الثلاثاء 22 شوّال 1445 . 30 أبريل 2024

الحلقة (803) - سورة الإخلاص 1-4

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1] {اللَّهُ الصَّمَدُ}[الإخلاص:2] {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}[الإخلاص:3] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:4]، هذه سورة الإخلاص؛ وقد جاء في بيان فضلها أحاديث كثيرة، منها قول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «والذي نفسي بيده إنها لتعدِل ثُلُث القرآن»، وفي قول لأحد الصحابة الذي كان يقرأ بها في كل ركعة من ركعات صلاته؛ كان لا يكتفي بما تيسَّرَ له من قراءة القرآن وإنما كان يعقُب ذلك بــ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1]، فلمَّا نازَعَه أصحابه واشتكوه للنبي -صلوات الله والسلام عليه- قال «سَلوه لِما يفعل ذلك؟ فقال يا رسول الله لأن فيها صفة الله؛ وأنها أُحِبها، فقال له النبي حُبُّكَ لها أدخلك الجنة»، وقد كان النبي -صلوات الله والسلام عليه- يجمع بين هذه السورة وبين {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون:1] في ركعتي الطواف، ثبَتَ عنه في ركعتي الطواف وكذلك في ركعتي الفجر كان يجمع بين {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون:1] التي هي سورة البراءة و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1] التي هي سورة الإخلاص، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1] التي تعدِل ثُلُث القرآن أخبر النبي -صل الله عليه وسلم- بأن «مَن قرأها ثلاث مرات فكأنما قرأ القرآن كله»، وقال أيضًا -صل الله عليه وسلم- «مَن قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1] عشر مرات بنى الله له بيتًا في الجنة»، وكان النبي يقرأها والمُعوِّذَتين وينفُسُ في يديه -صل الله عليه وسلم- ويمسح وجهه، ورأسه، وما استقبل من جسده -صل الله عليه وسلم- كل ليلة.

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1] {اللَّهُ الصَّمَدُ}[الإخلاص:2] {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}[الإخلاص:3] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:4]، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1]، الله؛ هذا اسم الله -تبارك وتعالى- الأعظم، عَلَم على ذات الرب -تبارك وتعالى-، مُشتَق بمعنى الإله، كل أسماء الله -تبارك وتعالى- وصفاته بعد ذلك عائدة إلى هذا الاسم؛ الإله، فهو الإله الحق الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، وكل تعريف دائمًا يأتي لفظ الله ثم يأتي بعد ذلك بقية أسمائه وصفاته، كقول الله -تبارك وتعالى- {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[الحشر:22] {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الحشر:23] {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الحشر:24]، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1]، الأحد والواحد بمعنى واحد، وفي الحديث القُدسي «وأنا الواحد الأحد؛ الفرد الصمد، الذي لم ألِد ولم أُولَد»، بقية السورة كلها في بيان أحادية الرب -تبارك وتعالى-، وأنه أحد؛ أنه مُتفَرِّد –سبحانه وتعالى- في ذاته، وفي صفاته، وفي أفعاله، لا يشرَكه أحد، ولا نِد له -سبحانه وتعالى-.

