الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}[النصر:1] {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}[النصر:2] {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر:3]، هذه السورة من آخر ما نزل على النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وهي مُبشِّرة بنهاية رسالة النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ ودخول الناس في هذا الدين، ومُخبِرَة للنبي -صلوات الله والسلام عليه- بأنه قد دنا أجله واقترب -صلوات الله والسلام عليه-، روى الإمام البُخاري بإسناده إلى ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال كان عُمَر -رضي الله تعالى عنه- في خلافته يُدخِلُني ما أشياخ قريش، فكأن بعضهم قال أراك تُدخِل ابن عباس ولنا أولاد مثله، يعني لِما لا تُدخِل أبنائنا مثلًا وهُم في سِنِّه؟ فقال لهم عُمَر إنه من النبي بما علِمتُم، يعني إنه ابن عم النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وأراد عُمَر أن يُخبِرَهم بأن ابن عباس حَري ولائق أن يكون في مجلس الأشياخ لعِلمِه وفِقهِه بالقرآن، وكان النبي قد دعى له فقال «اللهم فقِّهُّ في الدين وعَلِّمه التأويل»، يقول ابن عباس دخلنا ذات يوم ثم قال عُمَر لِمَن حولَه ما تقولون في قول الله -تبارك وتعالى- {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}[النصر:1] {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}[النصر:2] {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر:3]؟ فقال إن الله –تبارك وتعالى- أخبر رسوله أنه إذا فُتِحَت مكة ودخل العرب في دين الله أفواجًا؛ يعني فوج بعد فوج، فعليه أن يُسبِّح الله -تبارك وتعالى- ويستغفِرَه، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر:3]، فقال لي ما تقول أنت يا ابن عباس؟ فقال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنا لا أقول مثل ما يقولون، قال وما تقول؟ قال أقول إن الله -تبارك وتعالى- قد نعى للنبي نفسه؛ والنَّعي هو الإخبار بالموت، كأن الله -تبارك وتعالى- يقول لنبيه إنه قد دنا أجلُك فاستعِد للرحيل، فقال عُمَر لا أعلم منها إلا ما قُلت، فهذه السورة إنما هي إخبار من الله -تبارك وتعالى- لرسوله بأنه قد دنا الأجل؛ وفيها أنه قد تمَّت الرسالة، فإذن استعِد للرحيل؛ والاستعداد للرحيل إلى الآخرة أن تُسبِّح بحمْد الله وتستغفِره إنه كان توَّابًا.
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}[النصر:1]، الفتح هنا بإجماع أهل العِلم بالتفسير على أنه فتح مكة، وفتح مكة كان هو حصول الفتح الأكبر لأن هذا خلاص؛ إظهار أن النبي انتصر على القوم الذي كانوا يُناوِئونَه في جزيرة العرب كلها، قريش التي تصدَّت لحرب النبي -صل الله عليه وسلم- ومحاولة إبطال دعوته، فكان دخول النبي مكة منتصِرًا دليل على أنه قد انتهى الأمر، وقد كانت العرب تنتظِر مَن سيُحسَم له المعركة؛ هل النبي -صلوات الله والسلام عليه- أم قُريش؟ وإن كان هذا الفتح مضى فتح قبله وهو الذي مهَّدَ لهذا وهو صُلح الحُديبية، كما أنزَلَ الله -تبارك وتعال- {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[الفتح:1] {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}[الفتح:2] {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}[الفتح:3]، فهذا الفتح هو صُلح الحُديبية بإجماع كذلك، وذلك أن هذه السورة؛ سورة الفتح، {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[الفتح:1]، نزلت على النبي -صلوات الله والسلام عليه- وهو راجِع من الحُديبية بعد أن عقَدَ هذا الصُّلح الذي كان في ظاهره فيه إجحاف وإذلال للمؤمنين؛ وأن الجانب الأقوى هو جانب الكفار، لكن تبيَّن بعد ذلك حقيقة هذا الأمر؛ وأن هذا الصُّلح كان في صالح أهل الإيمان تمامًا وكان فتحًا مبينًا، ولذلك لمَّا قرأ النبي هذه الآيات على عُمَر ابن الخطَّاب وكان أحد الذين قاوموا صُلح الحُديبية بكل ما أُوتي؛ وجادل النبي -صل الله عليه وسلم- في قَبوله لهذه الشروط التي أراد المشركون أن يفرِضوها على النبي -صل الله عليه وسلم-، ومنها وضع الحرب عشر سنوات؛ قالوا كيف ننتظِر هذا؟ وكذلك أن مَن جاء النبي -صل الله عليه وسلم- من المشركين ردَّه إليهم؛ ومَن أتى المشركين من المسلمين لم يرُدُّه إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وقال للنبي كيف نرضى بالدَّنيَّة في ديننا؟ كيف نقبَل الدَّنيَّة ونحن مسلمون أن نُسلِم لهم؟ المسلمين الذين يأتوننا فارين بدينهم كيف نُسلِمُهُم إلى الكفار مرة ثانية؟ وقال له النبي إنه ربي ولن يُضيِّعَني، وكان عُمَر يقول ألستَ برسول الله؟ ألسنا بالمؤمنين؟ أليسوا بالمُشرِكين؟ كيف نرضى الدَّنيَّة في ديننا؟ فيقول له النبي إنه ربي ولن يُضيِّعَني.
