الجمعة 20 رمضان 1445 . 29 مارس 2024

الحلقة (80) - سورة البقرة 282

 الحمد لله رب العالمين، وأصلى، وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إذا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[البقرة:282] هذه الآية، آية الدَين أطول آيةٍ في كتاب الله، وبدأ الله -تبارك وتعالى- هذه الآية بندائه لأهل الإيمان؛ فقال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا........ }[البقرة:282] وفى تسميتهم بأنهم الذين آمنوا تحريضٌ لهم على الفعل، وإلزام لهم بأن يفعلوا{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا  فيامن آمنتم افعلوا.

{ إذا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} بدَين سواء أن كان قرضاً حسناً، أو سلفاً فى تجارة، أو سلفًا  فى أن يقدم شخص الثمن، ويؤخر السلعة، كما  كانوا يسلفون لما جاء النبي -صلى الله وسلم- فى المدينة، رآهم يسلفون فى الثمار السنة، والسنتين، فيقدم الشخص النقود، ويستلم الثمار بعد عامٍ أو عامين، فقال النبي -صلى الله عليه  وسلم- «من أسلف فليسلف فى كيلٍ معلوم أو وزنٍ معلوم إلى أجل معلوم»

 فالدَين يشمل هذا كله، من سلف,  والبيع الآجل، وكذلك القرض الحسن، وهو أن يقترض الإنسان ليسد بعد ذلك عليه عين هذا القرض. فيخبر -سبحانه وتعالى- عباده أنهم إذا  تداينوا بدين إلى أجل مسمى سداده، كان الاتفاق سواء كان في البيع، أو في القرض أن يسد هذا الدين في أجل مسمى، أجل محدود يؤجلونه.

 قال -جل وعلا-{ فَاكْتُبُوهُ }وهذا أمر بكتابته، والكتابة أعظم وسيلة من وسائل التوثيق، وذلك أنها تقييد، وعلم، وهى باقية فأمر الله -تبارك وتعالى- بالكتابة قال { فَاكْتُبُوه}.

 ثم قال -جل وعلا- {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} أمرَ -سبحانه وتعالى- الكاتب أن يكتب بالعدل، و يدخل فى معنى العدل البيان والإيضاح، وأن لا يظلم أحد على الآخر بتدليس أو بتمويه،  بل يجب أن تكون كتابته ظاهرة واضحة، وأن يكون عادلاً فى كتابته فيميل مع طرفٍ دون طرف { وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} هو قول الله { وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْل} أمر للكاتب كذلك بأن يكتب.

 قال -جل وعلا- { وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} ألزم الله -تبارك وتعالى- من علمه الله الكتابة، ودُعي إلى أن يكتب، أن يكتب وهذا أمر لإلزام فى هذا، فقد  كان الكُتًاب الذين يعرفون القراءة والكتابة وقت نزول القرآن قليلين، وكان  هذا نوع من الفرض؛ فيصبح متعينا عليه أن يكتب في هذه الحال إذا دُعي  للكتابة، قال -جل وعلا-  { وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا  عَلَّمَهُ اللَّهُ} أي  فليذكر أن الله -تبارك وتعالى- هو الذي علمه، ويسًر له هذا التعليم فلا يجوز  له أن يبخل بهذا الأمر الذي علمه الله –عز وجل- إياه قال -جل وعلا- { فَلْيَكْتُبْ} هذا تأكيد لوجوب أن إذا  دعي إلى الكتابة أن يكتب.