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1]، هذه الأحادية أولًا أنه -سبحانه وتعالى- الصَّمَد، {اللَّهُ الصَّمَدُ}[الإخلاص:2]، الصَّمَد؛ السيد الذي انتهى سؤدوده وتُسلَّم الأمور كلها إليه، فالأمر كله في هذا الكون إليه -تبارك وتعالى-، فهو السيد الصَّمَد الذي ترجِع إليه كل أمور خلْقِه -سبحانه وتعالى-؛ ولا يُقضى بشيء دونه -جل وعلا-، فكل القضاء له وكل الأمر بيده -سبحانه وتعالى-، والصَّمَد فُسِّر كذلك بأنه الثابت الذي لا يَحول ولا يَزول، فإن الله -تبارك وتعالى- هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، أما كل الخلْق فينشأون من عدم ويُفنيهم الله -تبارك وتعالى- وقت ما يشاء، فإن كل ما سِوى الله -تبارك وتعالى- حادِث؛ أمرٌ حادِث لم يكُن موجودًا، ثم إن بقائه واستمراره إنما هو مرهون بأمر الله -تبارك وتعالى- الكوني القَدَري، فالسماوات، والأرض العظيمة، والملائكة، والجِن، والإنس، وكل هذه المخلوقات أنشأها الله -تبارك وتعالى- من عدم؛ وبقاؤها بأمر إلهها ومولاها -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}[فاطر:41]، والصَّمَد بمعنى أن كل المخلوقات تصمُدُ إليه وتطلب حاجاتها منه، فبقاء هذه المخلوقات إنما هو الأمر فيه إلى الله -تبارك وتعالى-، مهما كانت هذه المخلوقات من العظَمَة كعرش الله -تبارك وتعالى-، وكرسيه، وملائكته، وسماواته، وأرضه، كلها تصمُد إلى الله -تبارك وتعالى-، فإن الله -تبارك وتعالى- هو الذي تصمُد إليه كلهذه المخلوقات بمعنى أنها تتجِه إليه؛ فأمرُها عنده -سبحانه وتعالى-، وشأنها عنده، وبقاؤها إليه -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا}، {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الشورى:5]، فكل خلْقِه يصمِدُ إليه يعني أنه يرجِع إليه ويتوجَّه إليه في حاجاته، كل العباد وكل الخلْق مُفتَقِر إليه -سبحانه وتعالى-.

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1] {اللَّهُ الصَّمَدُ}[الإخلاص:2] {لَمْ يَلِدْ ........}[الإخلاص:3]، فالله -سبحانه وتعالى- واحد أحد في ذاته، لا يلِد -سبحانه وتعالى-؛ لا ولَدَ له، وكل مَن نسَبَ له الوَلَد كذَب على الله -تبارك وتعالى- وافترى عليه؛ فالله لا جزء له ولا ولَدَ له، {........ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الأنعام:101]، فكل ما سِواه خلْقُه -سبحانه وتعالى- ولا ولَدَ له، دعى له الوَلَد طوائف من ضُلَّال الإنس من هؤلاء مشركوا العرب الذي قالوا أن الله تزوَّج بالجِن وولِدَ له الملائكة؛ فالملائكة بناته، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وقالت النصارى هذا في المسيح عيسى ابن مريم؛ قالوا انه ابن الله، ابن بنوَّة حقيقية، إله من إله، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، هذا من كذبهم وافترائهم، وقال اليهود كذلك عُزَير ابن الله، والحال أن كل هؤلاء الذين نسبوا الولد إلى الله -تبارك وتعالى- مُفتَرون كاذِبون، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا}[مريم:88] {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا}[مريم:89] {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا}[مريم:90] {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا}[مريم:91] {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا}[مريم:92] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم:93] {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا}[مريم:94] {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}[مريم:95]، فكل خلْقِه -سبحانه وتعالى- إنما هم عبيده، وليس له -سبحانه وتعالى- من عبيده ولَد؛ لم يتخِذ ولد -سبحانه وتعالى-، {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}[الإسراء:111]، فالله -سبحانه وتعالى- لم يلِد؛ لا وَلَد له -سبحانه وتعالى-، وليست له زوجة، وليست له صاحبة، فهو المُتفَرِّد في ذاته؛ فذات الله -تبارك وتعالى- غير ذوات المخلوقين، كل ذوات المخلوقين مخلوقة ومؤقَّتَة بوقت حادِثة، وأما ذات الله -تبارك وتعالى- فإنه الأول الذي لم يسبِقَه عدم؛ والآخر الذي ليس ورائه شيء -سبحانه وتعالى-، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن -سبحانه وتعالى- فليس دونه شيء.