كانهذا الصُّلح؛ صُلح الحُديبية الذي في ظاهره على هذا النحو، والذي قال فيه رجل كالأحنَف ابن قيس -رضي الله تعالى عنه- يا أيها الناس اتهموا الرأي في الدين؛ فوالله لك كِدت أن أرد على رسول الله أمره يوم حادثة أبي جندل، وذلك أن السُهَيل ابن عمرو اللي هو أبو أبو جندَل لمَّا وقَّعَ الصُّلح مع المسلمين وفيه أن مَن أتى أهل الإسلام ردُّوه؛ وكان قد تَمَّ الصُّلح وكُتِبَ الأمر لكن لم يوقَّع بعد، جاء ابنه أبو جندَل يرسُف في قيوده ويستغيث بالمُسلمين، فقال سُهَيل ابن عمرو للنبي -صل لله عليه وسلم- ترُدَّ هذا؛ قال هذا آخُذَهُ معي، فقال له النبي اتركه لي؛ قال له لم نوقِّع بعد، قال والله لا أقبل منك شيئًا؛ يعني نرفُض كل الصُّلح مرة ثانية إن أخذتموه، كان حتى النبي يقول له اتركه لي من باب الشفاعة له، قال أبدًا، يقول الأحنَف وهذا كان في حرب الجمل اتهموا الرأي في الدين؛ فلقد كِدت أن أرُد على رسول الله أمره يوم حادثة أبي جندَل، لكن الله جعل هذا فتح وقال {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[الفتح:1] {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}[الفتح:2] {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}[الفتح:3]، وقد كان، فإن هذا الصُّلح الذي تَم ووضِعَت الحرب عشر سنوات؛ انتشر الإسلام، وأمِنَ الناس، ودخل الناس بعد ذلك في الدين، ثم كان هذا تمهيد بعد ذلك لفتح مكة الذي كان أمرًا عظيمًا وحَدَثًا مُجَلجِلًا، حيث دخل النبي مكة -صلوات الله والسلام عليه- العاصمة؛ عاصمة الإسلام، أُم القُرى التي ناوئته بكل طريق؛ وقامت في وجه دعوته، وقامت قريش وكان العرب ينتظِرون فقط لِمَن ستُحسَم الحرب، العرب في أنحاء الجزيرة كان انتظارهم هذا.
