الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}[الكوثر:1] {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}[الكوثر:2] {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}[الكوثر:3]، سورة عظيمة يُبَشِّر الله -تبارك وتعالى- فيها رسوله محمدًا -صل الله عليه وسلم- بهذا العطاء العظيم الذي أعطاه إياه، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}[الكوثر:1]، جاء في صحيح مُسلِم «النبي -صل الله عليه وسلم- كان مع أصحابه في المدينة ثم غفى إغفائة، ثم قام يبتسِم –صل الله عليه وسلم-، ثم قرأ عليهم هذه السورة بسم الله الرحمن الرحيم، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}[الكوثر:1] {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}[الكوثر:2] {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}[الكوثر:3]، ثم قال لهم أتدرون ما الكوثر؟ قال نهر أعطانيه الله -تبارك وتعالى- في الجنة؛ حافتاه قِباب اللؤلؤ، ضرب يدي في تربته فإذا هي المِسك الأزفَر»، ثم أخبر النبي بأنه حوض أعطانيه الله -تبارك وتعالى-، وصَفَه النبي بأنه حوض في المحشَر؛ وأنه يشخُب فيه ميذابان من الكوثر إلى هذا الحوض، وقال «حوضي عرضه مثل ما بين مكة وهَجَر»، يعني أنه بعرض الجزيرة كلها، «وأنه عرضه كطوله من جميع جوانبه، وأن عليه آنية عدد نجوم السماء، وأن أمته تَرِدَه»، ثم قال النبي «ليُزَدَنَّ أقوام من أمتي عن حوضي أعرفهم ويعرفوني؛ ويؤخَذ بهم جهة النار، فأقول أُصيحابي أُصيحابي، فيُقال لا تدري ما أحدثوا بعدك»، هذا الحوض إنما هو من كوثر النبي -صلوات الله والسلام عليه-.
الكوثر؛ النهر الذي في الجنة، والحوض في عرَصات يوم القيامة قال النبي «مَن شرِبَ منه شربة لا يلقى الظمأ بعدها أبدًا»، وحَوض النبي -صل الله عليه وسلم- هو أول مواقف وأوَل مشاهد القيامة بعد الخروج من القبور، فإن هذه الأمم تخرُج من قبورها؛ تُبعَث، ثم إن كل أمة النبي مع بعضها البعض، ونبينا -صلوات الله والسلام عليه- علي حوضه وقد بشَّرَ أصحابه فقال لهم «أنا فرَطُكم على الحوض»، وقال «والله إني لأنظر إلى حَوضي الآن»، هذه الخُطبَة التي خطَبَها النبي -صل الله عليه وسلم- في آخر حياته -صل الله عليه وسلم-، حديث عُتبة ابن عامر الجوهَني -رضي الله تعالى عنه- يقول «خرج رسول الله -صل الله عليه وسلم- إلى أُحُدفصلَّى على الشهداء صلاته على الأموات، ثم جاء فصعد المِنبَر وقال للناس أنا فرَطَكُم على الحَوض؛ وإني والذي نفس محمدٍ بيده لأنظر إلى حَوضي الآن»، قال لهم الآن وهو على المنبَر يقول أنظر إلى هذا الحَوض الآن، يقول بعد ذلك عُتبة هذه كانت آخر نظرة رمَقت فيها النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فإن النبي بعد ذلك ازداد عليه المرض وتوفِّيَ في إثرِها -صلوات الله والسلام عليه-.
