الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (798) - سورة الماعون 1-7

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ}[الماعون:1] {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}[الماعون:2] {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[الماعون:3] {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ}[الماعون:4] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ}[الماعون:5] {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ}[الماعون:6] {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}[الماعون:7]، {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ}[الماعون:1]، يعني هل عَلِمت مَن هو الذي يُكذِّب بالدين؟ رؤية عِلم، والتكذيب بالدين؛ التكذيب بالجزاء، الدين هو الجزاء يوم القيامة، كما في قول العرب ((كما تدين تُدان))، {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ}، في نظامه وشرعه، فيُكذِّب بالدين؛ يُكذِّب بهذه الشِّرعة والصراط المستقيم الذي أنزله الله -تبارك وتعالى-، فالمُكذِّب بالشَّرعة، المُكذِّب بيوم القيامة يوم الجزاء، قال -جل وعلا- هذا الذي يُكذِّب بالدين {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}[الماعون:2]، ودَعُّ اليتيم هو دزُّه، وقهره، وإبعاده، واليتيم وهو الذي مات أبوه وهو دون البلوغ، كل مَن مات أبوه وهو دون البلوغ فهو يتيم، ولا يُتْم بعد احتلام؛ إذا احتلَم فلا يُتْم، والأب الكاسب وهو سند أهله فإذا مات الأب غالبًا ما يصبح الأولاد في مقام الضَّعف والفقر فيحتاج إلى العناية، ولذلك جائت الشريعة بالعناية باليتيم؛ حفاظًا على ماله، عدم قربانه إلا بالتي هي أحسن، {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، التحذير الشديد من أكل ماله بالباطل، {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}[النساء:10].

وجاء في العناية به قال النبي «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة»، وكون شخص يتجرَّد من الرحمة ويدُعُّ اليتيم؛ يدُزُّه، ويقهره، ويصرفه، ويُبعِده، أخبر -سبحانه وتعالى- بأن هذا نابع من عدم إيمانه بالجزاء يوم القيامة، وهذا دليل على أن دَز اليتيم، وردعه، وزجره، ودعُّه، كل هذا دليل على أن هذه كبيرة عظيمة من الكبائر التي يُعاقَب عليها، ولو كان هذا الذي يدُعُّ اليتيم مؤمنًا بالجزاء يوم القيامة ما دَعَّ اليتيم؛ ما صنع هذا الصنيع، {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ}[الماعون:1] {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}[الماعون:2].

ثم قال -جل وعلا- {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[الماعون:3]، الحَض هو الحَث، يعني لا يَحُث أهله وغير أهله من الناس أن يُطعِموا المسكين، والمسكين هو المحتاج الذي لا يُفطَن له غالبًا، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي تردُّه الُّلقمة والُّلقمتان، ولكن المسكين رجل لا يجِد غِنىً يُغنيه؛ ولا يُفطَن له فيُتصدَّق عليه»، وقيل هي من السكون؛ ذُل الحاجة يجعله في حالة سكون وعدم نشاط كما هي حالة المُستغني، {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[الماعون:3]، يحُضُّ غيره ويحُثُّ غيره، ومعنى أنه لا يحُضُّ غيره إذن هو بنفسه غير باذل للمسكين، فجُعِلَ عدم الحَض على طعام المسكين جريمة، ليس فقط أن يمنع رِفدَه ويمنع فضله عن المسكين بل كذلك جُعِلَت جريمة أنه لا يحُضُّ غيره من أهله وممَن حوله من الناس على طعام المسكين، الكُفر هنا اقترن بهذه الأفعال التي هي أفعال من انتزاع الرحمة؛ ومعرفة حاجات العباد ومعالجتها، فكأن مَن انتُزِعَت الرحمة من قلبه فأصبح يدُعُّ اليتيم ولا يحُضُّ على طعام المسكين؛ وهذان صِنفان من أهل الفقر، والمسكنة، والذُّل، ممَن يحتاجون إلى الناس أن يرحموهم وأن يعتنوا بهم، فيكون نصيبهم من هذا الكافر قاسي القلب الدَّع، والدَّز، وعدم الحَض على ذلك، والانصراف عن هذا، فاقترن الكُفر بانتزاع الرحمة من القلب، {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ}[الماعون:1] {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}[الماعون:2] {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[الماعون:3]، فكأن الكُفر بيوم القيامة هذا أصل ينبُع منها هذا الفساد الذي يكون، كأن هذه شُعَب الكُفر؛ والكُفر مادته، وهذا إفرازه وإمداده.

