الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون:1] {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}[الكافرون:2] {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}[الكافرون:3] {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ}[الكافرون:4] {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}[الكافرون:5] {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}[الكافرون:6]، هذه السورة سورة الكافرون؛ سورة البراءة من الكُفر والمُفاصَلَة، وبيان أن طريق الإسلام طريق واحد؛ مَن شائه دخل فيه، ومَن لم يُرِده كما أنزله الله -تبارك وتعالى- فهو خارج عنه، هذه السورة كان النبي يقرأ بها هي و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1] في ركعتي الطواف، وفي ركعتي الفجر، وفي الركعتين بعد المغرب، والتزم هذا -صل الله عليه وسلم- كما جاء في الحديث في ركعتي الفجر، كان كثيرًا ما يقرأ في ركعتي الفجر في الركعة الأولى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون:1] وفي الركعة الثانية {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1]، وكذلك قرأ بها في ركعتي الطواف -صلوات الله والسلام عليه- فقد كان يجمع بينهما، قالوا أن السبب في أن سورة الكافرون براءة؛ البراءة من الكُفر وأهله، ودمغ الكُفر بمُسمَّاه الحقيقي، ثم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1]، هذه بيان التوحيد وإخلاص الدين لله -تبارك وتعالى- وحده -جل وعلا-، فيجتمع هنا في هاتين السورتين البراءة من الكُفر والإيمان بالله -تبارك وتعالى-؛ وهذان قُطبَي الدين، {........ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[البقرة:256].
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون:1]، أمر صريح من الله -تبارك وتعالى- لعبده ورسوله -صل الله عليه وسلم- أن يُخاطِب الكفار بهذا الوصْف؛ بوصفهم الحقيقي، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون:1]، يُناديهم بهذا، {........ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون:1]، الكافر هو الذي عَلِم ورأى آيات الله -تبارك وتعالى- فجحَدَها، وأنكرها، وكفَر، وقول الكافرون هنا هذا لكل أنواع الكُفر، فالكُفر مِلَل كثيرة ودرجات كثيرة ولكنه في النهاية يبقى مِلَّة واحدة، سواءً كانوا هم مشركوا العرب، أم اليهود، أم النصارى؛ فإن الله -تبارك وتعالى- أكفَرَ هؤلاء ، كل مَن لم يدخل في الإسلام ويتَّبِع هذا النبي الكريم -صلوات الله والسلام عليه- بالدين الذي جاء به فهو كافر، فإن الله -تبارك وتعالى- دعى الجميع إلى الإيمان به والدخول في دين النبي -صلوات الله والسلام عليه-، أهل الكتاب قال {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران:64]، فهي دعوة لأهل الكتاب إلى الدخول في هذا الدين؛ وأنه دين واحد، طريق واحد لا يمكن أن يُشارِكَه طريقٌ أخر، وقال -جل وعلا- للؤمنين {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[البقرة:136] {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[البقرة:137]، قال {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا}، بأن يؤمِنوا بما أنزل الله -تبارك وتعالى- وأن يكونوا كالمسلمين؛ فيوَحِّدوا الله -تبارك وتعالى-، ويؤمِنوا بهؤلاء الرُسُل جميعًا لا يُفرِّقوا بين رسول ورسول، {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[البقرة:137].
فاليهود الذي آمنوا ببعض الكتاب وكفروا بالبعض؛ وآمنوا ببعض الرُسُل وكفروا بالبعض، كفروا بعيسى وكفروا بمحمد فأكفَرَهم الله -تبارك وتعالى- وجعلهم كفار، {........ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[البقرة:85]، وأكفَرَ الله -تبارك وتعالى- النصارى في أقوالهم فقال -جل وعلا- {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}[المائدة:72] {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[المائدة:73] {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المائدة:74] {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[المائدة:75]، فهذا إكفار من الله -تبارك وتعالى- للنصارى الذي قالوا إن المسيح هو الله؛ أو الذي قالوا إن الله ثالث ثلاثة، كما هُم يقولو الأب، والابن اللي هو الكلمة عيسى، وروح القُدُس، فهؤلاء أكفرهم الله -تبارك وتعالى- وبيَّن أنهم كفار بهذه المقالة؛ وأنهم لا يمكن أن يكونوا مؤمنين إلى إذا اتَّبَعوا هذا النبي الكريم محمد -صلوات الله والسلام عليه-، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران:64]، أي وأنت اتخذتم طريق غير طريق الإسلام.
