الحمد
لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين وعلى آله وأصحابه ومن
اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد أيها الإخوة الكرام؛ سورة الفاتحة فاتحة الكتاب هي
أعظم سورة في القرآن، وهي مقدمة الكتاب الكريم، ولا تصح صلاة مسلم إلَّا بها، وهي
السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيه النبي –صلوات الله وسلامه عليه-.
يقول الله -تبارك وتعالى-: {بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ
الْرَّحَيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}[الفاتحة:1-7] آمين يا رب.
قول الله -تبارك وتعالى-: {اهْدِنَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:6] هذا
دعاء من العباد إلى الله -تبارك وتعالى- أن يهديهم الله -تبارك وتعالى- صراطه
المستقيم، الذي قال الله -تبارك وتعالى- {هذا صراط عليَّ مستقيم}.
قال الله -تبارك وتعالى-: هذا لإبليس وآدم
مبينًا أن من سار في طريق الله فإنه مآله إلى جنة الله -تبارك وتعالى-، قال: هذا
صراط عليَّ مستقيم {........ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}[الحجر:42]، فصراط الله -تبارك وتعالى- المستقيم هو طريقه الذي شرعه لعباده -جل
وعلا-، وهو دينه كان مستقيمًا لأنه ليس فيه عوج بأي وجه من الوجوه، والعبد عندما
يقول لله -تبارك وتعالى-: اهدنا يا رب -وقد جاء بصورة الجمع- هذا تعليم وتوجيه من
الله -تبارك وتعالى- أن المؤمن قد دخل في جملة المؤمنين الداعين إلى الله -تبارك
وتعالى-.
اهْدِنَا
كأن المجموع يدعو الله -تبارك وتعالى- {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:6] صراطك يا رب طريقك الموصل إلى جنتك، وكل ما أمر الله -تبارك
وتعالى- به وشرعه لعباده هو داخلٌ في هذا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم,.
والهداية هدايتان، هداية بمعنى الإرشاد والبيان
والتعليم وهدايةٌ بمعنى التوفيق، والعبد عندما يطلب من الله -تبارك وتعالى- في
صلاته أن يهديه الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم فإنما يطلب الهدايتين؛ هداية البيان
والإرشاد والتوفيق، وهذه نعمة عظيمة من الله -تبارك وتعالى-، وذلك أن الله -تبارك
وتعالى- قد أوضح دينه وطريقه في كتابه وعلى لسان رسوله –صلوات الله وسلامه عليه-،
ثم هناك أمور من أمور الاجتهاد فهذه تحتاج كذلك إلى تعليم وبيان، وهذه يُوفق لها
من يُوفق من أهل الخير كما قال النبي –صلوات الله وسلامه عليه-: «إذا اجتهد الإمام أو الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر
واحد»، فمن هداية الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيم أن يهديه الله -تبارك وتعالى- كذلك لما اخْتُلِفَ فيه من الحق بإذنه
–سبحانه وتعالى-، وقد علم الله -تبارك وتعالى- نبيه أن يقول: "اهدني لما اخْتُلِفَ فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء وإلى صراط مستقيم»، وكان يدعو النبي –صلى الله عليه وسلم- بهذا الدعاء في افتتاح صلاته يقول: «اللهم أنت الحق قولك حق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق ومحمد حق والنبيُّون
حق اللهم جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض أنت تحكم بين عبادك فيما
اختلفوا فيه اهدني لما اخْتُلِفَ فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط
مستقيم»، اهدنا إلى الصراط المستقيم بمعنى أرشدنا
وعلمنا ثم معناه كذلك وفقنا، فالتوفيق كذلك إلى بلوغ الحق هو من الله -تبارك
وتعالى-، والتوفيق هذا عناية خاصة من الله -تبارك وتعالى- بمن أحب من عباده أن
يوفقه إلى الطاعة، فليس كل من علم الحق اتبعه ولكن من وفقه الله -تبارك وتعالى-
إلى الحق اتبعه، وإلَّا فإن الكفار ورأسهم إبليس يعرفون الحق ولكنهم لا
يتَّبِعُونَه خذلانًا لهم من الله -تبارك وتعالى-، فإن من كفر طمس الله -تبارك
وتعالى- بصيرته، فالعبد عندما يناشد الله -تبارك وتعالى- ويدعو الله -تبارك
وتعالى- أن يهديه الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم بيانًا وتعليمًا وتوفيقًا منه –جل
وعلا-.