فالله -سبحانه وتعالى- هو الواحد الأحد؛ أولًا أحادية الذات، وهذه ذات الله -تبارك وتعالى- لا ينفصل منها شيء؛ ولا يوجَد منها ولد، وليس له جزء -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ}[الزخرف:15]، فالله -تبارك وتعالى- لا جزء لها ينفصل عنه؛ أو يكون ولدًا له، أو موجود في الوجود هو من ذات الله -تبارك وتعالى-، بل ذات الله -تبارك وتعالى- مُتفَرِّدة لا تحُل في غيرها من الذوات كما يقول المجرمون أهل الحلول؛ ولا يحُل في ذات الله -تبارك وتعالى- شيء من مخلوقاته، كما يقول مَن يقول من الهنادِك والمشركين بأن ذات المخلوق تتحِد مع ذات الله -تبارك وتعالى-؛ وتكون مع الله -تبارك وتعالى- ذاتًا واحدة، تعالى الله عما يقول المجرمون علوًا كبيرًا، أو أهل وحدة الوجود الذي يقولون بأن الله موجود في كل هذا الوجود؛ فوجود المخلوق هو وجود الخالق، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، بل المخلوق وجود مستقِل والله -تبارك وتعالى- وجود مستقِل عن خلْقِه، فهو المستوي على عرشه؛ البائن من خلْقِه -سبحانه وتعالى-، ذاته واحدة لا تتعدَّد -سبحانه وتعالى-، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}[الإخلاص:3]، ليس منفصلًا عن شيء وليس له والد -سبحانه وتعالى-، فهو لم يتولَّد عن شيء -جل وعلا- بل هو الرب -سبحانه وتعالى- الأول الذي ليس قبله شيء؛ والذي لم يوجَد بعد أن كان عدَمًا، تعالى الله -تبارك وتعالى- عن ذلك علوًا كبيرًا، بل هو واجب الوجود أذلًا وأبدًا -سبحانه وتعالى-، وجوده هو الوجود الحق ووجود غيره -سبحانه وتعالى- وجود عارِض، كل وجود الموجودات التي هي غير الله –تبارك وتعالى- وجودها عارِض؛ حادِث، ممكن تكون أو لا تكون، يُكوِّنُها الله -تبارك وتعالى- وقت ما يشاء، ويُفنيها الله -تبارك وتعالى- وقت ما يشاء.

{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}[الإخلاص:3] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:4]، الكُفء والمُكافئ هو المُماثِل؛ أو النظير، أو المُشابِه، نقول فلان كُفء لفلان يعني أنه عِدْل له ونظير له، فالله -تبارك وتعالى- لا كُفء له لا في ذاته ولا في صفاته -سبحانه وتعالى-، فهو الواحد القهَّار الذي قهَرَ كل شيء، وذَلَّ له كل شيء، وخضَعَ له كل شيء، فالكل في قبضته؛ وتحت أمره، وتحت إشارته -سبحانه وتعالى- لا يتأبَّى عليه شيء، وهو الحي الباقي -سبحانه وتعالى- والكل يموت ويعتريه من النقص ما يعتريه، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}[الزمر:68]، فالله -سبحانه وتعالى- هو الذي لا كُفء له، لا كُفء له في ذاته فيكون إله مُكافئ له كما قال مَن قال الذين اتخذوا لله ولد، فإنهم قالوا كما قالت النصارى إنه إله من إله وهو مُكافئ لله؛ بل قالوا ذاته ذاته، فأجرموا أكبر إجرام بأن جعلوا وجود عيسى مُكافئ لوجود الرب؛ هو مع وجود الرب، بل هو وجود الله -تبارك وتعالى-، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، كيف لهذه العقول أن تجعل بشر يأكل ويشرب وتضطَّرَه حاجة الطعام والشراب إلى الجوع وإلى أثر الطعام والشراب في الإنسان؛ كيف يكون هذا إلهًا يُجعَل نِدًّا لله -تبارك وتعالى-؟ {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[المائدة:75]، كيف يكون البشر مُكافئ لله -تبارك وتعالى- وهو يجهَل، وينسى، ويتعَب، ويبكي، وينام، ويقوم، ويحيى، ويموت، كل هذه من صفات النقص إنما تعتَري المخلوق، أما الله -تبارك وتعالى- فإنه الحي القيِّوم الذي لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم؛ والذي لا يأكل ولا يشرب، كما قال -سبحانه وتعالى- {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ}، هو الذي يُطعِم خلْقَه ولا يَطعَم هو -سبحانه وتعالى-؛ ولا يُطعِمُه أحد، {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ}[الذاريات:57] {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[الذاريات:58].