 ثم قال -جل وعلا- { وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} يملل يملي{ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} هو الذي يقول أنا فلان الفلاني قد تداينت بكذا، أو أخذت كذا، أو اشتريت كذا بمبلغ كذا وكذا من فلان، وهذا إقرار لأن الذي عليه الحق هو المدين؛ فعندما هو الذي يملي يكون هذا إقرار منه، أما لو أملى من له الحق فيكون هذا دعوة ادعاء، والادعاء يحتاج إلى إثبات لابد من شهود يشهدون على هذه الدعوة، أما إذا  كان مِن الذي عليه الحق يكون هذا بمثابة إقرار، لأن الإنسان  لا يلزم نفسه، ويقيد نفسه، ويجعل نفسه هو المدين وبكذا وكذا إلا إذا  كان صادقا فى هذا،  أما الادعاء ممكن أن يدعي إنسان يعنى على الآخر ما يدعي، فالمُــملي الذي يملي هو الذي عليه الحق المدين{ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}.

 قال -جل وعلا- { وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ }أمر لمن عليه الحق، للمدين أن يخاف الله -تبارك وتعالى- ويتقيه يجعل وقاية بينه وبين عذاب الله –عز وجل - وذلك بأن لا يدلس، ولا يميل

قال { وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} البخس النقص، يعنى لا ينقص شيئاً من الحق الذي عليه بل يجب أن يبين، ويعترف بالذي عليه تماماً.

 قال -جل وعلا-{  فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} إذا كان الذي عليه الحق سفيهاً، إما أنه سفيه بمعنى الطائش خفيف العقل الذي لا يحسن التصرف، فيُطلب الدين له، وكذلك يمكن أن يقال السفيه كذلك على الصغير الذي لم يبلغ بعد سن الرشد فهذا ما زال لا يعرف قيمة المال ولا يؤخذ  بإقراره، فإن إقرار الصغير ليس بدليل ولا بحجة؛  لأنه سفيه لا يعرف المال وقيمة ما يدلي به، أو ضعيفا ضعيف عن الكتابة إما لمرض ونحو ذلك، أو لا يستطيع أن يمل هو لسبب من الأسباب مثلاً قد يكون أبكم ولا يستطيع أن يمل لهذه العلة التى تمنعه من النطق، وهؤلاء يحتاج لهم أن يستدينوا، أو أن يشتروا بالأجل.

 قال -جل وعلا- { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} فيقوم وليه، وهو القائم عليه، كالقائم على الصغير، أو القائم على هذا السفيه أو الضعيف هذا يقوم مقام المدين هذا الذي  منعه مانع من أن يكون هو الشخص الذي له أهلية للكتابة، فإذا فقد أهلية الكتابة أهلية الإملال لعذر من هذه الأعذار كونه صغيرا، أو سفيها، أو ضعيفا يضعف عن النطق لمرضه، { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}.

 ثم قال -جل وعلا- { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} اطلبوا  شهادة، شهيدين من رجالكم، رجلين يشهدان على هذا المكتوب؛ فيكون هذا الوسيلة الثانية للتوثيق الشهادة على هذه الكتابة.

 قال -جل وعلا- { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} إن لم يتحصل وجود رجلين ليشهدا { فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} يقوم رجل، وامرأتان محل الرجل { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}، وممن ترضون من الشهداء معنى هذا أن يكونوا من أهل الصدق  وأهل الإيمان و أهل الاستقامة، أما إن كانوا معروفين بكذب و خيانة فإن هؤلاء  لا تصلح شهادتهم، أو من تُرد شهادتهم كالمحدود فى القذف؛ فإن المحدود فى القذف هذا  مردود شهادته؛ لقول الله -تبارك وتعالى- {........وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[النور:4] فهؤلاء مردودة شهادتهم، إذن لابد أن يكون شخصا ممن نرضى شهادته، والذين نرضى شهادتهم هم أهل الإيمان، وأهل الصدق.

 ثم عللً الله -تبارك وتعالى- لماذا أمر بامرأتين فى مقابل رجل فى الشهادة قال{ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} يعنى مخافة أن تضل، والضلال هنا هو النسيان، أن تنسى واحدة فتذكر إحداهما الأخرى، فيكون وجود العقلين، وذاكرتين، فتذكر هذه تلك  فيكون هذا أدعى إلى التوثيق { فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} وهذا فيه دليل على أن الناسي إذا ذُكر  تعتبر شهادته هنا لأنه قد ينسى الإنسان ويذكر.