ثم هذا الصراط وصفه الله -تبارك وتعالى-
بأنه قال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ........}[الفاتحة:7]، والذين أنعم الله -تبارك وتعالى- عليهم -إنما هنا النعمة- إنما
هي نعمة خاصة؛ نعمة الهداية والتوفيق إلى الدخول في هذا الصّراط، وذلك أنه ليس كل
أحد من البشر من خلق الله -تبارك وتعالى- يوفق إلى الخير؛ بل من الناس من يكفر
ومنهم من يُؤمن، والذي يؤمن إنما يؤمن بتوفيق الله -تبارك وتعالى-، فإن الهدى هدى
الله -تبارك وتعالى-، من شاء الله أن يهديه هداه ومن شاء أن يُضله أضَله، وإن كان
الهدى والضلال بأسباب تأتي من الله -تبارك وتعالى- إليه الأمر كله كما قال –جل
وعلا-: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ
سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ
أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[الإنسان:29-31]،
فمن شاء الله -تبارك وتعالى- أن يدخله في رحمته أدخله، ومن شاء أن يضله أضله
–سبحانه وتعالى-، فمن هداه الله فبإنعامه وبإفضاله.
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ، بإنعام الله -تبارك وتعالى- يُنعم الله –عز وجل- على من يشاء ويتفضل
بالهداية، ومن أضله الله -تبارك وتعالى- فبعدله وبعلمه -سبحانه وتعالى- أنه لا
يستحق ذلك فالأمر إليه، كما قال –جل وعلا- ردًا على مقالة الكفار الذين استصغروا
شأن المؤمنين من الضعاف والمساكين وقالوا: {........ أَهَؤُلاءِ مَنَّ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا ........}[الأنعام:53]،
يعني كيف يكون الله قد أعطى الهداية والتوفيق للدين إلى عبيدنا وأرقائنا، ويعني
الأراذل منا ونُحْرَمُها نحنُ ونحن أهل الثراء وأهل الغنى ممن أكرمنا الله
بالأموال والأولاد والمكانة، فقالوا: أَهَؤُلاءِ يعني كبلال وعمار وصهيب وأضرابهم ممن
كانوا يستصغرونهم مَنَّ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي بالهدى من بيننا نحن، ونحن أهل
المكانة وأهل الجاه وأهل الثراء ممن أعطانا الله -تبارك وتعالى- قال –جل وعلا-: {........ أَلَيْسَ
اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}[الأنعام:53]،
وجعل أن هذه قال: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا
أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا ........}[الأنعام:53] قال -جل وعلا-: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ
يعني أعلم من يُعطى الهداية فيشكر على ذلك ومن لا يقيم بذلك رأسا.
على كل حال الهدى والضلال هو لله -تبارك
وتعالى-، وقد أخبر الرّب –جل وعلا- أن ذلك بأسباب كما قال –جل وعلا-: {فَأَمَّا مَنْ
أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى
(7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْعُسْرَى}[الليل:5-10] فإن الله -تبارك وتعالى-
يجازِي العبد بعمله، فمن صدَّقَ وأقبَلَ على الله -تبارك وتعالى- -صدَّقَ الصِّدْق-
فإن إخبار الله -تبارك وتعالى- صِدْق، صدق الرسل الصادقين، فإن الله -تبارك
وتعالى- يهديه بإيمانه، يهديهم ربهم بإيمانهم، بسبب إيمانهم هداهم الله -تبارك
وتعالى-، ومعنى إيمانهم تصديقهم لما صدّقوا الرسل وقالوا والله هذا صدق، يعني ما
جاءت به الرسل صدق، كيف لا نؤمن بالله إلهنا خالقنا وبارئنا –سبحانه وتعالى-، فإن
الذي دعت إليه الرسل واضح صريح.
فقد دعت الرسل إلى عبادة الله الواحد
الأحد خالق السماوات والأرض بارئ الكل الذي له الأمر كله، وهذا الأمر لا شُبْهَة
فيه لكل ذي عقل ولب، وإنما تأتي الشُبهة من التكذيب، إذا كذب الإنسان بالحق بعد أن
يتبيَّن له فإن الله -تبارك وتعالى- يطمسُ على بصيرته، قال –جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:6-7]، لِمَ؟ لأنهم
كفروا، فلما أُعطيَ لهم البيان الحق وهُدوا إلى الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ قالوا:
لا بعد أن تبيَّن لهم الحق، فلمّا رفضوه طمس الله -تبارك وتعالى- بصيرتهم، {فلمّا زاغوا أزاغ الله
قلوبهم}، كل زيغٌ عن الحق فإن الله -تبارك
وتعالى- يعاقبهم بذلك، قال –جل وعلا-: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ
يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ........}[الأنعام:110]،
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ
وَأَبْصَارَهُمْ يعني يقلبها الله -تبارك وتعالى- فيجعل
دخول الهداية فيها متعذر {........ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ
وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الأنعام:110].
