الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}[المسد:1] {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}[المسد:2] {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}[المسد:3] {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}[المسد:4] {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}[المسد:5]، هذه السورة مكية؛ وقيل في سبب نزولها أن النبي -صل الله عليه وآله وسلم- دعى إلى الإسلام في مكة سِرًّا لمَّا أكرَمَه الله -تبارك وتعالى- برسالته، ومكَثَ على الدعوة السِّريَّة ثلاث سنوات، ثم لمَّا أنزَلَ الله -تبارك وتعالى- قوله {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[الحجر:94]، أعلن النبي دعوته -صلوات الله والسلام عليه-، وكان بدء هذا الإعلان عندما صعد إلى جبل الصفا؛ وهو الجبل الذي هو أول المسعى منه قريب من الكعبة، ونادى بأعلى صوته واصباحاه، وهذا الإعلان واصباحاه هو إخبار بأمر خطير؛ وأحيانًا ما يكون إخبار بالحرب، فاجتمع إليه الناس والنبي نادى قريش بأسمائهم؛ يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان ...، ناداهم جميعًا وخطَبَهم النبي -صلوات الله والسلام عليه- فقال «لو أخبرتكم أن خيلًا وراء هذا الوادي تُريد أن تُغير عليكم؛ أكُنتم مُصدِّقي؟ قالوا ما جرَّبنا عليك كذبًا، قال لهم فإني نذير لكم بين يدي عذابٍ شديد»، فكان ممَن تصدَّى له في هذا الوقت أو هذه الساعة عمه أبو لهب؛ وهو عبد العُزَّة ابن عبد المُطَّلِب، ويُكَنَّى أبو عُتبة؛ ابنه الأكبر عُتبة، وقيل سُمِّيَ بأبي لهب لإشراقة وجهه؛ كان وجهه يتَّقِد كأنه شعلة من الضوء، فسُمِّيَ أبو لهب لهذا وناسَبَ أن يكون اللهب هو الذي يُنذَر به ويوعَد به في يوم القيامة لكفره، تصدَّى للنبي بعد هذه الخُطبة وبعد الإعلان؛ إعلان النبي عن أن الله -تبارك وتعالى- أرسَلَه، وأنه أُرسِل بعبادة الله وحده لا شريك له، وأن هناك يوم قيامة سيُحاسَب فيه الناس بيد يدي الله -تبارك وتعالى-، قال لهم إني نذير لكم؛ من الله -سبحانه وتعالى-، بين يدي عذاب شديد؛ ينتظر المُكذِّب.
قال أبو لهب للنبي -صل الله عليه وسلم- تبًّا لك؛ ألِهذا جمعتنا؟ وقال له تبًّا لك سائر اليوم، والتَّباب هو الهلاك، يعني دعى عليه بالهلاك سائر اليوم؛ وقال له ألِهذا جمعتنا؟ وقيل أنه أخذ حجرًا أو ترابًا ليضرب به النبي -صلوات الله والسلام عليه-، أنزل الله -تبارك وتعالى- هذه السورة في مقالة أبي لهب؛ وفي ما تصدَّى له أبو لهب من عداوة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، كان أبو لهب من أشد أعداء النبي -صل الله عليه وسلم-، ولم يكُن هذا فقط في هذا المشهد هو عداوته بل استمر في عداوة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، لمَّا أعلَنَ النبي دعوته وكان من إعلان النبي أنه كان يأتي إلى أسواق العرب؛ وإذا جائت الوفود يعرِض عليهم رسالة الله -تبارك وتعالى-، يروي الإمام أحمد وغيره أن النبي -صلوات الله والسلام عليه- كان في ذي المِجاز؛ وكان يأتي فيعرِض دعوته على العرب، ويقول لهم قولوا لا إله إلا الله تُفلِحوا، يقول راوي هذا الحديث وهو ربيعة ابن عبَّاد الدايلي أنا شاب كنت مع أبي؛ وكنت في الموسِم، وأدركت النبي -صل الله عليه وسلم- يأتي إلى القوم فيقول لهم إني رسولٌ لكم من الله -تبارك وتعالى-؛ وقولوا لا إله إلا الله تُفلِحوا، يقول ورجل يقوم خلفه فيقول أيها الناس لا تسمعوا له؛ إنه كاذب، لا تسمعوا له؛ إنه كاذب، إنه إنما يدعوكم عن ترك الَّلات والعُزَّى وترك ما يعبُد آباؤكم، وقد أتاكم بأمر مُنكَر لا يُعرَف؛ أمر فيه بِدعة ولا يُعرَف، ويقول أنا عمه ونحن أعرف الناس به.