كذلك مشركوا العرب فإنهم كان يدَّعون أنهم أهل الدين؛ وأنهم أهل الله، وأنهم أهل بيته، وأنهم هم الذي على الحق، وأنهم أولاد إبراهيم من إسماعيل؛ وهُم الذين يُعظِّمون البيت، وهُم أهل حج بيت الله، وهُم أهل الصلاة فيه، وأهل النفقة؛ وسدانة البيت، وتعظيمه، وأن النبي خارج عن هذا الدين، ومع إيمانهم بأن الله -تبارك وتعالى- خالق هذا الكون ومُدَبِّره -سبحانه وتعالى-، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ........}[لقمان:25]، {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[المؤمنون:86] {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}[المؤمنون:87] {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[المؤمنون:88] {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}[المؤمنون:89]، لكنهم مع هذا كانوا يُشرِكون بالله -تبارك وتعالى- فيدَّعون أن لله -عز وجل- ملائكته إنما هم بناته؛ ولِدنَّ له في زعمهم بين نَسَب بين الله -تبارك وتعالى- وبين ثرات الجِن، وأنهم ولِدنَّ له، وأنهم لا يملِكون معه ولكنه يملِكهم، ولكنهم يشفعون عند أبيهم في زعمهم إذا عبدوهم من دون الله، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، ونسوا الآخرة واعتقدوا أنه لا بعث ولا نشور؛ فهُم كفار في هذا ومُشرِكون، {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}[يوسف:106]، فهُم كفار، وإن كانوا يؤمنون ببعض الإيمان بوجود الرب -تبارك وتعالى- وأنه الإله المُهيمِن إلا أنهم قد كفروا بهذه المقالات الشنيعة في الكفر؛ كفروا بإنكارهم البعث، كفروا بقولهم الملائكة بنات الله، كفروا بقولهم إن الآلهة ومُتعدِّدَة ولا يمكن أن يُعبَد الله وحده؛ وإنما يُعبَد معه هذه الآلهة التي تُقرِّب من الله، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، مقالات كثيرة في الكُفر جعلتهم كفار.
النداء في هذه السورة لكل الكفار، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون:1]، كل مَن ينطبِق عليه وصْف الكُفر، ولو كان وصْف الكُفر هذا من ناس دخلوا في الإسلام لكنهم فعلوا وأرادوا ما يُخرِجُهم منه؛ مما يُكفِّرَهم وهو أن يتحاكموا إلى غير النبي -صلوات الله والسلام عليه-، قال -جل وعلا- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا}[النساء:60] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}[النساء:61] {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا}[النساء:62]، توفيقًا بين حُكْم الله وحُكْم غيره، وقال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء:65]، فهنا فاصلهم الله -تبارك وتعالى- وأخبرهم أنه لا إيمان إلا بأن يكون الرسول هو الحَكَم -صلوات الله والسلام عليه-؛ وأنهم إن ذهبوا وتحاكَموا إلى غيره فقد كفروا وخرجوا من هذا الدين، فلا وربك؛ يُقسِم الله بنفسه، {........ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء:65]، فهذه كلها طوائف الكُفر الله -تبارك وتعالى- أمَرَ رسوله أن يُنادي الجميع، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون:1]، يا مَن كفرتم بالله -تبارك وتعالى- وإن كنتم في زعمكم آمنتم ببعض مسائل الإيمان؛ ببعض آيات الله -تبارك وتعالى-، وببعض صفات الله، فإن الإيمان لا يكون إلا واحدًا كما أنزَلَه الله -تبارك وتعالى-، والشَّرعة هي شِرعة واحدة؛ شِرعة الله -عز وجل-.