لَّما حُسِمَت المعركة للنبي -صل الله عليه وسلم-؛ ودخل النبي مكة فاتحًا، وحطَّمَ الأصنام التي كانت حول الكعبة، ونزلت {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[الإسراء:81]، وكان على الكعبة 360 صنم، وكان لكل قبيلة صنم، كل قبيلة من قبائل العرب كان لها صنم؛ يعني أصنام في بلادها، وصنم كذلك تجعله على ظهر الكعبة تشريفًا لأصنامها، فهُم كلهم مُمثَّلون بالشِّرك؛ كل طوائف العرب مُمثَّلة بالشِّرك، ورأوا أن هذه الأصنام تتهاوى على هذا النحو؛ وأن الرسول يدخل مكة مُنتصِرًا على هذا النحو، وأنه تجمَع له هوازِن أكبر جمْع فيهزمهم الله -تبارك وتعالى-؛ ويغنَم المسلمون أكبر غنيمة عندما وقَعَ هذا الفتح الأعظم والأكبر للإسلام، عند ذلك جاء العرب من كل مكان في الجزيرة تدخل دين الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ ........}[النصر:1]، وسمَّى الله -تبارك وتعالى- هذا النصر منه -سبحانه وتعالى- لأن الله -تبارك وتعالى- هو الذي هيَّأه، وقَدَّرَه، وهيَّأ المسلمين، كل الأمر له -سبحانه وتعالى-، {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ........}[آل عمران:160]، قال الله في بدر {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا ........}[الأنفال:17]، فهو الذي هيَّأ هذه الأمور؛ ورتَّبَها، وقضاها، وقَدَّرَها -سبحانه وتعالى-، والنصر نصره -سبحانه وتعالى-، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ ........}[النصر:1]، فهذا نصره -سبحانه وتعالى- الذي نصَرَ الله -تبارك وتعالى- به عباده المؤمنين، والفتح؛ فتح مكة، هذا الفتح العظيم الذي به دانت بعد ذلك الجزيرة للنبي -صل الله عليه وسلم-، سقوط مكة وكونها تبقى بعد ذلك أرض الإسلام؛ وتتحوَّل من الكُفر للإسلام بعد عارضه أهلها النبي -صل الله عليه وسلم- هذه المُعارضة، ثم تكون بعد ذلك هي دار الإسلام كان هذا هو الفتح الأعظم.
قال -جل وعلا- لرسوله {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}[النصر:2]، رأيت بأُم عينك، رأى النبي -صل الله عليه وسلم- هذا رؤية البصر، الناس؛ العرب، وهم الذين ناوئوه وابتعدوا عنه؛ منهم مَن وقَفَ هكذا ينتظِر الأمر، ومِنهم مَن ناوَئَه، {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}[النصر:2]، الدين هذا دين الله -تبارك وتعالى-؛ الدين الذي جاء به الرسول هو دين الله -تبارك وتعالى-، النبي لم يأتِ بشيء من عنده وإنما هذا دين الله -تبارك وتعالى- الذي أنزَلَه على رسوله -صل الله عليه وسلم-، أفواجًا؛ جماعة بعد جماعة، وقد سُمِّيَت السنة التي تَلَت الفتح بعد ذلك عام الوفود، سُمِّيَت عام الوفود لأنه في هذه السنة بدأت تتقاطر الوفود من الجزيرة على النبي -صلوات الله والسلام عليه-، أتى وفد بني تميم، وأتى وفد طيِّئ، وأتى وفد نجران، وأتت الوفود من كل مكان في الجزيرة إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه- تُعلِن الإسلام، ومنهم مَن أتى أولًا مُفاخِرًا ثم بعد ذلك رأى أنه لا أشرف ولا أعلى من هذا الإسلام، {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ ........}[النصر:2]، دين الله؛ طريقه وصراطه المستقيم المُنزَلَة على عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-.
قال -جل وعلا- {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر:3]، أُمِرَ النبي -صل الله عليه وسلم- هنا في هذا الحال بثلاث أمور؛ التسبيح، والتحميد، والاستغفار، سبِّح حال كونك مُتلبِّسًا بحَمْد الله -تبارك تعالى- واستغفر الله -تبارك وتعالى-، ثم أخبر -سبحانه وتعالى- بأنه قال {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}، أما تسبيح الله -تبارك وتعالى- فهو تنزيهه عن كل ما لا يليق به -جل وعلا-، وأما حمْدُه فهو إثبات المحامد له، الله -سبحانه وتعالى- هو الرب القُدُّس؛ المُقدَّس، المُنزَّه أولًا أن يكون له نِد، وشبيه، ونظير، ومثيل، فهذا أوَل ما يُنزَّه الله -تبارك وتعالى- عنه؛ أنه لا نظير له، ولا نِدَّ له، ولا كُفء له، ولا شبيه له، فهو الواحد الأحد؛ الفرد الصمد، الذي لم يَلِد ولم يولَد -سبحانه وتعالى-، هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وهو