الشاهد في هذا الحديث وفي هذا الأثَر كذلك أن أبا لهب لاحق النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ واشتدَّت عدواته للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، ولم تكُن فقط عدواته في مكة بل تعَدَّت هذا إلى أي مكان يذهب إليه النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وساعد أبا لهب كذلك في عدواته للنبي -صلوات الله والسلام عليه- زوجته؛ زوجته أُم جميل بنت حرب ابن أُميَّة، وهي أخت أبي سُفيان ابن حرب ابن أُميَّة، وهذ أُم جميل كذلك كانت تُسمَّى العوراء؛ وهي عوراء، كانت كذلك شديدة العدواة للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، ويبدوا أنها هي وزوجها في عداوة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وقيل أن من عدواته أنها كانت تحمِل الشوك وتضعه في طريق النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وتُكذِّبه، وعَون كما ذكَرنا لزوجها في عداوة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، عِلمًا أن أبا لهب عم النبي شقيقه؛ شقيق أباه عبد الله، لكنه نصَبَ نفسه لمُعاداة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، أنزل الله -تبارك وتعالى- قوله بعد مقالة أبي لهب تبًّا لك سائر اليوم للنبي؛ ألِهذا جمعتنا؟ قال -جل وعلا- {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}[المسد:1]، تبَّت؛ هلَكَت، هلَكَت يداه التي توعَّد بهما أو هَمَّ بهما أن يضرب النبي بحجر، فتبَّت يداه كِلتاهما، {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}[المسد:1]، وسمَّاه الله -تبارك وتعالى- بهذه الكُنية التي اشتهَرَ بها أبا لهب؛ واللهب هو شعاع النار المرتفع لهيبها، وذلك ليكون له من هذا الاسم نصيب في الآخرة -عياذًا بالله-، {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}[المسد:1]، يعني خاب وخسِر، هذا إخبار من الله -تبارك وتعالى- أولًا بالدعاء عليه؛ والدعاء هذا من الله -تبارك وتعالى- مُتحقِّق، فقد نالت يداه الخسار وهلَكَ هو كله كذلك، تَب؛ هلَك.