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون:1] {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}[الكافرون:2]، مفاصلة كاملة، لا أعبد؛ بالفعل المُضارِع حالًا ومُستقبلًا ما تعبدون، وإنما الذي يعبده النبي وأُمِرَ النبي أن يعبده هو الله وحده لا شريك له، قال -جل وعلا- لرسوله {........ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}[الزمر:2]، وهؤلاء المشركون على اختلاف أصنافهم إنما عَبَدوا مع الله -تبارك وتعالى- آلهة أُخرى، فاليهود جحدوا وردُّوا كلام الله -تبارك وتعالى-؛ وآمنوا ببعض الكتاب وكفروا بالبعض، آمنوا ببعض الرُسُل وكفروا بالبعض، فكفروا بالله -تبارك وتعالى- ولم يعبدوا الله كما أمَرَهم الله -عز وجل-؛ ومنهم مَن قال عُزَير ابن الله، والنصارى لا يعبدون ما أمَرَ الله -تبارك وتعالى-؛ أن يُعبَد الله وحده لا شريك له، وإنما عبدوا مع الله -تبارك وتعالى- بعض خلْقِه؛ عبدوا عيسى، وعبدوا مريم؛ اتخذوها إله، ذبحوا لها، نسَكوا لها، قالوا هي أُم الإله، ففكروا بالله -تبارك وتعالى-؛ ومشركوا العرب على هذا النحو كذلك، {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}[الكافرون:2]، فهُم يعبدون غير الله -تبارك وتعالى-، النبي أُمِرَ أن يعبد الله وحده وهُم لم يعبدوا الله -تبارك وتعالى- وحده؛ وإنما عبدوا معه آلهة شتَّى، {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}[الكافرون:2]، جاء كذلك أن هؤلاء المأفوكون من كل هذه أصناف الشِّرك كلها دعَت النبي -صل الله عليه وسلم- أنه لن يكون مُهتديًا إلا إذا سار في طريقهم، فاليهود عرضوا عليه الأمر{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ........}[البقرة:111]، قالت النصارى كذلك أنه لن يدخل الجنة إلا مَن كان نصرانيًا، قال -جل وعلا- {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة:112]، ومشركوا العرب كذلك دعوا النبي -صل الله عليه وسلم- إلى أن يُعظِّم آلهتهم، وقيل أنهم قالوا له اعبد آلهتنا سنة ونعبُد إلهك سنة ونقتسِم الأمر بيننا وبينك، أو أن يُطاوِعَهم في شيء من ذلك؛ قالوا عظِّم آلهتنا، فهذا كله جاء مفاصلة للجميع أن النبي أُمِرَ أن يعبد الله مُخلِصًا له الدين، قال قُل لهم {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}[الكافرون:2]، الذي تعبدونه، وهُم لا يعبدون الله وحده -سبحانه وتعالى-، والنبي قد أُمِر فقيل له {........ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}[الزمر:2] {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}، {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}[الزمر:11]، فاعبدوا ما شئتم من دونه، أنتم اعبدوا الذي تشائون من آلهة أما أنا فأعبد الله -تبارك وتعالى-.
{لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}[الكافرون:2] {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}[الكافرون:3]، هذا بيان أنهم لا يعبدون ما يعبُدَه النبي -صلوات الله والسلام عليه- وذلك أنهم عبَدوا آلهة شتَّى؛ كلهم كفار، كل طوائف الأرض الذين على غير دين الله -تبارك وتعالى- الذي جاء به النبي لا يعبدون الله -تبارك وتعالى-، لأن كل عبادة فيها شِرك لله فهي ليست لله؛ ولا يقبَلَها الله -تبارك وتعالى-، فالله هو أغنى الشركاء عن الشِّرك، مَن عَمِلَ عملًا أشرَكَ مع غيره تركَه الله -تبارك وتعالى-، وكل مَن أشرَكَ بالله -تبارك وتعالى-؛ عبَدَ الله وعبَدَ معه غيره، فإن الله يُحبِط عمله ولا يجعل هذه العبادة له؛ ولا يقبلها -سبحانه وتعالى-، بل لا يقبَل الله -تبارك وتعالى- إلا ما كان خالصًا لوجهه من العمل؛ وأن يكون هذا العابد يعبُدُه وحده لا شريك له ولا يعبُد معه غيره، فكل مَن عبَدَ مع الله غيره فإن عبادته باطلة ولو كان هذا الغير ما كان؛ ولو أعطى له جزء من مائة جزء من العبادة، فلو افترَضنا أن العبادة مائة جزء؛ الصلاة، والزكاة، والصيام، والحَج، والذَّبح، والخوف، والنَّذر، مائة فرع من فروع العبادة، وجاء فأخذ فرع من هذه الفروع وأعطاها لغير الله -تبارك وتعالى-؛ ذبَحَ لغير الله، حلَفَ تعظيمًا لغير الله، فإنه يُشرِك وإن كان قد صرَفَ تسعة الأعشار أو تِسعة وتسعين جزء من هذه العبادة لله ولكنه صرَفَ واحدة منها لغير الله بطَلَت كل عبادته؛ ولم يصبح هنا عابدًا لله -تبارك وتعالى-، {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}[الكافرون:3]، وذلك أنهم على الشِّرك، قال -جل وعلا- {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ}[هود:109]، فلا تَكُ في مِرية؛ لا تكُن في شك، مما يعبُد هؤلاء؛ أي المشركين، ما يعبدون إلا كما يعبُدُ آباؤهم من قبل؛ هذه الآلهة والأصنام التي افتروها ونسَبوها إلى الله -تبارك وتعالى- ظُلمًا وزورًا، وإنَّا؛ الله -سبحانه وتعالى-، لموفوهم نصيبهم؛ في الآخرة، أي نصيبهم من العذاب، غير منقوص؛ سيأخذون نصيبهم من العذاب في يوم القيامة غير منقوص بالشِّرك، والله لا يقبَل -سبحانه وتعالى- أن يُشرَك به، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ........}[النساء:48]، فهؤلاء لا يعبدون الله بشِركِهم، مادام أنهم مشركون؛ اليهود، النصارى، ومشركوا العرب، غيرهم من الأمم التي أشركَت بالله -تبارك وتعالى- فإنها لا تعبد الله، لأن كل ما ادَّعوه من أنهم يعبدوا الله –تبارك وتعالى- مادام أنهم قد جعلوا لهم إله مع الله -تبارك وتعالى- فإذن عبادتهم ليست لله، {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}[الكافرون:3].
ثم {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ}[الكافرون:4]، هذا تأكيد للمعنى الأول {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}[الكافرون:2]، وجاء هذا التأكيد هنا بالجملة الإسميَّة الثابتة في الخبرية، في الآية الأولى جائت بالجملة الفعلية {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}[الكافرون:2]، ليكون هذا في البداية والمستقبل، والجملة الثانية {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ}[الكافرون:4]، يعني أنا بوصفي هذا لست عابدًا ما عبدتم؛ هذا مستقِر في الوصفية، فإن النبي -صل الله عليه وسلم- قد أُمِرَ ألا يعبُد إلا الله -تبارك وتعالى-؛ وأنه مُستقِر في عبادة الله وحده لا شريك له، {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ}[الكافرون:4]، لست أنا بعابدٍ ما عبدتم، وذلك بأن النبي مأمور أن يعبد الله -تبارك وتعالى- وحده لا شريك له، {........ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}[الزمر:2]، ومَنهي عن الشِّرك، {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الزمر:65] {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}[الزمر:66]، فالنبي مأمور كما أُمِرَ كل الأنبياء والرُسُل بأن يعبدوا الله -تبارك وتعالى-، وقد قال -جل وعلا- {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة:5]، هذا هو الدين المستقيم، {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}[البينة:1] {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً}[البينة:2] {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}[البينة:3] {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}[البينة:4] {وَمَا أُمِرُوا}، أي أهل الكتاب قبلنا، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ........}[البينة:5]، مُخلصين؛ الإخلاص هو التنقية والتصفية، يعني أمر عبادة لله وحده نقية صافية؛ خالية من أي شائبة من شوائب الشِّرك لغيره، لا يشوبها أي شِرك لغيره -سبحانه وتعالى-، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، جاعلين دينهم كله لله -تبارك وتعالى-، {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}، يعني مائلين عن كل طُرُق الشِّرك؛ فالحنيف هو المائل، يعني أنهم يتركون كل طُرُق الشِّرك ويسلكون طريق التوحيد لله -تبارك وتعالى-، {حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ}، أي لله، {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}، هذا هو الدين القويم الذي لا يرضى الله -تبارك وتعالى- من عباده غيره، {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ}[الكافرون:4].