ثم قال -جل وعلا- متوَعِّدًا كذلك الطائفة المُرائية {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ}[الماعون:4] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ}[الماعون:5] {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ}[الماعون:6] {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}[الماعون:7]، فهذا كذلك صِنف من عدم الإيمان بيوم القيامة؛ وعدم الإيمان بالجزاء والنفاق، قال -جل وعلا- {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ}[الماعون:4]، الوَيل؛ كلمة تهديد ووعيد، أو هو مكان في جهنم يتوَعَّد الله وبه ويتهدَّد فاعل هذه الجريمة، قال {........ لِلْمُصَلِّينَ}[الماعون:4]، هم في الظاهر من أهل الصلاة، يعني أنهم من أهل الصلاة لكنهم قال {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ}[الماعون:5]، قيل عن صلاتهم ساهون يعني ليس في صلاتهم ساهون ولكنهم عنها ساهون، السَّهو هو الإهمال، والترك، والنسيان، منها ما ذكَرَه النبي عن صلاة المنافق فقال «تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يجلس يرقُب الشمس حتى إذا كانت بين قرنَي شيطان قام فركَعَ ركعتين لا يذكُر الله فيهما إلى قليلًا»، وهذا ينطبِق على مَن ينتظِر العصر حتى تكون الشمس مالت إلى الغروب فيقوم لعلَّه يُدرِك الوقت قبل خروج الوقت، أو الذي ينتظر في صلاة الصبح إلى قُرْب طلوع الشمس فيُصلِّي الصلاة قبل طلوع الشمس، يركَع ركعتين لا يذكُر الله -تبارك وتعالى- فيها إلا قيل كنقر الغراب، فهذه صلاة المنافق أما المؤمن فإنه حريص على الصلاة؛ يؤدي الصلاة على أوقاتها، كما قال النبي في أفضل العمل «الصلاة على وقتها»، الصلاة على وقتها يعني على أول وقتها، أما الانتظار حتى يقرُب الوقت من الخروج فيقوم يُصلِّي فهذه صلاة المنافق؛ هذا نوع من السَّهو عن الصلاة.