الباطن الذي ليس دونه شيء، وكل ما سِواه خَلْقُه، كل ما سوى الله -تبارك وتعالى- من السماوات، والأرض، والملائكة، والجِن، والإنس، والحيوان، والنبات، كلهم خلْقُه؛ فهو خالق كل شيء، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الزمر:62]، فهذا أوَل ما يُنزَّه الله -تبارك وتعالى- عنه أن يكون له في الوجود كله مُماثِل؛ مُنادِد، مُكافِئ، ومن هذا أنه ليس له ولَد وليس له والد؛ فلا والد له ولا وَلَد له، ولا يخرُج شيءٌ منه؛ جزء يتجسَّد كجسَد أخر كما يقول الظالمون، فالله -تبارك وتعالى- لا جزء له، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}[الإخلاص:3] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:4]، -سبحانه وتعالى-، ثم إنه يُنزَّه عن كل صفات الخلْق؛ كل صفات الخلْق اللي هي صفات النقص الله مُنزَّه عنها -سبحانه وتعالى-، فالخلْق لهم بداية ولهم نهاية؛ يمرضون، يموتون، الله -تبارك وتعالى- مُنزَّه عن كل هذا، يغفلون؛ ينسَون، يجهَلون، ما من الخلْق خلْق إلا وهو يعلم شيء وقد يجهل شيء؛ يعمل ويجهَل، كما قالت الملائكة وهم من أشرف الخلْق {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[البقرة:32]، فقد خفيَ عليهم أشياء من خلْق الله، خلَقَ الله -تبارك وتعالى- آدم ولمَّا رأوا أنه قد أكرَمَه الله -تبارك وتعالى- لم يُكرِمه أحد من المخلوقات فطلب السجود له؛ طلبَهم أن يسجدوا له، أراد أن يُبيِّن لهم ما امتَنَّ به على عبده آدم فقال -جل وعلا- {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:31] {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[البقرة:32]، وما من أحد بعد ذلك غير الله -تبارك وتعالى- من خلْق؛ من إنس أو جِن، إلا وهو يعلم ويجهَل، أما الله -تبارك وتعالى- فهو عالم الغيب كله فيُنزَّه أنه يعزُب عنه مثقال ذرَّة في السماوات ولا في الأرض؛ مُنزَّه عن أن يغيب عنه مثقال ذرَّة في السماوات ولا في الأرض، وأما غيره -سبحانه وتعالى- فإنه قد يعلَم ويجهَل، ما في مخلوق إلا وهو يعلَم ويجهَل؛ قد يعلَم شيء ويجهَل أشياء، وما يجهَلُه أكثر مما يعلَمُه، البشر مثلًا {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:85].
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}[البقرة:255]، يُنزَّه عن الغفلة، وعن النسيان، وعن الظلم -سبحانه وتعالى-، كل هذه الأمور التي تعتَري المخلوق لا تعتَري الخالق -سبحانه وتعالى-، {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}، ثم المُلك كله له -سبحانه وتعالى-، مُنزَّه أن يكون شيء من هذا المُلك الموجود لغيره؛ بل المُلك كله له، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الملك:1]، فمن تسبيح الله -تبارك وتعالى- أن يُنزَّه عن هذا كله؛ أن يُنزَّه عن كل صفات النقص، كل صفات النقص يُنزَّه عنها -سبحانه وتعالى-، ثم بحمْدِه يعني كل ما يُنزَّه الله -تبارك وتعالى- عنه يثبُت له ضِدُّه وهو المَدح، فينتَفي عنه النوم والنسيان لكمال حياته وقيُّومِيتِه -سبحانه وتعالى-؛ هو الحي الذي لا يموت، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ........}[الفرقان:58]، فالجِن والإنس يموتون والله لا يموت -سبحانه وتعالى-، ولا يفنى، ولا يَبيد، كذلك لا يظلم، {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}، من عَدلِه -سبحانه وتعالى-؛ من أنه يُقيم العَدل، حتى بين كل مخلوقاته يُقيم العدل ولا يرضى بالظلم؛ ولا يفعله -سبحانه وتعالى-، «يا عبادي إني قد حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم مُحرَّمًا فلا تظالموا»، المحامِد لله أولًا بإثبات معاني أسمائه وصفاته، كل أسماء الله -تبارك وتعالى- وصفاته أسماء حُسنى، {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، فالله من الأُلوهية، والرحمن من الرحمة، والرحيم، والغفور، والودود، والسميع، والعليم، كل اسم من أسماء الله -تبارك وتعالى- يشمل صفة؛ وصفات الله -تبارك وتعالى- حُسنى، لا تشبه صفات المخلوقين لأن صفات المخلوقين محدودة، سَمْع المخلوق وبصره بحَسَب حال المخلوق، وأما سمْع الله -تبارك وتعالى- وبصره فلائقان بذاته -جل وعلا-.