ثم تأكيد بعد ذلك {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}[الكافرون:5]، تأكيد للمعنى هذا أنهم في عبادتهم غير الله -تبارك وتعالى- وشركهم بالله لا يمكن أن يكونوا عابدين لله، لأن مَن أشرَكَ مع الله غيره فإنه لا يمكن أن يكون عابدًا لله، الله لا يرضى -سبحانه وتعالى- من أحد أن يُشرِكَ به ولا يقبل عبادته؛ فهو يُبطِلُها -سبحانه وتعالى-، فأولًا هو لا يأمر بالشِّرك؛ ولا يرضى أن أحد يأمر بالشِّرك، كما قال -جل وعلا- {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران:80]، وقال {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ ........}[آل عمران:79]، لا يمكن، يعني يخبر الله بأن هذا لا يمكن ويستحيل أن يُرسِلَ الله -تبارك وتعالى- نبي يُرسِلُه الله -تبارك وتعالى-، ويُكرِمه برسالته، ويُعلِّمَه الكتاب والحكمة، ثم يذهب هذا النبي ويقول للناس اعبدوني من دون الله؛ مستحيل هذا، {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}[آل عمران:79]، ثم قال -جل وعلا- {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران:80]، يعني إن الله -سبحانه وتعالى- لا يأمر عباده أن يعبدوا ملائكته أو أن يعبدوا رُسُلَه وإلا كان آمِرًا لهم بالكُفر، وإنما أمر الله -تبارك وتعالى- لعباده أن يعبدوه وحده لا شريك له، لا يعبدوا ملائكته ولا يعبدوا أنبيائه ورُسُلَه وإنما يعبدوه وحده بكل صنوف العبادة؛ بالدعاء، بالخوف، بالنَّذر، بالخشية، بالتعظيم، بالقيام، بالركوع، بالسجود، كل هذه قد جعل الله -تبارك وتعالى- مفردات هذه العبادة لا تُعطى إلا له وحده -سبحانه وتعالى-؛ ومَن صرَفَ منها شيئًا لغيره فإنه يكون مُشرِك بالله -تبارك وتعالى-.
فالله لا يرضى -سبحانه وتعالى- من عباده الشِّرك كله ولو كانوا أقرب المُقرَّبين منه كالملائكة، {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:29]، وكذلك قد قال الله -تبارك وتعالى- في الرُسُل {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، ولو أشركوا بعد أن ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- في سورة الأنعام طائفة الأنبياء فقال {........ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[الأنعام:84] {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ}[الأنعام:85] {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ}[الأنعام:86] {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الأنعام:87] {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام:88]، ولو أشركوا يعني هؤلاء الأنبياء المُكرَمون من الله -تبارك وتعالى- لَحَبِطَ عنهم ما كانوا يعملون، وقال -جل وعلا- {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الزمر:65] {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}[الزمر:66]، فإذن أنتم أيها الكفار بهذا الوصْف وبهذا الاسم {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون:1]، {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}[الكافرون:5]، لا أنتم بوضعكم هذا وبحالكم هذا وأنتم تُشرِكون بالله -تبارك وتعالى- لا يمكن أن تكونوا عابدين لربي؛ الإله الواحد الذي لا إله إلا هو، لأن الله لا يرضى -سبحانه وتعالى- أن يُعبَد معه غيره، فأنتم بعبادتكم غيره لا يمكن أن تكونوا عابدين لله -تبارك وتعالى-.