كذلك من السَّهو عن الصلاة عدم إقامة شرائطها؛ فإن الصلاة لها شروط لا تصِح إلا بها، كالطهارة؛ بالغُسْل من الجنابة، وبالوضوء من الحَدَث، وبطهارة الثياب من الدَّنَس، وبطهارة المكان، فالطهارة شرط من شروط الصلاة، دخول الوقت، استقبال القِبلة؛ هذا كله من شرائط الصلاة، فهو مُضَيِّع؛ يعني قد يكون مُضيِّع لشرائط الصلاة أو مُضيِّع لأركانها، فإن الصلاة يجب أن تُصلَّى كما أُمِرنا أن نُصلِّي، «صلوا كما رأيتموني أُصلِّي»، النبي علَّمَ الصلاة تعليمًا لأصحابه -صلوات الله والسلام عليه- في كيفياتِها؛ كيفية القيام، وكيفية الركوع، وكيفية الاعتدال، قال «لا ينظر الله إلى صلاة رجل لا يُقيم صُلبَه من الركوع»، لابد أن يُقيم صُلبَه من الركوع وتعود كل فقرة من فِقار الظهر إلى مكانها عندما يقول سَمِعَ الله لِمَن حَمِدَه، «فإذا سجد يسجُد على سبعة أعظُم»، على الجبهة والأنف؛ عظم، واليدين اللي هم الكفين؛ هذين اثنين، والركبتين، والقدمين، وينزل فيهبط إلى السجود مُقدِّمًا يديه قبل ركبَتَيه، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «لا يبرُكَنَّ أحدكم كما يبرُك البعير عن السجود؛ وليُقدِّم يديه قبل رُكبَتَيه»، هذا هو الصحيح من أقوال أهل العِلم، ثم إذا جلس بين السجدتين فيجلس حتى يطمئن جالسًا، ليس فقط أن يرفع رأسه من السجود وقبل أن يجلس ويعتدل في جلوسه يسجُد؛ وقد علَّمَ النبي هذا للمُسيء صلاته، «جاء رجل فصلَّى ثم أتى النبي فسَّلَمَ عليه، فقال له النبي ارجع فصلِّي فإنك لم تُصلِّ، فقال والذي بعثَكَ بالحق لا أُحسِنُ غير هذا فعلِّمني»، بعد أن ردَّه النبي ثلاث مرات وهو يقول له ارجع فصلِّي فإنك لم تُصلِّي، «فقال له النبي -صل الله عليه وسلم- إذا قُمت إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ بفاتحة الكتاب، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدِل قائمًا، ثم اسجُد حتى تطمئن ساجدًا، ثم اجلس حتى تطمئن جالسًا، ثم اجعل ذلك في صلاتك كلها»، فأخبر أن كل رُكْن من هذه الأركان يجب أن يُعطى حقَّه من الاطمئنان؛ وأنه لابد أن يقع الرُّكن ويطمئن المُصلِّي في أداء كل رُكْن، ولا يُستهان بأي رُكْن من الأركان كالاستهانة بالقيامة من الركوع، في أن يكون راكعًا فيقول سَمِعَ الله لِمَن حَمِدَه؛ وقد يسجُد قبل أن يعتدِل في وقفته، وقال النبي -صل الله عليه وسلم- «لا ينظر الله إلى صلاة رجل لا يُقيم صُلبَه من الركوع»، ومعنى أنه لا ينظُر إليها أنه يُخلِّي صاحبها؛ يتركه ولا يقبَل صلاته، فصلاته مردودة كأنه لم يُصلِّ، كما قال النبي للمُسيء صلاته «ارجع فصلِّي فإنك لم تُصلِّ»، ولذلك رأى حُذيفة من الصحاب رجل يُصلِّي مثل هذه الصلاة التي لا يُقيم أركانها، فقال له منذ كَم تُصلِّي هذه الصلاة؟ قال منذ أربعين سنة، فقال له أنت لم تُصلِّ منذ أربعين سنة؛ مِتَّ على هذا مِتَّ على غير مِلَّة محمد -صل الله عليه وسلم-، قال له هذه الصلاة التي قد داومت على صلاتها أربعين سنة كأنك لم تُصلِّ منذ أربعين سنة، ولو مِتَّ على هذا وأنت تُصلِّي هذه الصلاة مِتَّ على غير مِلَّة محمد -صلوات الله والسلام عليه-، فأصبح من أداء الصلاة المُتقبَّلة كما فرَضَها الله -تبارك وتعالى- أن تؤدَّى أركانها، فلابد أن تؤدَّى بأركانها وبهيئاتها كما علَّمَ النبي –صلوات الله والسلام عليه-، والاطمئنان رُكْن في كل رُكْن من أركان الصلاة فلابد أن يتِم الرُّكْن ويطمئن.

