحال أن هذا وقت كُفر وشِرك؛ ولم يكُن هناك لهذا البيت أعوان من أهل الإسلام ومن أهل قوة يحمونَه، لكن الله -تبارك وتعالى- حماه على هذا النحو، وهذه مِنَّة من الله -تبارك وتعالى- على قريش بالذَّات لأن هذا البيت هو أمنهم، ومكانهم، وحِماهم، وفيها مِنَّة على أهل الإسلام جميعًا، ومِنَّة ببيان بِعثة النبي -صلوات الله والسلام عليه- فإن النبي ولِدَ في هذا العام، ولِدَ في هذا العام وكأن هذا إيذان بهذه المعجزة التي جعلها الله -تبارك وتعالى- في هذا الجيش الذي أراد الكعبة بسوء، فيولَد النبي بعد ذلك الذي يرتبط اسمه ودعوته بهذا المكان، فإن من هذا المكان مكة ومن جوار الكعبة تنطلِق دعوة الإسلام، ويصبح هذا البيت هو القِبلة التي يوجِّه الله -تبارك وتعالى- إليها أنظار المسلمين خمس مرات في يومهم وليلتهم، قدرة الرب -تبارك وتعالى- ومِنَّتَه {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ}[الفيل:1] {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ}[الفيل:2] {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ}[الفيل:3] {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ}[الفيل:4] {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}[الفيل:5].
ثم قال -تبارك وتعالى- التي تلي {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ}[قريش:1] {إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}[قريش:2] {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}[قريش:3] {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}[قريش:4]، قيل {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ}[قريش:1]، أنها مرتبطة بالسورة التي قبلها، يعني أن الله -تبارك وتعالى- حمى هذا البيت وأهلَكَ هذا الجيش لإيلاف قريش؛ لتألَفَ قريش هذا المكان وتعيش فيه، وقيل {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ}[قريش:1]، يعني لتألف قريش هذا المكان؛ مكان بيت الله -تبارك وتعالى- مكة، الوادي الذي غير ذي زرع، فإن الله -تبارك وتعالى- وتعالى- جعلهم يألفون رحلة في الصيف ورحلة في الشتاء كلها للتجارة، {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ}[قريش:1]، هذا ذِكر من الله -تبارك وتعالى- بإنعامه على قريش، قريش هم أبناء النَّضر ابن كِنانة، النَّضر هو الذي سُمِّيَ بقريش، النَّضر ابن كِنانة هو الذي سُمِّيَ بقريش؛ وقيل أن قريش هي دابة البحر، دابة البحر اللي هو القرش فهذا تصغير؛ هذه السمكة المعروفة المتوحشة التي هي أقوى أسماك البحر، قيل أن قريش سُمِّيَت بهذه الدابة، سُئِلَ ابن عباس من أين قريش؟ قال هي دابة البحر وهذا تصغير، وقيل أن قريش من القرش؛ أنهم يتقرَّشون بمعنى أنهم يشتغلون بالتجارة، والأول هو الأصَح -إن شاء الله- في تسمية قريش، فكل أولاد النَّضر ابن كِنانة هم قريش وقد يُنسَبون إلى فِهر ابن مالك؛ فِهر ابن مالِك ابن النَّضر، وذلك أن أولاد النَّضر ابن كِنانة كلهم اجتمعوا في فِهر فقط؛ هو الذي بقي من أولاده، فقيل أيضًا أن قريش تُنسَب إلى فِهر ابن مالك؛ وهذا نعم فِهر ابن مالك، لكن الذي يُسمَّى قريش هو النَّضر ابن كِنانة.
