الثلاثاء 22 شوّال 1445 . 30 أبريل 2024

الحلقة (804) - سورة الفلق وسورة الناس

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين؛ سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}[الفلق:1] {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}[الفلق:2] {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ}[الفلق:3] {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}[الفلق:4] {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}[الفلق:5]، بسم الله الرحمن الرحيم، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}[الناس:1] {مَلِكِ النَّاسِ}[الناس:2] {إِلَهِ النَّاسِ}[الناس:3] {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}[الناس:4] {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}[الناس:5] {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}[الناس:6]، سورة الفَلَق وسورة الناس هما المُعوِّذتان، وقد ثبَتَ فيهما حديث النبي -صلوات الله والسلام عليه- الذي رواه الإمام أحمد ابن عُقبة ابن عامر الجوهَني -رضي الله تعالى عنه- أنه قال «خير ما تعوَّذَ به المُتعوِّذون {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}[الفلق:1] و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}[الناس:1]»، وقال «نزلت عليَّ سورتان لم ينزل مثلهما قط»، أي في موضوعهما؛ موضوع التعوُّذ، وكان النبي -صلوات الله والسلام عليه- يقرأهما كل ليلة مع {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1]، وينفُسُ في يديه ويمسح -صل الله عليه وسلم- وجهه، ورأسه، وما استقبل به جسده -صل الله عليه وسلم-، وكان يُعوِّذ بهما الحسن والحسين -صلوات الله والسلام عليه-، وقد جاء في حديث البخاري «أن النبي -صل الله عليه وسلم- لمَّا سحَرَه لبيد ابن الأعصم اليهودي رأى النبي في منامه أن جائه مَلَك عند رأسه ومَلَك عند قدمه، فسأل أحدهما الأخر ما به؟ قال مطبوب، قال مَن طبَّه؟ قال فلان، قال في أي شيء؟ قال في مُشط ومُشاطة في قُف بئر بني فلان»، بئر خبيث وكان هذا اليهودي لمَّا سحَرَ النبي أخفى هذا السِحر في هذا المكان، استخُرِج هذا الذي كان فيه وأنزل الله -تبارك وتعالى- على رسوله {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}[الفلق:1] و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}[الناس:1]، هذا تعويذ من كل الشرور.

المُعوِّذتان قد جمع الله -تبارك وتعالى- فيهما الاستعاذة به من كل الشرور، في سورة الفَلَق قال -تبارك وتعالى- {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}[الفلق:1]، أعوذ؛ العياذ والِّلياذ بمعنى الالتجاء والحماية، والله -تبارك وتعالى- هو الذي يكفي عبده ويحميه من كل شر، العياذ به والالتجاء إليه -سبحانه وتعالى- إنما هو حماية منه -سبحانه وتعالى- من كل شر، فالله هو الذي يحمي عبده ويكفيه -سبحانه وتعالى-، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}[الفلق:1]، الله -سبحانه وتعالى- أول صفة هنا أنه رب الفَلَق، الفَلَق والفَرَق بمعنى، وجاء بمعنى الفَلَق الله -تبارك وتعالى- فالِق الإصباح، الصبح إذا انشق الليل كأن الليل ينشَق ويخرج منه نور الصباح، وقال الله -تبارك وتعالى- في وصْف نفسه -سبحانه وتعالى- وهذا من أفعاله {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ........}[الأنعام:96]، كذلك الفَلَق جاء في القرآن بمعنى فَلْق النواة، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ........}[الأنعام:95]، فالله -تبارك وتعالى- فالق الحَب والنوى، تكون هذه الحبَّة مُتماسِكة بعضها مع بعض الله يفلِقها -سبحانه وتعالى-؛ ويُخرِج منها الساق إلى أعلى، والجِذر إلى أسفل، هذا من فعل الله -تبارك وتعالى-، الله رب الفَلَق سواءً الفَلَق في الإصباح؛ في الحَب والنوى، في إخراج الحي من الميت، فالله رب الفَلَق، ربه؛ خالقه، وسيده، وفاعله -سبحانه وتعالى-، فالرب يحمل كل هذه المعاني.