فالله -تبارك وتعالى- له الحمْد كله؛ الحمْد كله لله -تبارك وتعالى-، كل المحامد بل أن ما يُحمَد ويُمدَح به غيره أصله فيه الله -تبارك وتعالى-، فهو خالق هذا المخلوق الذي يُحمَد، فإذا حُمِدَ المخلوق لصفة فيه أو لفعل قام به فإنما مصدره ومنتهاه إلى خالقه؛ وإلهه، ومولاه -سبحانه وتعالى-، فإذن الحمد كله له، فلذلك جاء هنا قُطبَي الإيمان بالله -تبارك وتعالى- وتوحيده؛ سبِّح بحمْد الله، نزِّه الله -تبارك وتعالى- عن صفات النقص، وعن الشِّرك، وعن ما يقوله الظالمون، ولا يوجد حق افتُريَ عليه كما الله -سبحانه وتعالى-، الله الحق ولكن أعظم حق افتُريَ عليه هو الله، فإن مقالات الكفار والمشركين من إبليس اللعين إلى مَن أضلَّه من الإنس والجِن خلفه قد افتروا على الله -تبارك وتعالى- فِرى لا تحويه المُجلَّدات؛ والله مُنزَّه عن كل ما يقوله الظالمون -سبحانه وتعالى-، تسبيح الله -تبارك وتعالى- وتحميده لا أحد يُحصي ثناءً على الله -تبارك وتعالى- وحَمْد الله -تبارك وتعالى- كما أثنى على نفسه، وكيف يمكن أن يُحمَد الله -تبارك وتعالى- بما الله له أهل؟ يستحيل هذا؛ هذا أمر يستحيل لأنه لا يعلم الله على الحقيقة إلا الله -سبحانه وتعالى-، ولا يُحيط أحدًا عِلمًا بالله -تبارك وتعالى-، وكل ما يتَّصِف الله -تبارك وتعالى- به إنما هو صفة كمال؛ وصفة الكمال هذه لا يُحيط كل خلْق الله -تبارك وتعالى- عِلمًا بها، فإذن لا أحد يُحصي على الله -تبارك وتعالى- ثناءً وحمدًا كما أثنى الله على نفسه -سبحانه وتعالى-، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}، وهنا قوله ربك هذه إضافة النبي إلى الله -تبارك وتعالى- لبيان القُرب؛ وأن هذا ربك الذي أكرَمَك بهذا الإكرام العظيم بنصر الله –تبارك وتعالى-، وبالفتح، وبالدخول في دين الله أفواجًا، وكل هذا يصُب في عمل النبي، وفي شرفه، وفي فضله -صل الله عليه وسلم-.
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر:3]، اطلُب مغفرته، الاستغفار؛ طلب المغفرة، وأصل المغفرة هي الستر، غَفَرَ بمعنى غطَّى وسَتَرَ، والذنب يشين صاحبه ويؤذيه في الدنيا والآخرة، وطلب العبد من الله -تبارك وتعالى- أن يغفر ذنبه بمعنى أن يستُرَه فلا يُحاسِبَه عليه؛ ولا يفضَحَه به -سبحانه وتعالى-، هذا من معاني مغفرة الرب -تبارك وتعالى-، واستغفره؛ اطلب مغفرته، اطلب محو هذا الذنب؛ وستره، وتغطيته، وإزالته من صحائفك، وقَبول توبتك ورجوعك إلى الله -تبارك وتعالى-، إنه؛ الله -سبحانه وتعالى-، {كَانَ تَوَّابًا}، توَّابًا؛ كثير قَبول التوبة من عباده -سبحانه وتعالى-، والذنب لا شك أنه في حق الله -تبارك وتعالى- ...