وفي النهاية {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}[الكافرون:6]، طريقان مُنفصِلان تمامًا، لكم دينكم أيها الكفار من كل مِلَّة ولَون، وهنا لكم دينكم ليست هنا للتخيير وليَ دين وإنما هي لبيان أن طريقهم منفصِل عن طريق الرب -سبحانه وتعالى-؛ وعن الطريق الذي أمَرَ الله نبيه أن يسلُكَه، فمادام أنهم على الكُفر وعلى الشِّرك بالله -تبارك وتعالى- فهُم في طريق أخر، {لَكُمْ دِينُكُمْ ........}[الكافرون:6]، أي إذا أردتم أن تسلكوه فاسلكوه لكن هذا ليس دين الله -تبارك وتعالى-؛ وليس هو ديني الذي أمَرَني الله -تبارك وتعالى- به، ولا يمكن أن ألتقي معكم في طريق ولا أن نلتقى بأنصاف حلول... لا، بل أنتم لكم دينكم فلتسيروا فيه كيف شئتم ولكن أنا ليَ ديني؛ وديني هو الإسلام الذي أمَرَني الله -تبارك وتعالى- به، {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}[الكافرون:6].
هذه السورة سورة مُفاصلَة كاملة، ومن أهم هذه المُفاصلَة أولًا وصْف الأمور بأوصافها، فالكافر هنا وصِفَ بوصفه الحقيقي؛ الكافر، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون:1]، ويا أيها الكافرون؛ كل الكفار، ليس هذا خطابًا لنوع من أنواع الكفار وإنما هو خطاب للكفار جميعًا؛ يهود، أو نصارى، أو مشركين، أو مجوس، أو غيرهم، إنما هو للجميع، وإن كان هؤلاء اليهود؛ أو النصارى، أو المشركين، يعبدون الله -تبارك وتعالى- ولكن يعبدون معه غيره؛ يعبدون الله وقد كفروا بشيء مما جاء به الله -تبارك وتعالى- فالحال أنهم كفار، مادام أنهم قد كفروا؛ كفروا بشِركهم، كفروا بتركهم بعض ما أنزَلَ الله -تبارك وتعالى- فهم كفَّار، فكلهم كفار وهذا وصفهم، ثم مُجابَهتُهم بهذا الوصْف هو الوصْف اللائق بهم ما فيه مُداهنة، لا مُداهنة لهم بل هم الكافرون، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون:1]، هذا أول شيء، ثم بيان أن كل مَن عبَدَ مع الله -تبارك وتعالى- غيره فما عبَدَ الله، مادام أنه قد اتخذ لنفسه مع الله -تبارك وتعالى- إله إذن ما عبَدَ الله؛ لأن الله -تبارك وتعالى- لا يُعبَد إلا بالإخلاص، مَن أخلَصَ الدين له فقد عبَدَه ومَن عبَدَ معه غيره فما عبَدَه؛ وإنما خرج عن طريقه وأبطَلَ الله -تبارك وتعالى- عبادته، ومَن كفَرَ بشيء مما جاء به فهو كافر وإن كان آمن ببقية ما جاء به، فهذا أمر أولًا أن الكُفر شيء واحد وأنه مِلَّة واحدة، وأن الطريق الذي أُلزِمَ به أهل الإسلام هو طريق الله -تبارك وتعالى-، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون:1] {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}[الكافرون:2] {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}[الكافرون:3] {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ}[الكافرون:4] {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}[الكافرون:5] {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}[الكافرون:6]، صراط الله -تبارك وتعالى- صراط واحد مستقيم وهو الدين؛ والدين الذي ارتضاه الله -تبارك وتعالى- لعباده، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ}، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[آل عمران:85]، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ........}[الأنعام:153]، فسبيل الله؛ صراط الله صراط واحدة، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:5] {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}[الفاتحة:6]، وهو لا يختلِط بغيره لا في القليل ولا في الكثير، كل مَن خلَطَه بغيره وأراد أن يوفِّق بين الإيمان والكُفر فقد كَفَر، لا صراط إلا صراط الإسلام، حُقَّ لهذه السورة أن تُسمَّى سورة البراءة من الكفر والكافرين؛ وإثبات أن طريق الإسلام طريق واحد، والحمد لله رب العالمين، وأُصلِّي وأُسلِّم على عبد الله ورسوله الأمين.