{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}[المسد:2]، في الدنيا والآخرة هذه صورة هلاكه، {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ ........}[المسد:2]، لم يُفِده شيئًا، فإن الله -تبارك وتعالى- قتله في الدنيا كذلك شَر قتلة، لم يتمتَّع كثيرًا بتكذيبه للنبي -صلوات الله والسلام عليه- فإنه مات بعد وقعة بدر ببِضع ليالي؛ ومات بمرض خبيث تخافه العرب جدًا وهو العدسة، والعدسة طاعون يأتي كحبَّة صغيرة في الرقبة ثم تأخذ الإنسان؛ وهي شديدة العدوى، وكان مَن يموت بها لا يدفنونه؛ يخافوا أن يقرَبوه، ولذلك قيل بأنهم استأجروا بعد أن أنتَن في مكانه ناس من السودان ليحمِلوه ويُلقوه؛ وقيل أنهم دفنوه في مكانه، أو حفروا حفرة وظلوا يُزيحوه بالعصا حتى ردموه فيها وطمروه، وقيل أنهم هدموا البيت الذي كان فيه وطمروه، المهم أنه مات ميته سيئة وهلَك ليكون عِبرة على هذا النحو، فإن قول الله -تبارك وتعالى- فيه بالهلاك في الدنيا والهلاك في الآخرة تحقَّق، {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}[المسد:1]، هَلَك، {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ ........}[المسد:2]، ماذا استفاد من ماله الذي جمَعَه؟ {وَمَا كَسَبَ}، قيل الكَسْب يعني في الوَلَد فإنه كذلك خسِرَ ولَدَه؛ لأن الولَد من كَسْب أبيه، أما بالنسبة لأولاده فإنه قد كان له عُتبة، وعُتيبة، وعتَّاب، فأما عُتبة وعتَّاب فإنهما أسلما يوم الفتح، يعني بقيا وأكرمَهما الله -تبارك وتعالى- بإسلامها وفرِحَ بإسلامهما النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وأما عُتيبة هذا الذي بالتصغير فإنهم أولًا أبوهم قال لهم بعد أن دعى النبي إلى الإسلام وكان عُتبة وعتَّاب قد تزوجا بابنتا النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ رُقية وأُم كلثوم، فقال أبو لهب لوَلَديه لا يجتمع رأسي ورأسيكما في مكان إن لم تُطلِّقا ابنتي محمد، فطلَّقاهما؛ طلَّقا رُقية وأُم كلثوم -عليهما السلام-، الولد الأخر جاء وكان مُشايعًا ومُناصِرًا لأبيه إلى النبي وقال له كلامًا شديدًا؛ وبصَقَ ناحية النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فدعى عليه النبي -صلوات الله والسلام عليه- بأن يُسلِّط الله عليه كلبًا من كلابه، فقيل أنه سافر إلى الشام ثم جاء أسد وهم نازِلون في المكان تخطَّى القوم حتى نهَشَه من بينهم؛ وتحقَّقَت فيه دعوة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فهذا كذلك إذا قيل الكَسْب بأنه الولد فخسِرَهم وذلك لا شك بأن الكافر سيخسِر ولدَه، إن كانوا أسلموا فقد خسِرَهم فالكُفر يُفرِّق بين الرجل وأبيه، الكُفر فارِق فإذا كان في النار فقد خسِرَ مَن في الجنة، وكذلك إن كانوا معه في النار فقد خسِرَهم، وأما الأخر الذي كان على دين أبيه والذي شايع أباه فقد خسِرَه كذلك، قال -جل وعلا- {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}[المسد:2]، يعني ما كسَب شيئًا ينفعه حتى ولَدَه قد خسِرَه.
ثم أخبر الله -تبارك وتعالى- عن خسارته فقال {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}[المسد:3]، وهذا وعيد من الله -تبارك وتعالى- ولذلك سيتحقَّق ولابد، يصلى؛ يحترِق، الصَّلي هو الحَرق، يعني أن الله -تبارك وتعالى- سيحرِقَه في نار الآخرة، {........ ذَاتَ لَهَبٍ}[المسد:3]، اللهب؛ ما يخرج من النار، ألسنة النار التي تخرُج منها، فهي نار ذات لهب مشتعلة؛ وهذه نار الآخرة، والتي أخبر النبي -صل الله عليه وسلم- في هذا النار فقال «ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار الآخرة، فقال يا رسول الله إن كانت لكافية، قال ولكنها فُضِّلَت عليها بتسعٍ وستين جُزءًا»، فالله توَعَّد هذا الكافر المُعانِد لله ورسوله بأنه {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}[المسد:3]، نار الآخرة -عياذًا بالله-، ثم قال -جل وعلا- {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}[المسد:4]، أي وكذلك امرأته؛ امرأة أبي لهب، وهي أُم جميل بنت حرب ابن أُميَّة؛ هذه أخت أبي سُفيان التي عادت النبي -صل الله عليه وسلم-، وشايعت زوجها في مُعاداة النبي -صل الله عليه وسلم-، {........ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}[المسد:4]، قيل حمَّالة الحطَب هنا أنها على ظاهِره؛ وأنها كانت تحمِل الحطَب من الشوك وتُلقيه في طريق النبي -صل الله عليه وسلم-، وقيل حمَّالة الحطَب في النار، يُعذِّبُها الله -تبارك وتعالى- في النار بحَمْل الحطَب وإلقائه على زوجها، فيكون هذا إذلال وعقوبة لها ولزوجها وهما في النار -عياذًا بالله-، وقيل حمَّالة الحطَب أن هذا من كِنايات العرب، والعرب تُكَنِّي عن الشخص الذي يسير بالفِتنة بين الناس أنه حمَّال الحطَب؛ أو المرأة التي تفعل هذا حمَّالة الحطَب، بمعنى أنه تُشعِل البيوت وتؤجِّج الخصومات وهذا بسعيها بالنميمة، فإذا سعَت بالنميمة فإنها تنقل كلام هؤلاء لهؤلاء لتؤجِّج الخصومات بين الناس، وهذا كذلك من جمع الكافر بين الكُفر بالله -تبارك وتعالى- وسوء الخُلُق في الناس.