الشاهد أن حوض النبي هو أول شيء، وقال النبي للأنصار «إنكم ستَرَون بعدي أثرَة فاصبروا حتى تلقَوني على الحوض»، فالُّلقيا بالنبي -صل الله عليه وسلم-؛ لُقيا أصحابه، ولُقيا أهله وأمته، إنما يكونون على حَوضه وهذا في المحشَر؛ أوَل منازِل يوم القيامة، وقيل للنبي -صلوات الله والسلام عليه- يا رسول الله كيف تعرف أُمَّتَك من غيرها من الأُمم؟ فقال «إنكم تُحشَرون يوم القيامة غُرًّا مُحجَّلين من أثر الوضوء»، فهذه صفة خاصة يجعلها الله -تبارك وتعالى- لأُمة محمد، أنها من أثر الوضوء يبعثُها الله -تبارك وتعالى- والأماكن التي كان يبلُغها الوضوء تبلُغُها الحِلية، هذه الحِلية يُحلِّي الله -تبارك وتعالى- بها المؤمنين وهي بياض الوجه؛ واليدين إلى المِرفَقين، والقدَمين، يأتي المسلمون على هذا النحو؛ بين الوجوه ومُحجَّلين، الحِجال هو البياض الذي يكون في رجل الفرس، إنكم تأتون في يوم القيامة غُرًّا؛ الغُرَّة هي البياض الذي يكون في جبهة الفرس، غُرًّا يعني بيض الوجوه مُحجَّلين من أثر الوضوء، حتى قال لِمَن قال له كيف تعرف أُمَّتَك؟ قال «أرأيت إن كان لك خيل بُهْم سود وفيها بُلق؛ أتعرِفها؟»، يعني هل تعرف البيضاء من غيرها؟ فيقول تكون هذه الأمة من دون الأمم على هذا النحو، ثم إنهم سيأتون حوض النبي -صلوات الله والسلام عليه- ولكن سيُمنَع عنه مَن خالفوا سُنَّتَه ومَن ارتدُّوا على أعقابهم، قال النبي -صل الله عليه وسلم- بعض الناس ممَن رأيتهم أعرف ويعرفوني، قالوا لي أنهم مُرتَدين على أعقابهم بعدك، فأقول سُحقًا سُحقًا، يعني أقول للملائكة سُحقًا سُحقًا يعني هلاكًا وبُعْدًا لهؤلاء.
فهذا الكوثر وقد جاء في مُسنَد الإمام أحمد «النبي -صل الله عليه وسلم- لمَّا دخل الجنة رأى هذا النهر؛ وقال يا جبريل ما هذا؟ فقال هذا نهر أعطاكه الله -تبارك وتعالى-، يقول النبي فإذا حافته جنابذ اللؤلؤ، يقول ضرب يدي في تربته فإذا هي مِسكٌ أزفر»، أعلى أنواع المِسك رائحةً، فهذا النهر المُسمَّى للرسول -صلوات الله والسلام عليه- الكوثر؛ نهر في الجنة، وهذه آثاره في المحشَر الحوض؛ حوض النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فإن هذا النهر يُصَب منه في حوض النبي الذي هذه سِعَته؛ والذي ترِدَه أُمَّته يوم القيامة، نسأل الله –تبارك وتعالى- أن نكون منهم، فالله -سبحانه وتعالى- يقول لعبده ورسوله إنَّا؛ الله، يؤكِّد الله –تبارك وتعالى- ويخبر عن نفسه -جل وعلا-، أعطيناك؛ هو الذي أعطاه، الكوثر؛ هذا النهر العظيم المُسمَّى باسم النبي -صل الله عليه وسلم-، والمخصوص له والموهَب له من الله –تبارك وتعالى-، بهذه المواصفات الكبرى التي لا تصِلُها عقول المُخاطَبين مهما بلَغَ خيالهم فإنهم لا يبلغون حقيقة هذا النهر في جنة الله -تبارك وتعالى-، فهو أكبر من كل ما يتوهَّمونَه وأعظم من كل ما يعقِلونَه في هذه الدنيا.