قريش الله -تبارك وتعالى- اختارها وسكنت هذا المكان، اختار الله -تبارك وتعالى- من قريش بعد ذلك عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه- من أشرف بطونها، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «إن الله اصطفى كِنانة من وَلَد إسماعيل؛ واصطفى قريشًا من كِنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»، فهو خيار من خيار -صلوات الله عليه وسلم-، يقول «فأنا خيار من خيار»، فالنبي مختار من الله –تبارك وتعالى- من هذا العِرق النقي الذي اصطفاه الله -تبارك وتعالى-؛ فمن أولاد إسماعيل اختار الله كِنانة، ومن كِنانة اختار الله -تبارك وتعالى- قريش، ومن قريش اصطفى الله -تبارك وتعالى- بني هاشم، ومن بني هاشم اختار الله -تبارك وتعالى- محمد ابن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه-، فقريش المنسوبون إلى النَّضر ابن كِنانة سكنوا بعد ذلك في زمن قُصَي ابن كلاب، قُصَي هو الذي جمَّعَ هؤلاء وانتصر على خُزاعة وسكن في مكة؛ وكان هذا إيذان وإرهاص لخروج النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فيَمتَنُّ الله -تبارك وتعالى- على هذه القبيلة التي اختار منها عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، قال -جل وعلا- {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ}[قريش:1]، يعني لإلفِهِم المكان، يعني هذا البيت ومكان البيت؛ مكة.
{إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}[قريش:2]، جلهم الله -تبارك وتعالى- يألفون رحلة من مكلة في الشتاء والصيف؛ فكانوا في الشتاء يذهبون إلى اليمن، وفي الصيف يذهبون إلى الشام، رحلة في شتائهم إلى اليمن ورحلة في الصيف إلى الشام يُتاجِرون، واليمن حاضرة زراعية؛ وكان فيها تجارات عظيمة، وكان فيها مصانع للنسيج، وبلاد الشام بلاد عامرة؛ فيها التجارات العظيمة، والصناعات، والزراعات، مكة بلد صحراوية ليس فيها إنتاج زراعي ولا كذلك إنتاج صناعي، كانت قريش تأتي بهذه التجارات ومكة هي مجمَع العرب من كل مكان؛ يأتون فيها للحج، فيكون عرض قريش للتجارة التي يستجلِبونها من اليمن ومن الشام فيكونوا بهذا تُجَّار، وكانوا من أغنى الناس بتجارتهم هذه التي يُتاجِرون فيها؛ ويأتيهم العرب من كل مكان، وكان مِنى من أعظم الأسواق؛ وفيه ذي المِجَنَّة، وسوق المجاز كذلك، وكان هناك سوق عُكاظ في الطائف، لكن أعظم الأسواق هي التي كانت في مكة، {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ}[قريش:1] {إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}[قريش:2]، جعلهم الله -تبارك وتعالى- يألفون هاتي الرحلتين؛ هي حبيبة إلى نفوسهم، ويذهبون؛ يذهب شُبَّانهم ويذهب كبارهم إلى التجارة، وكان أهل مكة كذلك إما أن يكون تُجَّار بأنفسهم أو مُقارِضين بمالهم، فالشخص منهم الذي يقعُد عن التجارة يقوم يُقارِض بماله؛ يُعطي ماله لغيره ليُتاجِر فيه والربح يكون بينهما، وقد أقرَّ الإسلام هذا النوع من العقود اللي هو عقد المُقارضة أو المُضاربة، {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ}[قريش:1] {إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}[قريش:2].