 وهذا نص فى أن شهادة المرأة على هذه العقود هي على النصف من شهادة الرجل، قال أهل العلم: إن هذا الحكم خاص فقط فى العقود المالية والتجارية،  أما فى الأمور التى هي خاصة بالمرأة فإن شهادة المرأة تعدل شهادة الرجل، بل الشهادة على نفسها كالشهادة على الولادة ونحو ذلك مما هو من شئون المرأة فهذه شهادتها تعدل شهادة الرجل،  أما هنا فى هذه العقود فإن شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل.

 قال -جل وعلا- { أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذا مَا دُعُوا} هذا أمر منه -سبحانه وتعالى-  أنه لا يحل للشهداء أن يمتنعوا عن الشهادة إذا دعوا للتحمل أو للأداء؛ فإذا دُعى شاهد لأن يتحمل الشهادة فقيل له تعال اشهد على هذا العقد أو دعي ليؤدي الشهادة لقد شهدت على هذا العقد فتعال اشهد بأنه قد كان كذا وكذا من هذا العقد، فلا يجوز له أن يأبى{  وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذا مَا دُعُوا} تحملاً وكذلك أداء.

 قال -جل وعلا- { وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} السآمة الملل، أي  لا تملوا أن تكتبوا هذا الدين سواء كان صغيراً أو كبيرا، لأنه قد يقال هذا مبلغ زهيد، ولم يكتب فيترك كتابته ولكن يتأتى من وراء نسيان هذا الأمر أو جحده من الأضرار ما يتأتى من الكبير، بل قد يتأتى من أن مديناً ينسى ما عليه من دين صغير، قد يتأتى منه النُفرة والخصومة ما لا يتأتى من الأمر الكبير، يقول نسيني وجحدني فى مبلغ زهيد، ونحو ذلك؛ أما إذا كان هذا مكتوباً فإنه أضمن لهذه، وختام الآيات يبين الفوائد العظيمة من تشديد الله -تبارك وتعالى- على كتابة الدين، وإيجابه لهذا الأمر، قال { وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} إلى الأجل الذي قد اتفقتم عليه، وهو أجل السداد.

قال -جل وعلا- { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} ذلكم يرشدكم الله -تبارك وتعالى- فيه إلى هذه الأحكام أقسط أكثر عدلاً، القسط هو العدل عند الله، وذلك أنه على هذه الصورة أن يكون الدين مكتوبا ومكتوبٌ الأجل، وكل قد عرف حقه ووقت السداد ونوع الدين، والأمر فيه بيان، وفيه إشهاد؛ فهذا أقسط عند الله، أن الأمور كلها تكون متضحة، ويكون هذا العقد منضبطا، {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} أقوم للشهادة، أن الأمر مكتوب، ومنصوص عليه فيكون خلاص الرجوع يعنى هذا العقد الموثًق بالكتابة؛ فيكون أقوم للشهادة، الإنسان إذا شهادته استندت إلى المكتوب يكون هذه قائمة على الحق، { وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} أدنى أقرب، ألاً ترتابوا، ألاً تشكوا، إذا احْتَفّت كل هذه المثبتات، والمؤكدات إذا احْتَفّت كلها واجتمعت يصير هنا أبعد عن الريبة، والشك.