كذلك فإن المأموم له أحكام مع الإمام، فإن المأموم إذا سابق الإمام فصلَّى مثل صلاته؛ صلَّى معه، إذا كَبَّرَ كبَّرَ معه، وإذا ركَعَ ركعَ معه، وإذا سجدَ سجدَ معه، فلا صلاة له؛ لا يكون قد صلَّى مأمومًا، لابد أن يأتَم بإمامه، كما قال النبي «إنما جُعِلَ الإمام ليؤتَمَّ به»، لماذا جُعِل إمام؟ حتى يؤتَمَّ به، ثم بيَّن النبي كيف يؤتَم بالإمام فقال «فإذا كَبَّرَ فكَبِّروا؛ ولا تُكَبِّروا حتى يُكَبِّر»، فإذا كبَّر يعني قال الله أكبر فلا يشرَع المأموم في التكبير إلا بعد انتهاء الإمام من التكبير، إذا قال الإمام الله أكبر وانتهى من التكبير عند ذلك يُكَبِّر المأموم، قال «ولا تُكَبِّروا حتى يُكَبِّر، وإذا ركَعَ فاركعوا؛ ولا تركعوا حتى يركَع»، فيجب أن ينتهى الإمام من التكبير؛ فيقول الله أكبر ويركَع، وعندما يكون في الرُّكْن والركوع عند ذلك يشرَع المأموم في الرُّكوع، ثم قال «فإذا رفَعَ فارفعوا؛ ولا ترفَعوا حتى يرفَع»، فإذا رفَعَ من الركوع وقال سَمِعَ الله لِمَن حَمِدَه واعتدل عند ذلك يقول المأموم ربنا لكَ الحمْد، وقال النبي كذلك «فإذا سجدَ فاسجدوا؛ ولا تسجدوا حتى يسجُد»، وهكذا فإن المأمون يجب أن يقتدي بإمامه، فإذا كان يُكَبِّر مع تكبيره ويركَع مع ركوعه فلا صلاة له، أما إذا كان يُسابِقه فيُكَبِّر ويدخل في الصلاة قبل أن يُكَبِّر الإمام، إذا قال الإمام الله أكبر في بداية الهمزة يكون هو كبَّرَ ودخل في الصلاة قبل الإمام، وإذا كان الإمام مازال في السجود فهو يرفَع رأسه من السجود؛ أو كان في الركوع فيرفَع قبل أن يرفَع الإمام، هذا ليس فقط صلاته باطلة بل إنه مُنذَر بعقوبة شديدة، كما جاء في قول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «أما يخشى الذي يرفَع رأسه قبل الإمام أن يُحوِّل الله رأسه رأس حمار»، يقول ما يخاف هذا أن يُحوِّل الله رأسه رأس حمار؛ قيل يوم القيامة، قيل أن هذا في يوم القيامة يجعله الله -تبارك وتعالى- على هذا النحو لأنه لم يفقه الأمر، فإنه قد جعل إمامًا أمامه وإنما هو يُسابِقه ويرفَع قبله؛ وهذا لا فِقه له ولا فَهْم له، لأن هذا لا يُفيده أصلًا في الصلاة، ثم ولماذا ستُصلِّي مأموًا إذا كنت تسابق الإمام وتكون أنت قبله؟ فهذا فيه عقوبة، وللأسف أن كثيرًا من الناس يقَع في مثل هذا مع مُخالَفَته، فهذا كله داخل في معنى أنهم {........ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ}[الماعون:5].

قال أهل العِلم {........ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ}[الماعون:5]، أنه يشمل هذا كله؛ يشمل تأخيره للصلاة إلى آخر وقتها، ويشمل قبل هذا سهوهم عن الصلاة بالكلية، فهو يُصلِّي لكنه يترك الصلاة ويُضيِّعُها حتى يخرُج وقتها، طبعًا إذا ضيَّعَها حتى يخرُج وقتُها فهذا أكبر سهو عن الصلاة مُتعَمِّدًا هذا، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «مَن ترك صلاة العصر فكأنما وتِرَ أهله وماله»، وقال «مَن ترك صلاة العصر فقد حَبِطَ عمله»، فهذا يحبَط عمله بالكلية، ولا شك أن الظهر والمغرب والعشاء كالعصر في ترك الصلاة مُتعَمِّد، فترك صلاة واحدة مُتعَمِّدًا «مَن ترك صلاة واحدة مُتعَمِّدًا حتى يحرُج وقتُها فقد أبطَلَ عمله كله»، قيل عمل اليوم وقيل لا؛ بل كل عمله في الصلاة، والصوم والزكاة، والحج، كل عمله في الدين قد أبطَلَه بتعَمُّده ترك الصلاة حتى يخرُج وقتُها، لأن الصلاة قد فرَضَها الله -تبارك وتعالى- بمواقيتها فقال {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}، كتاب بمواقيته، ولذلك لا يُعفى عن المُسلِم في تأخير الصلاة إلا بعُذر النوم أو النسيان فقط، كما قال -صل الله عليه وسلم- «مَن نام عن صلاة أو نسيها فليُصلِّها إذا ذكَرَها؛ لا كفَّارة لها إذا ذلك»، فبالنوم وهذا عُذْر والنسيان وهذا عُذْر كذلك، «مَن نام عن صلاة أو نسيها فليُصلِّها إذا ذكَرَها؛ لا كفَّارة لها إذا ذلك»، ومعنى إذا ذكَرَها يعني إذا قام من النوم وكان قد ذهبَ وقت الصلاة فليُصلِّها في الوقت مباشرة، حتى لو كانت صلاة من صلاة النهار يُصلِّيها في الليل؛ قام في الليل فيُصلِّيها، أو صلاة من صلاة الليل كالمغرب والعشاء ثم لم يستيقظ إلا في صبيحة اليوم فإنه يُصلِّيها في نفس الوقت؛ ولا ينتظر حتى يأتي المغرب والعشاء ليُصلِّيها.