فالله لا كُفء له؛ لا نِد له، لا عِدْل له في ذاته ولا كذلك في صفاته -سبحانه وتعالى-؛ في أي صفة من صفاته، فالعِلم الله -تبارك وتعالى- هو الذي أحاط بكل شيءٍ عِلمًا، {........ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[يونس:61]، وهو يعلم كل هذه الموجودات قبل أن يخلُقها؛ ويعلمها -سبحانه وتعالى- بعد خلْقِها، وفي كل لحظة من لحظات حياتها واستمرارها يعلم كل هذا، فما يعتوِر هذا المخلوق من كل ما يعتوِره من الحالات ...، فالإنسان تعتوِره وتتجلَّدَه أمور؛ الحياة والموت، الفرح والحزن، الغضب والرضا، الهُدى والضلال، الأعمال التي تجري على جوارحه، الوساوس التي تجري على قلبه، الله –تبارك وتعالى- مع كل قلب في حركته؛ مع كل عين في نظرها، مع كل جزئية من جزئيات هذا الموجود في كل لحظة من لحظاتها، لا يعزُب عنه -سبحانه وتعالى- من خلْقِه كله شيء في السماوات ولا في الأرض، الغيب والشهادة عنده واحد؛ لا غيب على الله -تبارك وتعالى-، فما يغيب عن قوم أو عن مخلوق ويعلمه مخلوق الله -تبارك وتعالى- لا يغيب عنه شيء؛ لا يعزُب عنه من مُلكِه شيء، وهذه الصفة ليست لأحد إلا لله -تبارك وتعالى-، فكل مخلوق يعلم ويجهَل؛ يعلم ما يُعلِّمه الله -تبارك وتعالى- ويجهَل ما سوى ذلك، الملائكة تقول {........ سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[البقرة:32].

أنبياء الله -تبارك وتعالى- ورُسُله لا يعلمون من الغيب ومن العِلم إلا ما علَّمَهم الله -تبارك وتعالى-؛ والذي يجهَلونَه من العلوم أعظم مما يعلمونه، هذا آدم -عليه السلام- نسي وأكل من الشجرة التي نهاه الله -تبارك وتعالى- عنها؛ ولم يعمل أن الشيطان إنما استذلَّه على هذا النحو، قال -جل وعلا- {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ}، وهذا نوح ابنه من أهله ولم يكُن يعلم أن الله -تبارك وتعالى- سيُهلِكُه بالغَرَق مع قومه إلا بعد أن أخبره الله -تبارك وتعالى-، وإنما هو دعى الله -تبارك وتعالى- وقال {........ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}[القمر:10]، فأخبره الله -سبحانه وتعالى- بأنه سينصُرَه؛ وأن نصرَهُ سيكون على هذا النحو، وهذا إبراهيم -عليه السلام- لم يكُن يعلم أن الله -تبارك وتعالى- سيرزُقه الولد على كِبَر سِنِّه؛ وهذا أمر من أموره الخاصة غير الأمور البعيدة، ولم يكُن يعلم بالملائكة الذين أتوا فبشَّروه أنهم ملائكة الله -تبارك وتعالى-، بل ظن أنهم ضيوف عابري سبيل فأكرمَهم، وأنزلهم، وذبَحَ لهم، وشوى وأتى لهم بالعِجل الحنيذ وقرَّبه إليهم؛ وقال ألا تأكلون؟ لم يكُن يعمل أنهم ملائكة الله -تبارك وتعالى-، ثم لمَّا بشَّروه بأنه سيولَد له من زوجته سارة {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ}[الحجر:54] {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ}[الحجر:55]، وهؤلاء هُم رُسُل الله -تبارك وتعالى- جميعًا من أحوالهم ومما قصَّ الله -تبارك وتعالى- علينا لا يعلمون من الغيب إلا ما أطلَعَهم الله -تبارك وتعالى- عليه، وكذلك الجِن الذي أُعطوا هذه القوة لا يعلمون من الغيب إلا ما علَّمَهم الله -تبارك وتعالى-، حتى الغيب الإضافي كذلك لا يعلمونه إلا ما علَّمهم الله، ومعنى الغيب الإضافي أن ما خفيَ عنهم من الأمور الموجودة قد خفيَ.