كثيرًا ما يذكُر الله -تبارك وتعالى- هؤلاء الكفار بكُفرِهم بالله -تبارك وتعالى-؛ وجمعهم بين الكُفر والتكذيب وبين سوء الأخلاق، وأن سوء الأخلاق مُقترِن هذا بهذا، كما قال -جل وعلا- {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ}[الماعون:1] {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}[الماعون:2]، فقاسي القلب هذا الذي يدُعُّ اليتيم هو الذي يُكذِّب بالدين، {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[الماعون:3]، وقال -تبارك وتعالى- عن الكفار أنهم يقولوا عندما يُقال لهم {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}[المدثر:42] {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}[المدثر:43] {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}[المدثر:44] {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ}[المدثر:45] {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ}[المدثر:46]، فهُم جمعوا بين الكُفر؛ التكذيب بالبعث والنشور، التكذيب بيوم الدين، التكذيب بيوم الجزاء، وكذلك بين هذه الأخلاق الخثيثة التي تخلَّقوا بها، وكأن الكُفر هو منبَع هذه الأخلاق الخثيثة، كذلك في قول الله -تبارك وتعالى- {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}[القلم:1] {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}[القلم:2] {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ}[القلم:3] {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4] {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ}[القلم:5] {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ}[القلم:6]، فالشخص الذي على الخُلُق العظيم هو المؤمن بالله -تبارك وتعالى- لأن الإيمان هو الدَّاعي إلى كل خُلُقٍ كريم؛ والنبي -صل الله عليه وسلم- قد أهلَّه الله بكل خُلُقٍ كريم، أما أعدائه الكفار فإنهم قد اتصفوا بالأخلاق اللئيمة والخثيثة، قال -جل وعلا- {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ}[القلم:5] {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ}[القلم:6] {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[القلم:7] {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ}[القلم:8] {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}[القلم:9] {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ}[القلم:10] {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ}[القلم:11] {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}[القلم:12] {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ}[القلم:13] {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ}[القلم:14] {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}[القلم:15]، فدائمًا الكُفر يجمع سوء الأخلاق؛ سوء الأخلاق والكُفر مجتمِعان، والإيمان وحُسْن الخُلُق كذلك مُجتمِعان، فالإيمان يعني الرحمة، ويعني الصدق، ويعني الأمانة، والكذب يعني الخيانة، فعندما يصِف الله -تبارك وتعالى- امرأة أبي لهب بأنها حمَّالة الحطَب فإذا فُسِّر حمَّالة الحطَب بأنها مشَّائة بالنميمة؛ فتُشعِل البيوت بعضها مع بعض بنقل الحديث والفتنة بين الناس، يكون هذا لجمعِها هذا وهذا أو بالمعنى السابق حمَّالة الحطَب في النار -عياذًا بالله-.
{فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}[المسد:5]، الجِيد؛ العُنُق، {........ حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}[المسد:5]، قيل المسَد هو كل المفتول والمجدول جدلًا جيدًا من الحبال ومن أي نوع يكون؛ من ليف، أو من حديد، أو من غيره، فهذا الحبل {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}[المسد:5]، هذا في النار، قيل هذا في النار يعني أنها تُعلَّق في النار من جيدها بهذا الحبل الذي فُتِل هذا الفَتل؛ حبال النار -عياذًا بالله-، فتُلقى في قَعر النار ثم تُرفَع وتُلقى وتُرفَع هكذا أبدًا تُعذَّب عذاب على هذه الصورة، وقيل بأن ذُكِرَ هنا بأنه {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}[المسد:5]، بأنها كانت لها قلادة من الجوهَر وقالت لأُنفِقنَّها في عداوة محمد، فهذه التي لها قلادة من الجوهَر قد حلَّت بها جيدها؛ والتي أرادت أن تُنفِقها في عداوة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، كذلك هُدِّدَت بأنها في يوم القيامة ستُستبدَل بهذه القلادة حبل من مَسَد تُعذَّب به في نار جهنم -عياذًا بالله-.
هذه السورة من أعلام نبوَّة النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-؛ ومن أعظم الأدلة على أنه رسول الله حقًّا وصدقًّا -صلوات الله والسلام عليه-، فإن هذه السورة نزلت لعلَّها في السنة الثالثة من بعثة النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ لأن النبي بدأ دعوته العلنية بعد ثلاث سنوات من البعثة، بعثَه الله -تبارك وتعالى-؛ أرسَلَه الله إلى الناس بــ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}[المدثر:1] {قُمْ فَأَنذِرْ}[المدثر:2]، ومكَثَ النبي يدعوا سِرًّا ثلاث سنوات لا يعلم بدعوته إلا مَن يدعوهم ومَن يؤمنون به فقط، ثم بعد ذلك أُمِرَ بالجَّهر بالدعوة، فجَهَرَ بالدعوة وتصدَّى له في مَن تصدَّى من المُستهزئين عمه أبو لهب؛ والذي كان أكبر مَن تصدَّى له وقال له تبًّا لك سائر اليوم، وبدأ يطوف حوله أين يذهب النبي يدعوا إلى الله -تبارك وتعالى- فيذهب ورائه ويقول هذا كذَّاب؛ لا تُصدِّقوه، نحن أعلم الناس به، هذا ابن أخي، إياكم أن تُصدِّقوه، هذا يأمركم أن تتركوا ما عليه آباؤكم، هذا قد ابتُدِع وهذا قد ضَل، كون أن ينزل فيه قرآن ويُخبِر بأن هذا خاسِر في الدنيا والآخرة؛ ويبقى على هذا النحو {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}[المسد:1] {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}[المسد:2] {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}[المسد:3]، في الآخرة، ويبقى على هذا؛ لا يؤمن، ولا يرجِع عن كُفرِه، ويموت على كُفرِه على هذا النحو، وهذه السورة تنزِل في السنة الثالثة من بعثة النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ هذا من أعظم الأدلة على أن محمد ابن عبد الله هو رسول الله حقًّا وصِدقًّا، فإن إنزال قرآن يخبر بأن هذا الرجل يبقى على الكُفر ويستمر عليه، ثم يبقى هذا الرجل على الكُفر ظاهِرًا وباطنًا؛ يعني في الظاهر وكذلك في الباطن، ولا يُعلَم له إسلام لا هو ولا زوجته ويظل مُعاديًا للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، هذا من الأدلة العظيمة على أن محمد ابن عبد الله هو رسول الله حقًّا وصِدقًّا؛ وأن هذا القرآن نازل من الله -تبارك وتعالى-.