فالهدى
هدى الله -تبارك وتعالى- وهو يختار لهدايته من يشاء إنعامًا منه وتفضلًا، ولكن أهل
إنعام الله -تبارك وتعالى- إنما استحقوا ذلك؛ بأنهم لما عُرِضَ عليهم الدين
وجاءتهم الرسالة وجاءهم الرسول قبلوا الحق وصدّقوا به فهداهم الله -تبارك وتعالى-،
{فَأَمَّا مَنْ
أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى
(7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْعُسْرَى}[الليل:5-10]. فالعبد يقول: يا رب {اهْدِنَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:6]، الطريق
المستقيم الذي أوله هنا وآخره عند الله -تبارك وتعالى-.
وهذا الصِّرَاطَ
قال –جل وعلا-: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ........}[الفاتحة:7] أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ بالهداية، وهؤلاء الذين أنعم الله -تبارك
وتعالى- عليهم ذكر الله -تبارك وتعالى- أصنافهم قال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ
أُوْلَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ
عَلِيمًا}[النساء:69-70]، هذه الآية مُفسِّرة لمعنى
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ، أخبر الله أن الذين أنعم الله عليهم هم
أهل طاعته ومن
يُطِعْ الله والرسول فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ، يعني أن محشرهم ومستقرهم في نهاية
المطاف في الجنة مَعَ
الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ من؟ قال: مِنَ النَّبِيِّينَ، النَّبِيِّينَ جمع نبي والنبي هو المُخْبَر من الله -تبارك وتعالى-، وَالصِّدِّيقِينَ – الصديق ليس بنبي وإنما هو مُصدِّق يعني الذين صدَّقُوا الأنبياء، ومنه
سُمِيَ أبو بكر الصديق وذلك أنه صدق النبي –صلوات الله وسلامه عليه-، علم صِدقَه
فصدّقَه، ولمّا جاءت بعض الأمور العظيمة التي استعظم الكفار أن يصدِّقوا بها وهى
لما قال النبي لهم إنه قد أُسري بي الليلة من مكة إلى الشام إلى المسجد الأقصى ورجعت،
فاستعظموا هذا قالوا: "ذهبت إلى بيت المقدس ورجعت في ليلة واحدة، ونحن نضرب
أكباد الإبل شهرًا مُصعدة وشهرًا مُلوية ... شهرين حتى نصل ونعود وأنت ذهبت وعدت
في ليلة واحدة"، ثم أشاعوا الخبر في كل مكان وأن محمدًا –صلى الله عليه وعلى
آله وسلم- قالوا: "أن محمد قد أظهر كذبا" يزعم أو زعم أنه ذهب إلى الشام
ورجع في ليلة واحدة، وقيل لأبي بكر تعال "هذا صديقك قال كذا وكذا"، قال:
"أوقد قال ذلك" يعني هل قال لكم ذلك؟ قالوا: نعم، قال: "فإني أصدقه فيما هو أبعد من ذلك"، قال:
"أنا أصدقه فيما هو أبعد من هذا إني أصدقه في خبر السماء"، قال أنا
أصدقه في أنه يأتيه الخبر من السماء والسماء أبعد من بيت المقدس، فسُميَ الصدِّيق.
والله وصف مريم فقال: وأمه الصدّيقة؛ وذلك أنها
صدقت بكلمات الله -تبارك وتعالى- ورسله، كما قال -تبارك وتعالى-: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ
عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا
وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}[التحريم:12]، فالصدّيق الذي صدَّق الحق، صدق الرسل.
والشهداء ... الشهداء جمع شهيد، وهؤلاء هم أولًا
من يُقتلون في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، ويُلحق بهم كذلك من ابتلوا ببلاء يرفع
الله -تبارك وتعالى- به درجاتهم إلى منزلة الشهداء.