سخَّرَ الله -تبارك وتعالى- لسليمان طائفة عظيمة من الجِن تخدمه، قال -جل وعلا- {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ}[الأنبياء:82]، ومع ذلك لمَّا مات ودعى الله -تبارك وتعالى- أن يُبقيَه على كرسيه لا يُدفَن حتى يستمر العمل، وذلك أنه يعلم أن بعد موته فإن هذا المُلك الذي طلَبَه وتسخير هؤلاء الشياطين سينتهي، لأنه كان قد دعى الله -تبارك وتعالى- فقال {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[ص:35]، قال -جل وعلا- {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ}[ص:36] {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ}[ص:37] {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ}[ص:38] {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[ص:39]، فامنُن؛ يعني على ما تشاء من هؤلاء الشياطين، أو أمسِك؛ في الخدمة، فلمَّا مات كانت الجِن تعمَل؛ بقيت خمسين سنة وهي تعمل ولا تعرف أنه قد مات، قال -جل وعلا- {........ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}[سبأ:14]، ما لبثوا خمسين سنة وهم يعملون في العذاب الذي يُهينهم والذي يُسخِّرهم والذي يعملون بأمره قد مات، الجِن لا يعلمون الغيب، {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}[النمل:65]، فهذا من صفاته -جل وعلا- التي لا يشرَكَه فيها أحد من خلْقِه -سبحانه وتعالى-؛ أنه هو عالم الغيب كله -سبحانه وتعالى-، عالم الغيب كله سواءً كان هذا الغيب إضافي؛ مما يعلمه البعض ويجهَلَه البعض، أو الغيب الذي استأثَرَ الله -تبارك وتعالى- بعِلمه، فهناك غيب استأثَرَ الله -تبارك وتعالى- بعِلمِه وهو كل ما يُفعَل من الزمان، من لحظة التكلُّم ما يعلم أحد ماذا سيكون بعد ذلك، {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[لقمان:34].

فهذا من صفته أن لا كُفء له في عِلمه -سبحانه وتعالى-؛ عِلم الله -تبارك وتعالى-، ولا كُفء لله -تبارك وتعالى- في رحمته؛ فرحمته التي وسِعَت كل شيء، ولا كُفء له في أي صفة من صفاته، بالنسبة للخلْق الله -سبحانه وتعالى- خالق كل شيء، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الزمر:62]، فلا أحد يُشارِك الله -تبارك وتعالى- في خلْق شيء، والإنسان يفعل فعله ولكنه لا يخلُق فعله، الله هو خالق كل شيء -سبحانه وتعالى-، فكل فعل لهذه المخلوقات الله خالقه -جل وعلا-، والله لا شركة له في خلْق شيء -سبحانه وتعالى-؛ لا في خلْق شيء إيجاد من الوجود، ولا في خلْق الفعل، فخلْق الفعل كذلك إنما هو الله خالق أفعال العباد -سبحانه وتعالى-، فأفعال العباد كلها مخلوقة لله -تبارك وتعالى-، كذلك من حيث أنه -سبحانه وتعالى- لا كُفء له؛ لا نِد له -سبحانه وتعالى- في كل هذه الصفات وبالتالي في حقوقه -سبحانه وتعالى-، لمَّا كان الله -سبحانه وتعالى- هو الله الذي لا إله إلا هو؛ هو الإله الحق -سبحانه وتعالى-، يتضمَّن هذا كل صفات الخلْق، والرزق، والإحياء، والإماتة، والقهر لكل عباده -سبحانه وتعالى-؛ وأن وجودهم وبقائهم إنما هو برحمته، وأمره، ومشيئته، وأن كل ما يناله العباد من خير ونعمة إنما هي منه -سبحانه وتعالى-، فكان لذلك هو المستحِق للعباده وحده ولا يستحِقُها سِواه -سبحانه وتعالى-؛ وذلك أنه لا نِد له ولا كفء له، لذلك كانت أكبر جريمة يرتكبها المُشرِك في أنه جعل لله نِدًّا وكفءً؛ جعل لله نِد وكفء في حقِّه عليه، ولذلك لمَّا سُئِلَ النبي -صلوات الله والسلام عليه- «قيل له يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال أن تجعل لله نِدًّا وهو خلَقَك»، فإذا جعلت لله نِدًّا وهو خلَقَك؛ كيف يكون له نِد؟ كيف تجعل لله نِد؟ والذين جعلوا أنداد لهم من دون الله -تبارك وتعالى- اتخذوا شيء من هذه المخلوقات الموجودة؛ أو مُخترعات اخترعوها بعقولهم، لا وجود لها في عالم الواقع وجعلوا آلهة لهم من دون الله -تبارك وتعالى-.