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}[الكوثر:1]، الكوثر من الكثرة فهذا هو النهر، وقال ابن عباس أن الله -تبارك وتعالى- أعطى النبي الكثرة في كل أنواع الخير، قال هذا النهر منه ولكن ليس هذا فقط الكثرة التي أُعطيها النبي، فالنبي أُعطي كثرة في الأتباع؛ لا يوجد نبي ولا رسول له كثرة في الأتباع كالنبي -صلوات الله والسلام عليه-، فإن أُمَّته أكثر الأمم عددًا ممَن يدخل الجنة، ليس أمة الدعوة وإنما أمة الإجابة؛ الأمة التي أجابته، وآمنت بالله -تبارك وتعالى-، وآمنت بالرسول، وكتَبَ الله -تبارك وتعالى- لها الجنة، فهُم أكثر الأمم دخولًا الجنة، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «عُرِضَت عليَّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد، ثم عُرِضَ لي سوادٌ عظيم في الأُفُق فقُلت هذه أُمَّتي؛ فإذا موسى وقومه في أُفُق واحد، يقول ثم رُفِعَ لي سوادٌ عظيم فقيل لي هؤلاء أُمَّتُك»، سواد أعظم من هذا، «ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب»، فيهم سبعون ألف يُدخِلُهم الله الجنة بغير حساب؛ لا يُحاسِبهم؛ لا نقاش الحساب وإنما العرض، ولا عذاب قبل هذا؛ عذاب في القبر، عذاب في الموقِف، عذاب في النار، لم يُعذَّبوا وإنما يدخلون سالمين، ثم يقول الرَّاوي «ثم دخل رسول الله مسكنه، ثم خرج فخاض الناس في هؤلاء السبعين ألفًا»، السبعين ألف؛ مَن هم هؤلاء؟ «فقال بعضهم لعلَّهم الذي صحِبوا رسول الله -صل الله عليه وسلم- وآمنوا به، وقال بعضهم لعلَّهم الذي ولِدوا في الإسلام فلم يسبِق لهم كُفر ولا شِرك، فقال لهم النبي لمَّا خرَجَ إليهم فيما تخوضون؟ فقالوا يا رسول الله في هؤلاء السبعين ألف، فقال هم الذي لا يستَرقون، ولا يتطيَّرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكَّلون»، فأخبرهم النبي بصفة هؤلاء السبعون ألف أنهم مُتوكِّلون على الله -تبارك وتعالى-؛ يتركون التطيُّر، يتركون الكَي، النبي نهى عن الكَي، ويتركون طلب الرُقيا؛ لا يستَرقون.
الشاهد من هذا أن هذا أولًا من الكثرة التي أُعطيها النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ كثرة مَن يدخل الجنة من أمَّته، ثم كثرة الأصحاب وخيرتهم، فالنبي كان أكثر الأنبياء أصحابًا صَحِبوه، وجاهدوا معه، وقاتلوا معه، وناصروه؛ قاتلوا عن يمينه، وعن شِماله، ومن أمامه، ومن خلفه -صل الله عليه وسلم-، ولم يُسلِموه لشيء، ولم يوجَد هذا في نبيٍ ولا رسولٍ قط قبل نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه-؛ أن يجد من الأتباع والأنصار على هذا النحو، ومحبة على هذا النحو، فهو خير الأنبياء وأصحابه خير أصحاب الأنبياء، فهذا مما أعطاه الله -تبارك وتعالى- من الكثرة كثرة المُحِبين الذي يُحبونَه ويذكرونَه، في كل العصور بعد عصره -صل الله عليه وسلم- جعل الله -تبارك وتعالى- مَن يُحبُّه؛ ومَن يتمنَّى أن يراه ولو بأهله وولَدِه، كما قال -صل الله عليه وسلم- «إن من أُمَّتي لو يوَد أن يراني ولو بماله وأهله»، يعني لو وتِر ماله وأهله؛ دفع هذا كله في رؤية النبي لفعَلَه محبة للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، فإن الله أعطاه الكثرة في هذا؛ الكثرة في عمل الخير، فإن الله -تبارك وتعالى- جعل لهذه الأمة عمل قليل وأجر عظيم جدًا، كقيام ليلة واحدة من ليالي شهر رمضان؛ ليلة القَدْر، فيكون قيامها كقيام ألف شهر، كما قال -جل وعلا- {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر:1] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}[القدر:2] {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر:3] {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}[القدر:4] {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[القدر:5]، فهذه من كثرة الخير والبركة التي أُعطيها النبي -صلوات الله والسلام عليه-.