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}[الفلق:1] {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}[الفلق:2]، وهنا هذا عموم ما خلَقَ الله -تبارك وتعالى- من الشر؛ هذه استعاذة من كل الشرور، {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}[الفلق:2]، فالله -تبارك وتعالى- قد خلَقَ أشياء لها شر، أعظم هذه الشرور شر الشيطان الرجيم، الشيطان هو أكبر هذه الشرور، وكل ما خلَقَ الله -تبارك وتعالى- مما يأتي بعد الشيطان مثل النار التي هي أعظم هذه الشرور التي إذا وصلها الإنسان فقد أتى إلى الشر كله -عياذًا بالله-، والشرور التي في هذا الخلْق من الأمراض، والأسقام، والأوجاع، وكذلك من كل مخلوق له شر؛ له شر في أخلاقه كظُلمه، وغَشَمِه، ولُئمِه، المخلوقات لها شرور كثيرة وهذه استعاذة من كل الشرور الموجودة؛ من كل شر موجود في الدنيا والآخرة، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}[الفلق:1] {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}[الفلق:2].

ثم بعد ذلك خصوص بعض هذه الشرور قال {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ}[الفلق:3]، قيل الغاسِق هو الليل، وأصل الغَسَق؛ الظُلمة، {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}[الإسراء:78]، ومعنى غسَق الليل يعني امتلائه بالظُّلمة، ويُقال غَسَقَت العين إذا امتلأت بالدمع، فهو الغاسِق إذا وقَب؛ وقوبه يعني مجيئه وقفزه، فالليل هو وقت انتشار شرور كثيرة، فإن أهل الشر غالبًا وأهل الشرور إنما ينشَطون في الليل؛ فإن الليل يسترهم فينشَطون من السُّرَّاق، والقُتَّال، والمُغتالين، والمُفسِدين، وكثير من الحيوانات والآفات التي لها شر إنما تنطلِق في هذا الوقت، {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ}[الفلق:3]، وجاء أيضًا في {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ}[الفلق:3]، أنه القمر؛ وأن غسوقَه إنما هو في حال خسوفه، وقيل وقَب أي دخل في الوقب اللي هو الاختفاء والاختباء وهذا في آخر الشهر أو عندما يدخل القمر في الظُّلمة، وفي حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- «أن النبي أخذ بيدها وقال استعيذي بالله من هذا؛ وأشار إلى القمر، قال لها هذا الغاسق إذا وقَب»، قيل إذا كان المعنى القمر عند دخوله في الظُّلمة في آخر الشهر فيكون هذا بمعنى مجيء الليل، لأن مجيء الليل وعدم وجود القمر كذلك فيه يكون أشد ظُلمة؛ ويكون هذا أدعى لوجود ما هو موجود من الشرور في وقت الظُّلمة، أو أن في وقت خسوف القمر يكون فيه ما يكون فيه من الشرور المُصاحِبة لهذا، الله -تبارك وتعالى- قد يخلُق شرورًا مُصاحِبة لخسوف القمر.

{وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ}[الفلق:3] {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}[الفلق:4]، النفَّاثات؛ أصل النفث هو النفخ مع شيء من البلل من ريق الإنسان، وقيل النفَّاثات بجمع التأنيث يعني النساء النفَّاثات؛ وهي السواحِر، أو الجماعات النفَّاثات ممَن يتعاطون السحر، في العُقَد؛ عُقَد الحبل، فإن من أعمال السحر وهو ما يعزِم به الساحر على الشياطين عند كل عزمة يعقِد عُقدة مُعيَّنة، كما جاء في الحديث «الشيطان يعقِد على قافية ابن آدم عند نومه ثلاث عُقَد، ويقول عليك ليل طويل فارقُد ويعقِد عقدة، وعليك ليل طويل فارقُد»، فيعقُد ثلاث عُقَد على قافية رأسه، يقول النبي -صل الله عليه وسلم- «فإذا قام من نومه فذكَرَ الله -تبارك وتعالى-»، قال مثلًا سبحان الله أو الحمد لله عندما يقوم، «تنفَك عُقدة، فإذا توضَّأ انفكَّت العُقدة الثانية، فإذا صلَّى انفكَّى عُقَده كلها وإلا أصبح خبيث النفس كسلان»، يعني إذا لم يقُم من الليل فذكَرَ الله أو توضَّأ أو صلَّى فإنه يُصبِح الصباح وهو خبيث النفس، وخُبث النفس هنا كسلان من بقاء هذه العُقَد التي عقَدَها الشيطان على قافيته عند النوم، فهؤلاء الشياطين الذين يعقِدون العُقَد وهذه السواحِر التي تعقِد كذلك بتعزيمها على الشيطان كل هذا من الشر؛ يكون هنا من شر الشياطين ومن شر السواحِر، والسحر لا شك أنه واقع وله شر، وكون له شر نعم؛ وليس تخييلًا، كما ذهب من ذهب من علماء الكلام الذي يُسمُّون العقليين الذي نفوا وجود السحر؛ وأنه لا وجود له، وأنه مُجرَّد تخييل، وأنه لا حقيقة له ولا ضرر له... لا؛ بل هو أمر له ضرر، والله -تبارك وتعالى- أخبر -سبحانه وتعالى- فقال {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}، فالسحر له أثَر لا شك، السحر له أثَر في نفس المسحور فقد يغلُب على عقله؛ قد يُهيَّأ له أنه يأتي الشيء ولا يأتيه، قد يُبغِّضَه في بعض مَن يُحِب، قد يُحَبِّبَه في بعض مَن يُغضِب، قد يسلبه إرادته، فالسحر لا شك أنه موجود وله ضرر بتسلُّط الشيطان على الإنسان، أُمِرنا أن نستعيذ بالله -تبارك وتعالى- من شر السواحِر، {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}[الفلق:4]، عُقَد السحر.

ثم قال -جل وعلا- {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}[الفلق:5]، هذا كذلك من الشرور وهو شر خفي كذلك كشر السحر؛ فإن السحر أمر خفي، وضرره ضرر خفي، الحسَد يعني العين؛ والعين تضُر، وكيفية ضررها كذلك غير معلومة لكنها لها ضرر، وقد أخبر النبي -صل الله عليه وسلم- بأن العين حق؛ وقال «لو كان شيء سابِق القَدَر لسبَقَته العين»، لو هناك شيء يسبِق القَدَر كانت العين تسبِقَه، فهي حق والعائِن يضُر مَن يحسده، كما جاء في الحديث «رجلًا من الصحابة كان يغتسِل فرآه رجل فقال ما رأيت جِلدًا ألين ولا جِلد عذراء»، يعني يقول جلده ولا كأنه جِلد العذراء في ليونته، «فأصابه المرض وبقي مريضًا ولمَّا سُئِلَ عنه قيل أنه قيل فيه كذا وكذا، فأمَرَ النبي -صل الله عليه وسلم- العائِن بأن يتوضَّأ وأن يُصَب عليه، وقال لِما يقتل أحدكم أخاه»، فإن هذا من القتل، فالعين حق لا شك وأخبر النبي -صلوات الله والسلام عليه- بأنها تورِث رجل القبر والجمل القِدْر، يعني قد يضرب عينه في بعير فيكون مآله القِدْر؛ يُطبَخ، وكذلك الرجل إلى القبر يعني أنها قد تؤدي العين إلى الموت، فهي أسباب من أسباب الشر وأسباب مخلوقة ولكن لا ضرر لها إلا بأمر الله -تبارك وتعالى-، فليس شيء ضربة لازم؛ لابد أن يكون، بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكُن، على كل حال العين لها شر؛ والعين حق، ولكن السحر والعين لا يضرَّا إلا بأمر الله -تبارك وتعالى-، هذه السورة قد جمعت كل هذه الشرور وأُمِرنا بأن نستعيذ بالله -تبارك وتعالى- رب الفَلَق منها، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}[الفلق:1] {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}[الفلق:2]، على العموم من شر كل ذي شر؛ ومن شر ما خلَقَه الله -تبارك وتعالى- في كل الوجود، {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ}[الفلق:3]، على الخصوص، {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}[الفلق:4] {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}[الفلق:5].