فكل هذا يدخل في معنى السَّهو عن الصلاة، السَّهو عن الصلاة بتأخيرها حتى يذهب وقتُها عمدًا؛ وهذا فيه هذه العقوبة الشديدة، السَّهو عن الصلاة حتى يُصلِّيها في آخر وقتها اللي هو وقت الكراهة؛ وقد يُدرِكُها وقد لا يُدرِكُها، الرسول يقول هنا هذه صلاة المنافق يؤخِّر الصلاة إلى هذا الوقت؛ الوقت الحَرج هذا آخر وقتها، «ثم قام يُصَلِّي ركعتَين لا يذكُر الله -تبارك وتعالى- فيهما إلا قليلًا»، السَّهو عن شرائط الصلاة فلا يقوم بشروطها كما بيَّنها الله -تبارك وتعالى-، والنبي يقول «لا يقبَل الله صلاة أحدكم إذا أحدَثَ حتى يتوضَّأ»، فلابد أن يكون مُتوَضِّئًا؛ هذا شرط، «لا يقبَل الله صلاة أحدكم إذا أحدَثَ حتى يتوضَّأ»، قيل يا أبا هُرَيرة وما الحَدَث؟ قال فُساء أو ضُراط، فأي حَدَث ينقُض الوضوء لا يقبَل الله -تبارك وتعالى- بعده الصلاة إلا بالوضوء؛ فهذا من شرائط الصلاة، بعد ذلك فمِن أركان الصلاة أن يؤدِّيها بأركانها كما أمَرَ الله -تبارك وتعالى-، أما السَّهو في الصلاة فإن هناك سهو يقع من كل أحد حتى من الحريص فقد يسهوا؛ يعني مثلًا لا يدري أصلَّى ركعتَين أم ثلاث، وذلك أن الشيطان يُغالِب المؤمن ويحاول أن يصرفه، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «إذا أذَّنَ المؤذِّن ولَّى الشيطان خارج المسجد لا يُريد أن يسمع الأذان؛ وله حُصاص، فإذا النتهى التثويب رجع، ثم إذا أُقيمَت الصلاة ولَّى هاربًا»، يعني الشيطان لا يُريد أن يسمع إقامة الصلاة لأن فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، «ثم إذا انتهت الإقامة رجع فيبدأ يوَسوِس للمُصلِّي حتى يُذَكِّرَه ما لم يكُن يذكُره»، يعني هناك أمور كان قد نسيها فيقول له اذكر كذا؛ واذكر كذا، اذكر كذا ...، «حتى يحول بينه وبين صلاته فلا يدري كم صلَّى» هل صلَّى ثِنتَين أو ثلاثة؟، فقال النبي -صل الله عليه وسلم- «فإذا وجد ذلك أحدكم»، يعني أنه أنساه الشيطان كم صلَّى، قال «فليتحرَّى الحق وليسجُد سجدَتين للسَّهو»، فيتحرَّى ما الذي صلَّاه، أو في الحديث الأخر «فليبني على ما يستيقِن»، يعني إذا كان مثلًا شك أنهم ثلاث أو أربعة إذن هم ثلاثة؛ اليقين ثلاثة والرابعة مشكوك فيها، «فليبني على ما يستيقِن يم يسجُد سجدَتين للسَّهو».