أمر أخر في هذه السورة أنها دليل هنا فرضي على أن العاقبة للمُتقين، انظر هذا الذي عادى النبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ كيف كان مآله؟ وانظر كيف كان المآل الذي انتهى إليه أمر النبي -صلوات الله والسلام عليه-؟ فإن كل ناظر في هذا الأمر؛ كيف أن النبي يبدأ دعوته -صلوات الله والسلام عليه- وهو على هذا النحو وحيد؟ والذي قد آمنوا به في هذا الوقت الذي قد نزَلَت فيه هذه السورة قِلَّة قليلة كانت تستخفي بدينها وبإيمانها، ثم يتصدَّى له مثل عمه ويقول هذا الأمر وهذا الكلام، ثم يُنزِل الله -تبارك وتعالى- قرآن بالنتائج التي لابد أن تكون فيخبر على هذا بالهلاك {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}[المسد:1] {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}[المسد:2] {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ}[المسد:3] {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}[المسد:4]، امرأته مَن؟ أُم جميل بنت حرب التي كانت تقول أنا بنت سيد هذا الوادي، وأنا، وأنا ...، فتُنذَر بهذا وتُهدَّد وتتوَعَّد بالآخرة ويُرسَم لها هذه الصورة البائسة حيث تكون؛ أنها {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}[المسد:5]، وأن هذا الذي سيكون، ثم يكون الأمر كما أخبر الله -تبارك وتعالى-، لا شك أن هذا قرآن الله -تبارك وتعالى-؛ هذا نازِل من عند الله، كلمة الله هي الحق.
كذلك من الأدلة على أن هذا القرآن من عند الله -تبارك وتعالى- أن النبي لمَّا جاء بهذه الرسالة لم يُحابِ أحدًا، فأَولى الناس كان بأن يُحابيهم وأن يُمالِئهم أو يُداهِنَهُم أقاربه؛ ولكن النبي صَدَعَ بالدعوة للجميع، ومَن دخَلَ في هذه الدعوة كان من أهل النبي -صلوات الله والسلام عليه- وإن كان ما كان من أبعد الناس؛ فقد دخل بلال الحبشي، وصُهَيب الرومي، وأفراد من أفناء الناس؛ ومن حواشيهم، ومن فقرائهم، دخلوا والله -تبارك وتعالى- أنزل على رسوله -صلوات الله والسلام عليه- بيان إكرامهم وعناية الله -تبارك وتعالى- بهم، كقول الله -تبارك وتعالى- في عبد الله ابن أُم مكتوم {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}[عبس:3] {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}[عبس:4] {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى}[عبس:5] {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى}[عبس:6] {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى}[عبس:7] {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى}[عبس:8] {وَهُوَ يَخْشَى}[عبس:9] {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى}[عبس:10]، فيكون إكرام لِمَن جاء لهذا الدين؛ وإعلاء شأنه، وقَبوله من الله -تبارك وتعالى-، ثم إهانته -سبحانه وتعالى- لكل مَن عانَد هذا الدين، كل مَن عاند هذا الدين الله -تبارك وتعالى- عاقبَه إما بالعقوبة العاجلة في هذه الدنيا؛ وادَّخَرَ له ما ادَّخَر من العقوبة الآجلة، هذا أبو لهب كان أحد المستهزئين بالنبي -صلوات الله والسلام عليه- والله -تبارك وتعالى- قال لرسوله {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}[الحجر:95]، المستهزئين كفيناك إياهم وكل واحد فيهم قتَلَه الله -تبارك وتعالى- بصورة من صور القتل، وهذا أبو لهب كان من كبار المستهزئين بالنبي -صلوات الله والسلام عليه-؛ وانظر كيف كانت العاقبة؟ ثم أن هذا الدين في النهاية هو دين الله -تبارك وتعالى- ليس فيه مُحاباة لقريب من النبي؛ أو إبعاد لِمَن هو بعيد عن النبي، بل هو دين الله -تبارك وتعالى- مَن قَبِلَه ودخل فيه فهو مقبول عند الله -تبارك وتعالى-؛ ومَن عاداه أهلَكَه الله -تبارك وتعالى- أيًا كان، الحمد لله رب العالمين، وفي الختام أُصلِّي وأُسلِّم على عبد الله ورسوله الأمين.