سورة الناس قال -جل وعلا- {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}[الناس:1] {مَلِكِ النَّاسِ}[الناس:2] {إِلَهِ النَّاسِ}[الناس:3]، {قُلْ أَعُوذُ ........}[الناس:1]، العياذ والِّلياذ يعني اللجوء إلى الله -تبارك وتعالى-؛ التحصُّن به، والاعتصام به -سبحانه وتعالى-، وأولًا وصْف الله بأنه رب الناس، الناس؛ كل بني آدم، وقيل أنهم سُمُّوا الناس من الإيناس؛ ضد الجِن، الجِن مُستَتِرون والناس لأنهم ظاهرون؛ يعني يؤنِس بعضهم بعضًا فهم ظاهرون، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}[الناس:1]، كل أولاد آدم فإن الله -تبارك وتعالى- ربهم؛ بمعنى أنه خالقهم -سبحانه وتعالى-، والمُتصرِّف فيهم، ورازقهم، ومُتوَلي شئونهم -سبحانه وتعالى-، الله رب الناس وهو رب العالمين -سبحانه وتعالى-؛ والناس عالم من هذه العوالم، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}[الناس:1]، ولماذا جاء على الخصوص هنا؟ يعني {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}[الناس:1] {مَلِكِ النَّاسِ}[الناس:2] {إِلَهِ النَّاسِ}[الناس:3]، لماذا جاء على الخصوص؟ لأن المُستعاذ به هو المُسلَّط على الناس وهو الشيطان؛ اللي هو الوسواس الخنَّاس، فلأن الشيطان هو المُسلَّط فقط على هؤلاء القوم فكأنه استعاذ برب هذا العالم من عوالم الخلْق، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}[الناس:1] {مَلِكِ النَّاسِ}[الناس:2]، الله -سبحانه وتعالى- مَلِك الناس، مَلِكُهم؛ يملِكَهم -سبحانه وتعالى- ذاتًا، فإنه هو خالقهم -سبحانه وتعالى-، ويملِكهم تصريفًا؛ وذلك أنه هو المُتصرِّف في خلْقِه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت -سبحانه وتعالى-، وهو على كل شيء وكيل؛ هو الموكَّل بكل أحد -سبحانه وتعالى-، فالله يملِك خلْقَه -سبحانه وتعالى- ذاتًا إذ هو الذي أخرجه من العدم -سبحانه وتعالى-؛ ويملِكه تصريفًا، فالله مَلِك الناس، مَلِكهم؛ مالِكهم -سبحانه وتعالى- والمُتصرِّف فيهم.

{إِلَهِ النَّاسِ}[الناس:3]، فالله -سبحانه وتعالى- هو الإله، {إِلَهِ النَّاسِ}[الناس:3]، ومعنى الإله؛ المعبود، والذي لا معبود للناس إلى هو -سبحانه وتعالى-، فكل الناس معبودهم الله -تبارك وتعالى-، سواءً علِموا هذا أو لم يعلموه فإن الله هو الإله الواحد، {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، هذا إخبار الخالق لكن من الناس مَن يعرف هذا ومن الناس مَن يجهَلَه ويجحَدَه، كقوله رب الناس؛ فالله رب الناس كلهم لكن هناك مَن يجحَد ربوبيته، ويقول لا؛ ربه فلان أو فلان، ربه هذا الطاغوت، والله هو مَلِك الناس؛ ومن الناس مَن يظُن أنه هو مالِك نفسه، وهو الذي أوجَدَ نفسه، أو أوجَدَه موجِد من هذه التي ينسُب لها الخلْق غير الله -تبارك وتعالى-، وكذلك الله هو إله الناس ولكن هناك مَن يُقِر بهذه الأُلوهية له -سبحانه وتعالى- وأنه إلهه؛ وهناك مَن يُنكِرها ويجعل مع الله إلهًا أخر أو يجحَد أُلوهية الرب -تبارك وتعالى-، لكن الحال والواقع أن الله -تبارك وتعالى- هو رب الناس كلهم -سبحانه وتعالى-؛ وهو مَلِك الناس جميعًا -جل وعلا-، وهو إله الناس جميعًا -سبحانه وتعالى-؛ لا إله لهم إلا الله -سبحانه وتعالى-.