فالسَّهو في الصلاة عن عدد ركعاتها ممكن يقع من كل أحد؛ حتى أنه وقعَ من الرسول -صلوات الله والسلام عليه-، فإن النبي -صلوات الله وسلامه عليه- سهى في صلاته أحيانًا وذُكِّر؛ قيل يا رسول الله صليت خمسًا، فلفَتَ رُكبَتيه وسجَدَ سجدَتين للسَّهوا -صلوات الله والسلام عليه-، وفي حديث ذو اليدين «النبي -صل الله عليه وسلم- صلَّى في صلاة رُباعية ركعتَين فقام السُّرعان خرجوا من المسجد، ثم قام ذو اليدين فقال يا رسول الله أنسيتها أم قصُرَت الصلاة؟ فقال النبي بما نسيت وما قصُرَت الصلاة، ثم قال أحقًّا ما يقول ذو اليدين؟ قالوا نعم يا رسول الله؛ صليت ركعتين، فقام النبي فكَّبَّر وصلَّى ركعتين، ثم سجَدَ -صل الله عليه وسلم- للسَّهو»، فالشاهد أن السَّهو في الصلاة ممكن أن يقَع من العبد، والنبي يقول «يُصلِّي أحدكم الصلاة فلا يُكتَب له من صلاته إلا نصفها؛ إلا ثُلُثُها، إلا رُبعُها، إلا خمسها، إلا سُدُسُها»، إلى أن قال -صل الله عليه وسلم- «إلا تُسعُها، وذلك أنه ليس لك من صلاتك إلا ما عقَلت»، فليس للعبد المؤمن من صلاته إلا ما عقَلَه، وأما ما لم يعقِلَه في الصلاة بمعنى أنه انشغَلَ عنه وسهى في الصلاة فإن هذا يضيع عليه، وكذلك الالتفات في الصلاة فإنه كذلك من السَّهو عنها، والمؤمن لا ينبغى له أن يلتفت؛ يجب أن يدع نظره في محِله سجوده ولا يلتفِت في الصلاة، ولمَّا سُئِلَ النبي عن الالتفات في الصلاة فقال «هذه سرقة يسرقها الشيطان من صلاة العبد»، فالشيطان يصرِف بصر الإنسان ويقول له انظر إلى هذا؛ انظر إلى هذا، فلمَّا ينظر إلى هذا انقطَعَ عن الصلاة وينشغل بهذا الذي نظر إليه؛ فيقطع جزء من صلاته كأنه سرَق، العبد تقوم حسناته بقيامه بالصلاة؛ كل وقته وهو في الصلاة حسنات له مادام حاضر القلب وهو يعلم ما يُصلِّي، فإذن انصرَفَ قلبه وانصرفَت عينه؛ وإذا انصرَفَت العين انصرَفَ القلب بعدها، فهذا أصبح نقص ينقُصُه الشيطان من صلاة العبد.

الوعيد هنا في هذه السورة قال -جل وعلا- {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ}[الماعون:4] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ}[الماعون:5]، قال الله عن صلاتهم ساهون ولم يقُل في صلاتهم ساهون، فالذي سهى عن صلاته بهذه المعاني التي ذكَرَها أهل العِلم وذكَرناها أولًا هذا هو الذي داخلٌ في الوعيد، وأما مَن كان ساهيًا في صلاته بفعل الشيطان الذي ذكَّرَه ما لم يكُن يذكُر؛ ولكنه عاد إلا صلاته، فهذا -إن شاء الله- غير داخل في هذا الوعيد، لكنه إذا كان يُصلِّي ساهيًا؛ لاهيًا، عابثًا، غير ساكنًا في الصلاة؛ يعبَث بلِحيَتِه، يعبَث بثيابه، وكأنه واقف في غير الصلاة فإن أهل العِلم قالوا بأنه إذا كان حال الإنسان حال مَن لا يُصلِّي؛ كأنه لا يُصلِّي، فهذا ساهٍ عن صلاته؛ ولا يقوم فيها، وقد أبطلها أهل العِلم، وقال رسول الله -صل الله عليه وسلم- «اسكنوا في الصلاة»، يجب أن يكون هناك سكون، والله -تبارك وتعالى- أثنى على عباده المؤمنين فقال {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}[المؤمنون:1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون:2]، خشوع ظاهري بخشوع الجوارح؛ وسكونها، وعدم العَبَث، وسكون باطني من خشوع القلب؛ وذُلِّه لله -تبارك وتعالى-، وإقباله عليه -سبحانه وتعالى-، فعكس هذا والخارج عن هذا لا شك أنه مذموم، {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ}[الماعون:4] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ}[الماعون:5].