ثم قال -جل وعلا- { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} إلا أن تكون تجارة حاضرة، حاضرة الثمن والمثمن، ثمن حاضر سيدفعه الشخص، والسلعة حاضرة، فتديرونها بينكم يعطى هذا الثمن، ويأخذ هذه السلعة، فتدور هذه محل هذه، بعكس أن يكون الثمن غائباً، والسلعة موجودة؛ فيشتري بالأجل، أو العكس الثمن حاضر الآن يدفعه والسلعة الآن غير موجودة، وإنما ستوجد بعد مدة وسيأخذها هذا السلف؛ فهذه ليست حاضرة هذه، هذه ليست، تجارة يعنى تديرونها بينكم، وإنما فيه أجل، { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} ما دام أن هذا سيقبض الثمن، وهذا سيأخذ سلعة فالله -تبارك وتعالى- قال لا جناح عليكم ألا تكتبوه، يعنى هذا، فهذا من الله -تبارك وتعالى-بعدم الكتابة إذا كان فيه سَلم واستَلم؛ ثم قال -جل وعلا-{ وَأَشْهِدُوا إذا تَبَايَعْتُمْ} أمر بوجوب كذلك الإشهاد عند البيع، هذا فى التجارة الحاضرة، يعنى يكتفى فيها بالشهود، ولا يشترط  فيها الكتابة.

ثم قال -جل وعلا-{  وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} ولا يضار، يضارِر، كاتب أو شهيد، ولا يضارَر كاتب أو شهيد، لا يجوز أن تضر كاتب أو شهيد، ومعنى إضراره إما تخويفه من ذي سلطان إما الضغط عليه  إما ما  يلجأ بعض من عليه الحق أن يهدد الكاتب أو يهدد الشهيد، أو يضره بنوع من الإضرار، أو يضارِر هذا الكاتب أو الشهيد؛ فالكاتب إذا ضارًر معناه يضر أحد الطرفين بنوع مما هذا الذي نهى الله -تبارك وتعالى- عنه ، بنوع من الميل هنا، أو الميل هنا، أو تأخير أمر يجب تقديمه هنا، أو تقديم أمر يجب تأخيره، أو إيهام فى أمر؛ فلا يجوز  له أن يضارِر بل يجب أن يكون من أهل الحق، وكذلك الشهيد ممكن يضرمن له الحق فى تأخيره عن حضور الشهادة فى أن يشهد بنوع من الميل، فلا يجوز أن نضر الكاتب والشهيد، ولا أن يضارِر هو نفسه، أن يقوم الكاتب، والشهيد بضر غيره ممن، من أطراف العقد.

 ثم قال -جل وعلا-  { وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} يعنى إن ضاررتم الكاتب، والشهيد؛ فالكاتب هذا متطوع ومتبرع وقد أمره الله -تبارك وتعالى- بالكتابة، والشهيد كذلك متطوع ومتبرع بأن يشهد، وقد ألزمه الله -تبارك وتعالى- بأن يشهد تحملا وأداء، فلا ينبغي له هذا من أهل الإحسان، ولا ينبغي أن يصيبه ضرر ما بل يجب أن يحسن إلي؛ لأن الله -تبارك وتعالى- قد كلفه بهذا الأمر من أمور يعنى الإرفاق، والمعاونة بين المسلمين؛ فهي من حق ألزمه الله به حق فى رقبته للمسلم لا يأخذ عليه أجرً؛ فلا ينبغي والحال كذلك أن يضارَر.