والصالحين كل عبدٍ صالح لله -تبارك وتعالى-،
ومفهوم الصلاح بمفهوم القرآن والسنة، متى يكون العبد صالحًا؟؛ فإن هذا الصلاح يعني
تحديده لله -تبارك وتعالى- هم الذين عملوا الصالحات، فهؤلاء هم المجموعة التي أنعم
الله -تبارك وتعالى- عليهم {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ
الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ
وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا}[النساء:69].
لا رفقة أعظم من هذه الرفقة وأحسن من هذه
الرفقة، رفقة صالحة يجمعها الله -تبارك وتعالى- يجمعهم جميعًا في الجنة، في مستقر
رحمته، فنحن عندما ندعو في الصلاة نقول: اهْدِنَا
يعني يا رب الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ الموصل في النهاية إلى صحبة هذه الرفقة
الطيبة {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ........}[الفاتحة:7]، فهذا طريقهم الذي سلكوه وساروا فيه إلى أن وصلوا إلى مستقر
رحمة الله -تبارك وتعالى-، كما قال النبي -صلوات الله وسلامه عليه- في مرض موته
قال: «في الرفيق الأعلى» ونظر إلى السماء وأشار بإصبعه –صلى الله عليه وسلم-، تقول أم المؤمنين عائشة
–رضي الله تعالى عنها- أنها تقول: "كنت مسندةً رسول الله إلى صدري ..
وهذا قبيل موته –صلوات الله وسلامه عليه- ثم رأيته يرفع بصره إلى السماء وإصبعه ويقول: «في الرفيق الأعلى» فقلت: إذن
لا يختارنا"، إذن لا يختارنا لا يختار البقاء،
وذلك أنه ما من نبي يأتي أجله إِلَّا ويرسل الله -تبارك وتعالى- له ملك الموت
فيُخَيِّره بين البقاء ما شاء من البقاء وبين قبض روحه، فلا يقبض روحه دون علم من
الأنبياء خاصة، فإن اختار البقاء وإلَّا اختار الموت، فلابد أن يخيِّرهُ الله
-تبارك وتعالى-، هذا من إكرام الله -تبارك وتعالى- لأنبيائه، فقول النبي: «في الرفيق الأعلى» يعني أنه اختار الرحيل ليكون في الرفقة العليا
الرفيق الأعلى، وذلك أن الجنة هي أعلى في سقف هذه المخلوقات فوقها عرش الله -تبارك
وتعالى-،
فهذه هي الرفقة الصالحة أولئك {وَمَنْ يُطِعِ
اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ
أُوْلَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ ........}[النساء:69-70] هذا الفضل التفضل على أن يكون العبد من هؤلاء وداخلٌ في
هؤلاء ومرافق لهؤلاء {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا}[النساء:70]، لا أعلم من الله -تبارك وتعالى- بخَلْقِه، فَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا في
أن يختار من يشاء ليدخله في هذه الرُفقة في رفقة الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
فدعاؤنا في الصلاة اهْدِنَا يا رب الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ
الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، وهؤلاء الذين أنعم الله عليهم صِرَاطهم {........ غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}[الفاتحة:7]
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الغضب هنا من الله، يعني الذين غَضِبَ الله -تبارك وتعالى-، وَالضَّالِّينَ الذين ضلوا الطريق، قال النبي –صلى الله عليه وسلم- في بيان ذلك: «اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون»،
فهؤلاء صراطهم إلى النار، وهو غير صراط الذين أنعم الله -تبارك وتعالى- عليهم،
واليهود غضب الله -تبارك وتعالى- عليهم لأنهم علموا الحق ولم يتبعوه، وكل من علم
الحق ولم يتبعه فهو داخلٌ في معنى المغضوب عليهم، وكل من ضلَّ عن الحق وهو يظن أنه
على الحق فهو ضال وهو إلى النار.
فأساسدين النصرانية ضلال، والأساس الذي سار عليه
اليهود أنهم تركوا الحق بعد علمه، فاليهود مغضوب عليهم لأنهم علموا أن هذا هو
الدين، وهذا هو الحق، وهذا هو الرسول الخاتم، والله -تبارك وتعالى- قد أخذ العهد
والميثاق عليهم بأن يؤمنوا بهذا الرسول على لسان موسى –عليه السلام- فإن الله
-تبارك وتعالى- قال لموسى لما قال موسى: {........ رَبِّ أَرِنِي
أَنظُرْ إِلَيْكَ ........ }[الأعراف:143] قال –جل
وعلا-: {........ لَنْ
تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ
تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى
صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ
بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا
لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ
فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ
دَارَ الْفَاسِقِينَ}[الأعراف:143-145].