فإذن قول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}[الكوثر:1]، الكثرة في كل أنواع الخير؛ كثرة في الأتباع، في الأنصار، في الأحباب، في مَن يذكُرُه مع الله -تبارك وتعالى-، لا يُذكَر الله إلا ويُذكَر النبي -صلوات الله والسلام عليه- ويُصَلِّي عليه -صل الله عليه وسلم-، فهذا من عطاء الله -تبارك وتعالى-؛ أن رفَعَ الله له ذِكرَه، وأن أعطاه الله هذه الكثرة في الخير في كل أنواع الخير ومنها هذا النهر الذي أُعطيَهُ النبي -صلوات الله والسلام عليه-، قال -جل وعلا- {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}[الكوثر:2]، أمَرَه الله -تبارك وتعالى- بعبادتين من العبادات العظيمة؛ أحب العبادة إلى الله -تبارك وتعالى- الصلاة والنَّحر، {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}[الكوثر:2]، وأنحَر أي لربك، يعني فلتكُن صلاتك لربك وليكُن كذلك نحرُك لربك، فأما الصلاة فمعروفة؛ يعني اجعل صلاتك لربك -سبحانه وتعالى- لا لغيره، والصلاة هي خير موضوع، خير ما وضَعَ الله -تبارك وتعالى- للعباد في الأرض هي الصلاة، كما قال -صل الله عليه وسلم- «خير ما وضِعَ للناس في الأرض الصلاة»، الصلاة خير موضوع؛ خير عبادة وضعها الله -تبارك وتعالى- لعباده في الأرض، {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}[الكوثر:2]، وأنحَر أي لربك، والنَّحر هو الذَّبح لله، أي واذبَح لله -تبارك وتعالى-، فالذَّبح قُربى لله -تبارك وتعالى-، والله -تبارك وتعالى- جعل لنا أنساك نذبحُها وجوبًا؛ وأنسأك كذلك نذبحُها استحبابًا، فمن الوجوب مثلًا الهَدي في الحج والفِدية.
ومنها استحبابًا الأُضحية وإن كان بعض أهل العِلم كذلك يرى أنها واجبة، ولذلك قال بعض أهل العِلم {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}[الكوثر:2]، قالوا صلاة العيد والنَّحر نحر العيد، وأن هذه إنما يكون فيها إشارة على أن النَّحر يكون بعد الصلاة، كما خطَبَ النبي -صلوات الله والسلام عليه- في يوم عيد فقال «مَن ذبَحَ قبل الصلاة فشاته شاة لحم، ومَن لم يذبَح فليذبَح على بركة الله، فقال أبو بوردة ابن نيار -رضي الله تعالى عنه- فقال يا رسول الله إني رأيت أن هذا يوم يُشتهى فيه اللحم فذبحت قبل الصلاة، وإن عندي داجِن هي خير من شاتَي لحم؛ أفتُجزئ عني؟ فقال له النبي اذبحها ولن تُجزئ عن أحدٍ بعدك»، الداجِن هذه جذَعَة من الماعز بلغت سِن الأُضحية، فقال له النبي «اذبحها ولن تُجزئ عن أحدٍ بعدك»، فالذَّبح قال النبي «مَن ذبَحَ قبل الصلاة فشاته شاة لحم»، اللي يذبَح قبل الصلاة فهذا شاته شاة لحم يعني كأنه ذبَحَ لنفسه؛ ولم يذبَح نُسُكًا يؤجَر عليه، ويكون هنا موافق للمشروع، فذبح الأُضحية إنما هو بعد الصلاة، يجب أن يُصلِّي أولًا صلاة العيد ثم يكون الذَّبح بعد الصلاة، فقال بعض أهل العِلم هنا {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}[الكوثر:2]، أي أنه ابدأ بالصلاة أولًا؛ صلاة العيد، ثم انحَر بعد ذلك، والقول الذي قولناه أولًا {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}[الكوثر:2]، أي ليكُن هذا لربك لا لغيره -سبحانه وتعالى-، {فَصَلِّ لِرَبِّكَ ........