قال { وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} فسوق، الفسق هو الخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى-  يعنى خروجُ عن طاعة الله -تبارك وتعالى- إلى معصيته، ثم قال -جل وعلا- { وَاتَّقُوا اللَّهَ} أمر منه -جل وعلا- لعباده بأن يتقوه، بأن يخافوه -جل وعلا- {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} ويعلمكم الله أن هذا التفصيل والبيان فى هذا الأمر، وهو من الأمور التى تنظم علاقة المسلمين بعضهم مع بعض، فهو ليس عبادة بمعنى شؤون التقرب إلى شأن من شؤون التقرب إلى الله، كالصلاة والصوم، وإنما هو أمر يعلمنا الله -تبارك وتعالى- إيًاه تصلح حالنا وتستقيم معاملاتنا ولا يكون هناك فيه ظلم ولتتم هذا الإرفاق، هذا باب عظيم جداً من باب الإرفاق يتم على صورته الصحيحةوهو المداينة،  فإن المداينة هي أعظم وسيلة للقضاء على الربا، المداينة الحسنة بدون زيادة هي أعظم وسيلة للقضاء على الربا؛ فإن التاجر إذا باع بالأجل ولم يزد فى السلعة فى الثمن على المشتري وضبط أموره ورد المشتري يعنى استفاد بالدين ولم يزد عليه للأجل، وكذلك العكس فى السلف، وكذلك فيمن احتاج مالاً، قرضاً حسناً، فاقترضه وأدًاه، فإذا تمت المداينات  بين المسلمين بهذه الأمور التى تضبط حق كل ذي حق، وبالتالي ينطلق الناس إلى أن يداينوا بعيداً عن الربا ؛ لذلك جاءت آية الدين بعد آية الربا تماماً، لأن هذه المداينة بهذه الصورة التى بينها الله -تبارك وتعالى- والتي فيها ضبط لحق الدائن سيشجع، الغني أن يداين ماله؛ لأنه يعلم أن حقه سيعود إلي.

 وقلنا إن هذا إرفاق عظيم، لأن المداينة نوع من الصدقة؛ فمن داين غيره، وانتظر عليه بدون أن يزيد له فى هذا الأجل، فكأنه تصدق عليه، وأحسن إليه، فهذا باب واسع من أبواب الإحسان؛ فلذلك أمر الله، أنزل الله -تبارك وتعالى- فيه هذه الآية الطويلة فى هذه التفصيلات، وهذا التوثيق حتى يحفظ حق الدائن، وترد له يعنى يرد له ماله كامل؛ فالله يقول { وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} الله يعلمكم هذا الأمر منه -سبحانه وتعالى- الله هو الذي يعلم، وعندما يُعلم الله -تبارك وتعالى- فهذا شيء عظيم، هذا شيء عظيم ، اعلم أن هذا التعليم من الله -يسبحانه وتعالى- إذن فقدروا هذا.

قال بعض أهل العم أنه هنا{ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} جعل التقوى سبب للتعليم، فإذا اتقيتم الله، علمكم الله، فكأنه إذا اتقيتم الله -تبارك وتعالى- كانت هذه التقوى سببا لأن يعلمكم الله -تبارك وتعالى-،  والمعنى الأول أنه اتقوا الله هذا أمرُ عام، انتهى الكلام، ويعلمكم الله هذه الواو استئنافية وليست سببية هنا، بمعنى أن هذا التنزيل إنما هو من تعليم الله -تبارك وتعالى- لكم فقدٍروا يعنى هذا الأمر لأن الله هو الذي يعلمكم -جل وعلا-.

 {........وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[البقرة:282] الله عليم بكل شيء -سبحانه وتعال- وهذا يشمل أن تعلموا هذا علم ممن يعلم كل شيء، الأمر الثاني أنه حذروا أن تخالفوا أمر الله -تبارك وتعالى- لأن الله عليم –سبحانه - بكل شيء.

ثم قال الله -تبارك وتعالى- {وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}[البقرة:283] هنا ذكر الله -تبارك وتعالى- البديل فى عدم وجود الكاتب الذي يكتب، قال { وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ} وغالباً إذا كان الناس على سفر فربما يكون ندرة وجود من يعرف الكتابة، فإنه غالباً يكون هذا وجود الكاتب فى  الحضر، أما فى السفر فقد يتعذر، ويندر أن يوجد كاتب { وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا} أي يكتب الدين قال -جل وعلا- { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} رهان مقبوضة يكون هنا رهن، وأصل الرهن هو المًسْك، مرتهن يعنى ممسوك، ومحجور، ومقبوض عليه، يعنى فليضع محٍلً الدين مال آخر يرهنه حتى يسدد دينه إلى صاحب الدين.

أدركنا الوقت، ونفًصٍل إن شاء الله أحكام الرهن فى الحلقة الآتية، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.