ثم إن الله -تبارك وتعالى- أمر موسى أن يختار
سبعين رجلًا من قومه ليأخذ عليهم العهد بالعمل بما في هذه التوراة، فاختار موسى
سبعين رجل من كبراء وفضلاء قومه، وعندما خرج بهم إلى الطور رجف بهم الطور وصعقوا،
قال –جل وعلا-: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا
فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ
قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ
إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ
وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ
لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ........
}[الأعراف:155-156]
فقال له الله -تبارك وتعالى-: {........ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ
مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ
يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ
(156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي
يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ
الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف:156-157].
كأن الله -تبارك وتعالى- يقول لموسى: إن قومك
ليس فيهم سبعون رجلًا صفوة ممن يستحقون أن يقوموا بالدين حق القيام ولكن هذا مدخر
للأمة التي تكون في آخر الزمان والتي يكون عامتها من أهل الفضل والخير {........ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ
يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ
(156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي
يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ........}[الأعراف:156-157].
ولذلك لم يكن في قوم موسى يعني إِلَّا
رجلان أطاعوا أمر الله -تبارك وتعالى- بالجهاد والقتال، ولذلك قال موسى في نهاية
الأمر: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي
فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}[المائدة:25]، فسماهم قوما فاسقين لأنهم لم يقوموا بأمر الله الذي كان فيه
شدة وهو قتال من أمروا بقتالهم، عكس أمة محمد –صلوات الله وسلامه عليه- فإن النبي
خرج إلى أول معركة على غير استعداد لقتال، وكل من كان معه ثلاثمائة وبضعة عشر
رجلًا كلهم قالوا: "والله لو خضت بنا هذا البحر
لخضناه معك ما تخلف منا رجل"، فهذه الأمة تختلف
عن تلك.
الشاهد أن اليهود علموا صفة النبي –صلوات
الله وسلامه عليه-، وعلموا أنه هو نبي الله حقًا وصدقًا، وقد قال له عبد الله بن
سلام –رضي الله تعالى عنه-: "والله يا رسول الله إني لأَعْلَمُكَ
أكثر من ابني ولكن اليهود قومٌ بهت"،
ولم يؤمنوا بالنبي –صلى الله عليه وسلم- فغضب الله -تبارك وتعالى- عليهم من أجل أنهم
علموا الحق ولم يتبعوه.
وأما النصارى فإنهم بغُلوهم في المسيح
شيئًا فشيئًا، وباختراعهم عبادات لم يكتبها الله -تبارك وتعالى- عليهم يعني ضلوا
عن طريق الحق وهم يظنون أنهم على الحق فضلوا لذلك، فصراط الإسلام صراط الله الذي
أنعم الله -تبارك وتعالى- على من شاء من عباده أن يدخل فيه هو الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وهو غير طريق اليهود، وغير طريق النصارى ومن على أشكالهم، على أشكالهم من
الضُلَّال والمغْضُوب عليهم.
سورة الفاتحة؛ سورةٌ عظيمة وهي الصلاة،
وإذا قام العبد يصلي فإن الله -تبارك وتعالى- قسم الصلاة بينه وبين عبده كما في
الحديث: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين
ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد {الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}قال الله: "حمدني عبدي"، وإذا
قال: {الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ} قال: "أثنى عليَّ عبدي"، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ} قال: "مجَّدني عبدي"، وإذا
قال: {إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}قال: "هذا
بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل"، وإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
(6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا
الضَّالِّينَ} قال الله: "هذا لعبدي ولعبدي ما
سأل"،.
فإذا قمنا في الصلاة فيجب أن نقدر هذا
ونعلم أننا نقوم بأعظم دعاء، وأن الله –سبحانه وتعالى- يجيبنا عن كل آيةٍ من هذه
الآيات، فإذا قلت الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال الله -تبارك وتعالى- في إثر ذلك:
"حمدني عبدي"، إلى آخر هذه الصلاة.
الفاتحة سورة عظيمة، نسأل الله -تبارك
وتعالى- أن يرزقنا حفظ كتابه والعمل به وأن يهْدِينَا صِرَاطَه المُسْتَقِيم، وأن
يجعلنا مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك
رفيقا.
وصلى
الله وسلم على عبده ورسوله محمد