، أولًا حق الله -تبارك وتعالى- على العباد أن يُطاع فلا يُعصى -سبحانه وتعالى-؛ ويُذكَر دائمًا فلا يُنسى، ويُشكَر -سبحانه وتعالى- فلا يُكفَر، ويُطاع فلا يعُصى، طاعة بغير معصية، إنابة دائمة إليه-–سبحانه وتعالى-، ذكِرٌ دائم؛ لا يغفُل العبد عن ذِكره -سبحانه وتعالى-، وكل مخالفة لهذا إنما هي معصية لله -تبارك وتعالى-، والمعاصي تكبُر بحسَب منزلة صاحبها؛ فمعصية المَلَك غير معصية الإنسان، ومعصية الشريف، والرسول، والنبي، غير معصية مَن دونهم، ومعصية العالم غير معصية الجاهل، فالذنب يعظُم بحَسَب درجة صاحبه في القُرب؛ كلما كان العبد أقرب إلى الله –تبارك وتعالى- كلما كان الصغير في حقِّه يصبح كبيرًا، وطلب الله -تبارك وتعالى- من رسوله أن يستغفِرَه ليس هذا لأنه فعل ذنب، فالأنبياء –عليهم السلام- ورُسُل الله -تبارك وتعالى- لا يفعلون الذنب بمعنى أنهم يتعمَّدون مخالفة أمر الله -تبارك وتعالى-، لا رسول من الرُسُل ولا نبي من الأنبياء يمكن أن يكون يعرف أن هذا أمر الله –تبارك وتعالى- ويُخالِفَه قط، حتى آدم الذي ذكَرَ الله -تبارك وتعالى- له المعصية فإنه قال أنه نسي، {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}، ولا يمكن أن يكون كان عالِمًا بأن هذا أمر الله -تبارك وتعالى- وأن يُخالِفَه ويعصاه، لكن مُجرَّد أخذ خلاف الأَولى يكون ذنبًا في حق النبي -صل الله عليه وسلم-، يعني في حق النبي إذا أخذ خلاف الأَولى؛ كان أمران حسنان فاختار الأقل حُسنًا فإنه قد يُعاتَب لهذا الأمر.
{........ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر:3]، وهذا نبينا -صلوات الله والسلام عليه- هو النبي الذي قد أكرَمَه الله -تبارك وتعالى- بأن غفَرَ له ذنبه كله أولَه وآخره، قال -جل وعلا- {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[الفتح:1] {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}[الفتح:2]، لمَّا نزلت هذه السورة كان رسول الله -تبارك وتعالى- في ركوعه وسجوده أن يقول «سبحان ربي العظيم وبحمده؛ اللهم اغفر لي»، ويقول في سجوده «سبحان ربي الأعلى وبحمده؛ اللهم اغفر لي»، تقول عائشة -رضي الله تعالى عنها- يتأوَّل القرآن، ومعنى يتأوَّل؛ تأويله هو تطبيقه وتحقيقه، فإن الله -تبارك وتعالى- قد أمَرَه فقال له {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ........}[النصر:3]، والنبي كان يجعل الركوع والسجود محِل لتسبيح الله -تبارك وتعالى-، وكان لمَّا أمَرَه أن يستغفِره كان يستغفِر الله -تبارك وتعالى- كذلك في ركوعه وسجوده؛ فيقول في ركوعه «سبحان ربي العظيم وبحمده؛ اللهم اغفر لي»، ويقول في سجوده «سبحان ربي الأعلى وبحمده؛ اللهم اغفر لي»، سورة عظيمة وبُشرى عظيمة للرسول -صلوات الله والسلام عليه-؛ وبيان أن هذا الدين سيضرِب أطنابه ويدخل الناس فيه جميعهم، العرب كلها دخلت في دين الله -تبارك وتعالى- أفواجًا كما أخبر الله -تبارك وتعالى-، وإخبار للرسول من الله -تبارك وتعالى- بأنه قد دنا الأجل، وفيه بيان أنه قد تمَّت الرسالة ودنا أجلُك أيها النبي فاستعد بعد ذلك للرحيل في الرفيق الأعلى، ويكون ختام الحياة وختام الرسالة بتسبيح الله -تبارك وتعالى-، وحَمْدِه، واستغفاره، كما أُمِرنا دائمًا في ختام العبادة أن نستغفِر الله -تبارك وتعالى- وأن نتوب إليه، اللهم اغفر لنا ذنوبنا برحتك يا أرحم الراحمين، وصلَّ الله وسلَّم على عبده ورسوله محمد سيد الأولين والآخرين.