الموجود كله غير الله -تبارك وتعالى- لا يستحِق أحد من هذه الموجودات أن يُعبَد، كيف تستحِق الملائكة أن تُعبَد من دون الله -تبارك وتعالى-؟ والحال أنه لا تفضُّل لهم على هذا الإنسان؛ ليس هُم الذي خلَقوه، أو الذين رزقوه، والحال كذلك أنهم هُم عبيد لله -تبارك وتعالى-، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ........}[الإسراء:57]، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ}، الذين يدعونَهم من الملائكة هُم في طاعة الله –تبارك وتعالى- وهم في عبادة الله؛ فكيف يُعبَدون؟ والحال أن الملائكة لم تأمر أحدًا، كما قال -تبارك وتعالى- {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:29]، وكذلك الذين عبدوا الرُسُل؛ أو عبدوا الشمس، أو عبدوا القمر، أو عبدوا أي مخلوق من المخلوقات، قد افتروا إثمًا عظيمًا وذلك أن الله -تبارك وتعالى- لا كُفء له؛ لا نِد له -سبحانه وتعالى-، لا شريك له، لا شبيه له ليُعبَد مع الله -تبارك وتعالى-، ولو كان هناك مع الله -تبارك وتعالى- إله أخر لفسَدَ هذا الكون، {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ........}[الأنبياء:22]، لأن الإله لا يكون إلا على هذه الصورة؛ خالق، رازق، قائم، يخلُق، يرزق، فيكون هذا هو الإله الذي يستحِق، وليس مع الله -تبارك وتعالى- إله أخر؛ إله قد خلَق، أو رزَق، أو يُحيي، أو يُميت، أو له شيء من التفضُّل على مخلوق من المخلوقات، كما قال -جل وعلا- {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[المؤمنون:90] {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ ........}[المؤمنون:91]، لو كان مع الله إله لذهب كل إله بما خلَق إذا كان إله حقيقي، {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[المؤمنون:92].

فالله -سبحانه وتعالى- هو الإله الحق، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:4]، لا كُفء له حتى يستحِق معه أن يُعبَد من دون الله -تبارك وتعالى-، وذلك أنه لا إله إلا هو؛ لا إله يستحق العبادة إلا هو -سبحانه وتعالى-، تضمنَّت هذه السورة العظيمة وصْف الرب -تبارك وتعالى-؛ ومَن علِمها لا شك أنه يبرأ من الشِّرك بالله -تبارك وتعالى-، يبرأ من أن يجعل مع الله -تبارك وتعالى- إله أخر وهو غاية هذه الحياة، وغاية رسالة الرُسُل أن يدعوا الناس جميعًا إلى عبادة الواحد الأحد؛ الفرد الصَّمَد، الذي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}[الإخلاص:3] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:4].

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1] {اللَّهُ الصَّمَدُ}[الإخلاص:2] {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}[الإخلاص:3] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:4]، الحمد لله رب العالمين، وأُصلِّي وأُسلِّم على عبد الله ورسوله الأمين.