}[الكوثر:2]، اجعل صلاتك لله، {وَانْحَرْ}، أي لربك -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}[الكوثر:3]، الشَّانئ؛ المُبغِض، هو الأبتر؛ المقطوع، والنبي -صلوات الله والسلام عليه- كان شانئوه كُثْر، شانئوه؛ مُبغِضوه كُثْر، فهؤلاء المستهزئين من قريش من كبار العُتاة والمجرمين؛ كالعاص ابن وائل السهمي، وأبو جهل اللي هو عمرو ابن هشام، وأُميَّة ابن خلف، وزمعة ابن الأسود، وغيرهم، هؤلاء كانوا مُبغِضين وشانئين للنبي -صلوات الله والسلام عليه- في مكة، ثم لمَّا جاء المدينة كان هناك مُبغِضون له ككعب ابن الأشرف، وكل هؤلاء صدرت منهم مقالات في النبي -صلوات الله والسلام عليه- أن مدة ظهور وانتشاره إنما هي مدة حياته؛ وأنه إذا مات انقطَعَ أثَرَه، وخبى أمره واختفى، وذلك أنه لا عَقِبَ له، ففي مكة لمَّا توفِّيَ أولاد النبي –صلوات الله عليه وسلم-؛ الذُّكور توفُّوا للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، وكان النبي ليس له ولد من الذُّكور فقالوا أنه أبتَر؛ هذا لا عَقِبَ له، وقالوا انتظروا بمحمد نظير أمثاله من الشعراء وغيرهم ممَن يصعد أمرهم في حياتهم، ثم إذا ماتوا انتثَرَ واندثَرَ أمرهم وانتهى، إنه أبتَر؛ أي لا عَقِبَ له، قالوا محمد أبتَر؛ لا عَقِبَ له من أولاده الذُّكور الذي يحمِلون اسمه ويُخلِّدون اسمه بعد ذلك، فإذا كان ليس له أولاد ذكور ولم يعِش له من أولاده الذُّكور أحد فإنه سينتهي أثَرَه، فقال -جل وعلا- إن شانئك؛ أي مُبغِضَك، كل مَن يشنأُك ويُبغِضُك هو الأبتر؛ هو الذي سينقطِع ذِكره، وينمَحي أثَرَه، وإن ذُكِر فلا يُذكَر إلا بالشر والفضيحة، وأما النبي -صلوات الله والسلام عليه- فإن الله -تبارك وتعالى- قد جعل أثَرَه -صل الله عليه وسلم- إلى قيام الساعة؛ ورفَعَ ذِكرَه -صلوات الله والسلام عليه-، فهو الذي بقي ذِكرَه وبقيَ أثَرَه في هذه الدنيا؛ ويبقى أثَرَه يوم القيامة هو سيد الناس ولا فخر، فإن الناس جميعًا في يوم القيامة يرجِعون إليه، قال «أنا سيد وَلَد آدم ولا فخر؛ أتدرون ما ذلك؟»، يعني ما السبب في أنه يكون هو سيد وَلَد آدم، قال «يجمع الله -تبارك وتعالى- الأولين والآخرين في صعيد واحد»، كل مَن خلَقَ الله –عز وجل- من البشر يجمَعهم الله -تبارك وتعالى- في صعيد واحد، «يُسمِعُهُم الدَّاعي وينفُذُهم البصر، وتدنوا الشمس حتى تكون قريبة من الرؤوس قَدْر ميل، فمِن الناس مَن يأخذه العَرَق إلى كعبيه، ومنهم مَن يأخذه العَرَق إلى رُكبَتيه، ومنهم مَن يأخذه العَرَق إلى حِقوَيه، ومنهم مَن يأخذه العَرَق إلى ثدييه، ومنهم مَن يُلجِمه العَرَق، ومنهم مَن يغُط في عَرَقِه غطيطًا، فيمكثون على هذا النحو ما شاء الله يمكثوا، ثم يقول بعضهم لبعض ألا ترون ما نحن فيه؟ ألا تبحثون عن مَن يشفع لكم عند الله -تبارك وتعالى-؟ يقول فيُلهَمون ويأتون آدم، يقولون يا آدم أنت أبو البشر؛ خلَقَك الله بيديه، وأسجَدَ لك ملائكته، وعلَّمَكَ أسماء كل شيء، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلَغَنا؟ ألا تشفع لنا عند الله –تبارك وتعالى-؟ فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضَب قبله مثله؛ ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت ربي فأكلت من الشجرة، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري؛ اذهبوا إلى نوح، أول رسول أُرسِلَ إلى أهل الأرض، فيذهَبون إلى نوح فيقولون يا نوح أنت الذي سمَّاك الله عبدًا شكورًا؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟»، أي من الكَرب، والبلاء، واليوم العصيب؛ يوم القيامة، «ألا ترى ما قد بلَغَنا؟ ألا تشفع لنا عند الله؟ فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله؛ ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت ربي فدعَوت على قومي»، يقول أنا استعجلت دعوتي ودعوت على قومي بأن يُهلِكَهم الله –تبارك وتعالى-.
«اذهبوا إلى غيري؛ اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقولون يا إبراهيم أنت خليل الرحمن؛ ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلَغَنا؟ ألا تشفع لنا عند الله -تبارك وتعالى-؟ فيقول نفس المقالة إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله؛ ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت ربي فكذبت ثلاث كذبات»، قال النبي ثِنتَين منها في ذات الله، وهي قوله إني سقيم لمَّا أراد أن يُحَطِّم الأصنام، وقوله {........ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ}[الأنبياء:63]، وقوله عن زوجته سارة هي أُختي لذلك الجبَّار الذي أرادها في مصر، فقال «اذهبوا إلى غيري؛ اذهبوا إلى موسى، فيذهبون إلى موسى فيقولون يا موسى أنت كليم الله؛ ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلَغَنا؟ ألا تشفع لنا عند الله؟ فيقول نفس المقالة إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله؛ ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت ربي فقتلت نفسًا لم أُأمَر بقتلها»، وهي قتله للفرعوني الذي كان يتشاجَر مع الإسرائيلي، قال -جل وعلا- {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}، ثم يقول لهم «اذهبوا إلى غيري؛ اذهبوا إلى عيسى، فيذهبون إلى عيسى فيقولون يا عيسى أنت عبد الله، ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، ورح منه، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلَغَنا؟ ألا تشفع لنا عند الله؟ فيقول إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله؛ ولن يغضب بعده مثله، وما يذكُر ذنبًا له ولكن يقول اذهبوا إلى محمد؛ عبدٍ غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه وما تأخَّر، فيأتون النبي -صلوات الله والسلام عليه- يستشفِعونَه لله -تبارك وتعالى- في فصل القضاء، فيقول النبي أنا لها؛ أنا لها».