بعد أن وصَفَ المُستَعيذ ربه بأنه رب الناس {مَلِكِ النَّاسِ}[الناس:2] {إِلَهِ النَّاسِ}[الناس:3]، قال {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ ........}[الناس:4]، يعني اللهم إني أعوذ بك من هذا، {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}[الناس:4]، الوسواس؛ كثيرة الوسواس، والوسوسة هي الإيحاء، والدلالة، والإخبار المستمر بصورة خفية وصورة متتابعة بالشر، فهو وسواس؛ الشيطان يوَسوِس، الخنَّاس؛ كثير الخنوس، والخنوس هو الارتفاع والابتعاد، فسُمِّي وسواس والوسوسة إعطاء وإقدام، وسُمِّيَ خنَّاس؛ أنه بعيد، وذلك أنه يوَسوِس حال الغفلة فإذا ذكَرَ الإنسان ربه فإنه يخنَس ويبتعد؛ فهذا حال الشيطان، كما في الحديث «الشيطان جاثِم على قلب ابن آدم؛ فإذا نسي الله وَسوَس»، إذا كان هذا ابن آدم ممَن نسي الله -تبارك وتعالى- فإن الشيطان يوَسوِس له؛ ويَمُدُّه ويأخذه إلا ما يَمُدُّه إلى أفاقه وإلى النار -عياذًا بالله-، «وإذا ذكَرَ الله خَنَس»، إذا ذكَرَ العبد ربه -سبحانه وتعالى- خَنَس؛ يعني ابتعد الشيطان، وقد قال الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}[الأعراف:201] {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ}[الأعراف:202]، وقال {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}[مريم:83]، تُحرِّكهم تحريكًا إلى المعاصي بما توَسوِس لهم، ولا شك أن الشيطان لا يملِك القُدرة على أن يُرغِم الإنسان على أن يفعل ما يشاء، ولكنه يوَسوِس له فقط بما يُلقيه في صدره من الوساوس، ومن الشكوك، ومن التخزيل، ومن النفخ، ومن النفث، ومن الغرور، وله مدخل على كل أحد بحَسَبِه؛ فمدخله على أهل الكُفر مداخل، مدخله على أهل الغرور، مدخله على أهل الإيمان كذلك، وعلى أهل الطاعة له مداخل؛ إما لتثبيطهم، إما أن يحاول أن يجعل العمل بعد أن يكون مَن عَمِلَه مُخلِصًا لله -تبارك وتعالى- فيُرائي فيه، فالشيطان لا يكَل ولا يمَل من كل أحد، {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ}[الأعراف:202]، يعني الشيطان يمُدُّه في الغي ثم لا يُقصِرون عنهم، يعني إذا سار في طريق الغِواية ما يُخلِّيه؛ يعني لا يتركه كذلك، يقول هذا قد غَوَيته، وانتهت منه، وفرغت منه... لا؛ وإنما يظَل مُستمِرًا ورائه بالإغواء، والإغواء، والإغواء ...، والضلال لا حدَّ له؛ لا ينتهي عند حد، وكذلك الشيطان لا ينتهي عند حَد في مَن يُغويهم؛ يأخذهم، ويأخذهم، ويأخذهم ....، ويظل معهم على هذا النحو إلى أن يوقِعَه في النار -عياذًا بالله-.