ثم قال -جل وعلا- {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ}[الماعون:6]، فهؤلاء هم المُتوَعَّدون، يُرائي يعني يُري الناس عمله ليُمدَح بهذا أو لينفي عن نفسه تهمة الكُفر كما الشأن في المنافقين؛ أما أنهم كانوا يُصَلُّون حتى تُنفَى عنهم صفة الكُفر فقط، وإلا فهُم كفَّار في قلوبهم ولكنهم كانوا يُصلُّون مع المسلمين لينتفي عن الكُفر؛ وليُظهِروا للناس أنهم مُسلِمون والحال أنهم كفار، فهذا المُرائي الذي يُري الناس عمله على هذا النحو هذا منافق كامل النفاق؛ وهذا لا شك أنه داخل في أصل الوعيد، أو المُرائي مُسلِم ومؤمن بالله -تبارك وتعالى- لكنه يُحِب أن يُمدَح بعمله؛ وهذا كذلك شِرك أصغر، وهذا الذي يُرائي ويُسمِّع الناس بعمله كذلك لا أجر له؛ لا ثواب له في هذا العمل، وهو داخل في الوعيد، {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ}[الماعون:6].

ثم قال -جل وعلا- {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}[الماعون:7]، يعني جمعوا بين خيانتهم في صلاتهم وتقصيرهم في حق الله -تبارك وتعالى-؛ وكذلك تقصيرهم في حق العباد، فإنهم في العباد يمنعون الماعون، الماعون قيل هو كل ما يُستعان به ويتداوله الناس في العادة؛ مثل الفأس، ومثل الحبل للبئر، ومثل الإناء للطبخ، فإن هذه الأشياء كان الناس يتعاورونها بينهم، ومثله في المدن والله هذا احتاج أمر من أخيه المسلم؛ تعطَّلَت سيارته، تعطَّل كذا، الأمور التي في العادة يستعيرُها الناس بعضهم من بعض، {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}[الماعون:7]، داخل فيه هذا؛ يعني يمنعون ما يُستعان به في الحياة في هذه الأمور، وقيل {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}[الماعون:7]، الزكاة لأنها أعظم عَون للفقراء والمساكين، فهم جمعوا بين إفسادهم في الصلاة وكذلك منعهم للزكاة، ولا شك أن الزكاة هي أعلى شيء في الماعون، ثم يشمل هذا لا شك أنه يمنعون العارية؛ التي يستعيرُها الناس ليستعينوا بها في أمر ما، فهُم كذلك حتى هذه العارية؛ التي يتعارف الناس على أنها يُعير بعضهم بعض إياها ويستعين بعضهم ببضع بها، فهُم يمنعونها كذلك، فهُم لا خير فيهم في حق الله -تبارك وتعالى-؛ ولا خير فيهم في حقوق العباد، سورة عظيمة أولًا بيَّنَت الرابطة بين الكُفر وبين ظُلمة القلب وعدم الرحمة، وكذلك بين تضييع حق الله -تبارك وتعالى- وتضييع حق العباد، {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ}[الماعون:1] {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}[الماعون:2] {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[الماعون:3]، فهذا الذي انتُزِعَت الرحمة من قلبه فدَعَّ اليتيم، ولم يحُض على طعام المسكين، هذا لا يمكن أن يكون مُصدِّقًا بالجزاء يوم القيامة، {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ}[الماعون:4] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ}[الماعون:5] {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ}[الماعون:6] {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}[الماعون:7].

هذا والحمد لله رب العالمين، وأُصلِّي وأُسلِّم على عبد الله ورسوله الأمين.