يقول النبي «فآتي فاسجد تحت عرش ربي -عز وجل- ويُلهِمُني الله -تبارك وتعالى- من تسبيحه وتحميده أشياء لا أعلمها الآن، ثم يُقال يا محمد ارفع رأسك، وسَل تُعطى، واشفع تُشَفَّع، فأقول يا ربي أُمَّتي أُمَّتي، فيُقال أدخِل مَن لا حساب عليه من أُمَّتِك من الباب الأيمن في الجنة؛ وهم شركاء الناس في ما سوى ذلك من الأبواب»، فهذا أول شيء السبعون ألف الذين أعطاهم الله -تبارك وتعالى- للنبي؛ وهُم من الكثرة التي أعطاها الله لنبيه، يقول له الله -تبارك وتعالى- أدخلهم من الباب الأيمن في الجنة، الجنة لها ثمانية أبواب؛ وبعض أبوابها أشرف من بعض، فهنا هذا الباب ذِكر أنه الباب الأيمن في الجنة أنه أشرف أبواب الجنة، وقد جاء في الحديث «الوالد أوسَط أبواب الجنة»، يعني كل باب من أبواب الجنة قد سُمِّيَ بطاعة من الطاعات؛ فباب الجهاد، وباب الصوم اللي هو باب الريَّان، لا يُقال الصوم لأن الجنة ليس فيها صوم؛ فيُقال باب الريَّان، وهذا الريَّان نسبة للذين صاموا في الدنيا فيدخلون من هذا الباب، وباب الصلاة، وباب الصدقة، فقد سُمِّيَ كل أبواب الجنة كل باب سُمِّيَ بطاعة من هذه الطاعات، فالشاهد أن الله -تبارك وتعالى- يقول لرسوله «أدخِل مَن لا حساب عليه من أُمَّتِك من الباب الأيمن في الجنة؛ وهم شركاء الناس في ما سوى ذلك من الأبواب، يقول ثم آتي ربي فأسجد ويُلهِمُني من تسبيحه وتحميده أشياء لا أعلمها الآن، ثم يُقال يا محمد ارفع رأسك، وسَل تُعطى، واشفع تُشَفَّع، فأقول يا ربي أُمَّتي أُمَّتي، يقول النبي فيحُد لي ربي حدًّا فأُدخِلهم الجنة»، يعني يحُد له حَد من أُمَّتِه يُدخِلهم النبي الجنة -صلوات الله والسلام عليه-؛ وهذا من بقاء ذِكرِه، فكما رفَعَ الله -تبارك وتعالى- ذِكر النبي في الأرض رفَعَ ذِكرَه في السماء -سبحانه وتعالى-، ومن هذا الذِّكر في الآخرة أن كل هذه الأُمم وكل أهل الإيمان يلتقون ويلتَفُّون عنده؛ ويأتون إليه ويكون هو المُخلِّص -صلوات الله والسلام عليه-، وهو أوَل مَن يطرُق باب الجنة -صل الله عليه وسلم- ويقول رضوان له بِكَ أُمِرت ألا أفتَح لأحدٍ غيرك، يعني أمَرَ الله -تبارك وتعالى- ألا يُفتَح باب الجنة لأحد إلا للنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-.
فهذا الأبتر، شانئُك؛ مُبغِضُك، هو الأبتر؛ هو الذي انقطَعَ ذِكره، وانمحى أثَره، وبقيَت اللعنة تُلاحِقَه، أما الرسول -صلوات الله والسلام عليه- فإن الله -تبارك وتعالى- قد أبقى ذِكرَه؛ أبقى أحبابه، وأنصاره، وأتباعه، ومَن يذكُره أكثر من ذِكره ويُحبه أكثر من محبته لنفسه وأولاده، ثم يبقى هذا مُتصِلًا في الدنيا كلها؛ ويبقى مُتصِلًا إلى الآخرة، في عرَصات يوم القيامة انظر مَن في هذا الموقِف العظيم؛ مَن له هذا الحَوض العظيم؟ حَوض كالجزيرة كلها يأتيه أُمَّته وحدها فيُقال هذا حَوض النبي محمد -صل الله عليه وسلم-، فيقولوا هذا حَوض نبيُنا ويأتيه أُمَّته بهذه الصفة؛ والنبي يسقيهم -صلوات الله والسلام عليه-، واقف على حَوضِه يقول للناس «أنا فرطَكم على الحَوض»، وانظر الأخرون من أمثال الوليد ابن المُغيرة، والعاص ابن وائل السهمي، وزمعة ابن الأسود، وغيرهم، انظر قد قُطِعَ أثَرَهم؛ وانقطَعَ ذِكرَهم في هذه الحياة، وبقيت اللعنة تُلاحِقهم، ويوم القيامة يُجَرجَرون إلى العذاب عياذًا بالله-، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}[الكوثر:1] {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}[الكوثر:2] {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}[الكوثر:3].
اللهم صلِّي وسلِّم وبارك على عبدك ورسوله محمد، والحمد لله رب العالمين.