قال -جل وعلا- {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}[قريش:3]، أمر من الله -تبارك وتعالى- لهم بأن يعبدوا رب هذا البيت؛ هذا البيت الذي هو رمز عِزِّهم، ورمز مجدهم، والذي هو مأواهم الذي يأوون إليه؛ ومكانهم الذي هم فيه، يعبدوا ربه -سبحانه وتعالى-، ربه؛ البيت هذا منسوب إلى الله -تبارك وتعالى- لأنه مبني لله ليكون مكانًا يُعبَد فيه الرب -تبارك وتعالى-؛ وتتوجَّه الأنصار إليه في صلاتها وعبادتها لله -تبارك وتعالى-، {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}[قريش:3] {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ ........}[قريش:4]، فالله -تبارك وتعالى- من إكرامه لقريش ولِمَن عاش في هذه الأرض القاحلة أنه أطعمهم من جوع، فهي أرض جوع لكن الله -تبارك وتعالى- أطعمَهم بما يسَّرَ الله -تبارك وتعالى- لهم من الخيرات العظيمة التي تكون في هذا المكان المُقفِر، كما قال -جل وعلا- {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}، هيَّأ الله -تبارك وتعالى- لهم هذا الحَرَم اللي هو أرض مكة آمن؛ لا يُراق فيه الدم، كان العربي على كُفرِه بالله -تبارك وتعالى-؛ وعدم إيمانه بالبعث، وبالجزاء، وبالحساب، لكنه كان يُعظِّم هذا البيت؛ يرى قاتل أبيه وقاتل أخيه فلا يمَسُّه في البيت يقول هذا بيت الله، ثم إن أهل البيت لهم تعظيمهم عند كل العرب ومكانتهم؛ يقولوا هؤلاء أهل بيت الله -تبارك وتعالى- لا يُمَسُّون، فإذا كان قرشي يسير ليلًا أو نهارًا في أنحاء الجزيرة ولا يعترِضَه معتَرِض ولا يَمَسُّه أحد؛ فهذا من إنعام الله -تبارك وتعالى- عليهم.
الله يقول {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}[قريش:3] {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}[قريش:4]، فجعل مكانهم أولًا مكان تُجبى إليه ثمرات كل شيء، كل ثمرات الأرض كانت تُجبى إلى هذا المكان؛ وهو مكان لا زرع فيه ولا نَبْت، لكن الله -تبارك وتعالى- جعله مُستقَر لهذه الثمرات، {........ يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[القصص:57]، {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}، آمَنَهم الله -تبارك وتعالى- من الخوف، فإن الله -تبارك وتعالى- جعل هذا الحَرَم آمِنًا، وكانت خلاص؛ أرض الحَرَم أرض آمنة، وتعارف العرب على هذا الأمر وكانوا خلاص؛ إذا وصلوا إلى أرض الحَرَم فإن كلًا منهم يكُف عن عدوه، وإذا لجأَ عدوه إلى هذا المكان فإنه ينتظره خارج الحَرَم، لا يُهاجِمه فيه ولا يقتله فيه حتى يخرج من الحَرَم، إذا خرج من الحَرَم قاتَلَه وأما طالما هو في مكان المسجد الحرام ومكان الحَرَم فإنه لا يقرَبُه؛ فهذا في الجاهلية، {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا}، فهذا يمتَنُّ الله -تبارك وتعالى- به على قريش؛ وأنها يجب أن تقوم بعبادة الرب -تبارك وتعالى-، وقد عاندت قريش في أول الأمر؛ عاندوا الإسلام، ثم إن الله -تبارك وتعالى- شرَحَ صدورهم بعد ذلك؛ ودخَلَ عليهم الإسلام، وقاموا وكانت قريش هي أعظم القبائل قيامًا بعد ذلك بأمر الله -تبارك وتعالى-.
الشاهد أن هاتين السورَتَين؛ سورة الفيل وسورة قريش، كأنهما سورة واحدة يمتَنُّ الله -تبارك وتعالى- فيها بفعله العظيم -سبحانه وتعالى- في إهلاك الفيل؛ وردِّه عن الكعبة، ويمتَنُّ الله -تبارك وتعالى- على قريش في أن بوَّأَ لها وهيَّأَ لها هذا المكان؛ أمَّنَهم فيه من الخوف، أطعَمَهُم فيه من الجوع، وهنا يأمرهم -سبحانه وتعالى- بأن يعبدوه وحده لا شريك له، الحمد لله رب العالمين، وأُصلِّي وأُسلِّم على عبد الله ورسوله الأمين.