يقول بعد ذلك القرين لقرينه كما قال -تبارك وتعالى- {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}[الزخرف:36] {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}[الزخرف:37] {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ}[الزخرف:38]، فيتمنَّى أن يكون بينه وبينه بُعْد المشرقين لكنه يظَل مُلازِم له إلى الموت؛ إلى الموت وهو يلاحِقَه، ويُلازِمه، ويفتِن في غارِبه، ويأخذه إلى طريقه، فهذا الشيطان وسواس خنَّاس لكنه يخنَس ويبتعد عن العبد إذا تحصَّنَ بالله -تبارك وتعالى- وإذا ذَكَر الله -تبارك وتعالى-، كما جاء أن الشيطان إذا يئِس ذهب، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «إيه يا ابن الخطَّاب؛ والله لا يراك الشيطان سالِكًا فجًّا إلا سلَكَ فجًّا غير فجِّك وطريقًا غير طريقك»، يعني يئِس منه، وقد قال النبي -صل الله عليه وسلم- «إن الشيطان قد يئِس أن يُعبَد بجزيرتكم هذه وإن يُطَع في ما دون ذلك»، فقد ييأس في بعض الناس في أمر من الأمور أن مثلًا يرُدَّهم إلى الشِّرك مرة ثانية، لكنه يرضى بما دون ذلك؛ بالتحريش بينهم، فهو لا يكَل ولا يمَل، فهو وسواس خنَّاس، ولذلك جاء الُّلجء إلى الله -تبارك وتعالى- مع وصفه -سبحانه وتعالى- بهذه الصفات العظيمة استدرار لرحمته وإحسانه -سبحانه وتعالى- بعبده، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}[الناس:1] {مَلِكِ النَّاسِ}[الناس:2] {إِلَهِ النَّاسِ}[الناس:3] {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}[الناس:4]، المُستعاذ به هنا شر واحد ولكنه أبو الشرور، هو كل الشرور؛ الشيطان، {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}[الناس:4].

{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}[الناس:5]، هذا فِعله يوَسوِس في صدور الناس، لأن الصدر محِل القلب؛ والقلب محِل العقل، فهذا هنا جاثِم على القلب الذي هو محِل العقل ليوسوِس فيه ويملأه بما يملأه من الأفكار، من الشُبُهات، من الانحراف عن الحق، {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}[الناس:5]، «الشيطان جاثِم على قلب ابن آدم؛ فإذا ذكَرَ الله خَنَس، فإذا نسي وسوَس»، ثم قال -سبحانه وتعالى- {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}[الناس:6]، من الجِنَّة؛ شيطان من الجِن، فالجِن منهم شياطين؛ رأسهم إبليس، رأسهم الكبير إبليس اللعين؛ فهذا رأس الشياطين، ولكن له من الأتباع، والأنصار، والرجال من هؤلاء الجِن شياطين، فمن الجِن شياطين ومن الجِن مؤمنون؛ وهؤلاء لا يوَسوِسون، لكن الشياطين هم الذين قد أخذوا على أنفسهم إضلال بني آدم، كما قال -تبارك وتعالى- عن الشيطان أنه قال للرب -تبارك وتعالى- {........ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:62] {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا}[الإسراء:63] {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا}[الإسراء:64]، فهذه شياطين الجِن، كما قال -تبارك وتعالى- {........ شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}[الأنعام:112]، فالجِن شياطين، {وَالنَّاسِ}، من الناس شياطين، سُمُّوا شياطين؛ مُتمردون، يعملون عمل شياطين الجِن من الوسوسة كذلك ومن صرف الناس عن طريق الحق، كما قال -تبارك وتعالى- في المنافقين {........ وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}[البقرة:14]، وإذا خلوا إلى شياطينهم؛ إلى كبرائهم الذين يوسوسون لهم بالشر، فمن الناس كذلك شياطين يقومون بعمل الشياطين فيوسوسون للناس.

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}[الناس:1] {مَلِكِ النَّاسِ}[الناس:2] {إِلَهِ النَّاسِ}[الناس:3] {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ}[الناس:4] {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}[الناس:5] {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}[الناس:6]، نقول هذا والحمد لله رب العالمين، وبهذا أتممنا بحمْد الله -تبارك وتعالى- تفسير الكتاب الكريم في نحو ثمانمائة وبِضع حلقات، هذا من إحسان الرب -سبحانه وتعالى-، وفضله، ومَنِّه -جل وعلا-، ولعلَّه الأمر الأول الذي يكون قد سُجِّلَ تفسير القرآن في تفسير مرئي، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعله نافعًا للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ وأن يُثيب كل مَن أعان فيه ثوابًا من عنده -جل وعلا-، وأن يجعل هذا لنا زُخرًا يوم القيامة، وأن يجعل هذا القرآن الكريم حُجَّة لنا لا حُجَّة علينا، استغفر الله -تبارك وتعالى- من كل ذنب، وأتوب إليه، وألجأ إليه، وأستعيذ به، والحمد لله رب العالمين في البدء والختام.