الثلاثاء 02 جمادى الآخرة 1446 . 3 ديسمبر 2024

الحلقة (82) - سورة آل عمران 1-6

الحمد لله رب العالمين، وأصلي، وأسلم على عبد اللاه، ورسوله الأمين، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[آل عمران:7] {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[آل عمران:8] {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}[آل عمران:9] يخبر -سبحانه وتعالى- عباده المؤمنين فى هذه السورة العظيمة سورة آل عمران التى هي سورة البرهان على أن دين الإسلام حق.

يقول -جل وعلا-{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ........}[آل عمران:9] هو، الله -تبارك وتعالى- الموصوف بهذه الصفات، وهو كما جاء فى أول مقدمة هذه السورة {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}[آل عمران:2]{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ}[آل عمران:3]{مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ.......}[آل عمران:4] فهو الله الذى هذه صفته؛ ثم من صفته {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}[آل عمران:5]{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران:6] فالرب الموصوف بهذه الصفات -سبحانه وتعالى-{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ........}[آل عمران:9] هو، الله -سبحانه وتعالى- الذى أنزل عليك يا محمد الكتاب، هو هذا القرآن.

 ثم جاء وصف هذا الكتاب قال -جل وعلا-  {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} جعل الله -تبارك وتعالى- هذا القرآن نازلاً على هذا النحو أن {منه، يعنى بعضه آيات محكمات، وهنا {محكمات بمعنى أنها بينات واضحات لا تدل فى دلالتها الظاهرة لكل أحد إلاً على معنى واحد، واضح {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} هن أم الكتاب أصله أم كل شيء أصله الذى يرجع إليه.

 {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أنزل الله -تبارك وتعالى- فى القرآن كذلك  آيات أخر متشابهات، تشابه الأمر المشتبه الذى قد يحتمل أكثر من معنى، ولله -تبارك وتعالى- الحكمة فى أن ينزل آيات على هذا النحو مُتَشَابِهَاتٌ.

 قال -جل وعلا- {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} فأما الذين فى قلوبهم زيغ ، الزيغ وهو الميل عن الحق؛ فهذا مرض فى القلب لا ليس من أهل الاستقامة، ومن أهل الثبات على الحق، ولكنه من أهل  الميل عن الحق للباطل {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} يتبعون بالبحث، والتحري، والجمع {مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} ما يشتبه من آيات القرآن، وهي غير الآيات البينات الواضحات، ماذا يريد؟ قال: ابتغاء الفتنة يعنى أنهم لا يريدون بهذا الأمر إلاً الفتنة، والفتنة هنا بمعنى إيقاع الخلل، والشبهات فى نفوس أهل الإيمان، وضرب آيات القرآن بعضها ببعض، وإثارة الشبه، والشكوك حول الكتاب المنزل من الله -تبارك وتعالى- وهذه من معانى الفتنة.

 {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ابتغاء تأويله هنا تأويلهم له أن يؤولوه، يعنى يحرفوه عن ما جاء به إلى معانٍ بعيدة لا لم ينزل بها القرآن، ولا هي من مقاصد مُنزِل القرآن الرب الإله -سبحانه وتعالى- فيريدون بذلك تأويل القرآن إلى هذه المعاني الباطلة التى يدعونها؛ فيزعمون أن هذه الآيات تعنى هذا المعنى الباطل؛ فهم يضعون البطلان ثم يحملون آيات القرآن يؤولونها على هذا المعنى الباطل الذى جاؤوا به {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} صرف هذا القرآن عن معناه إلى معانٍ أخرى يؤولونها به، يفسرونها به  وليست هي من تأويله وتفسيره.

قال -جل وعلا- {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}

 {وما يعلم تأويله إلاً الله}، تأويله أصل التأويل يأتي لمعناً صحيح، ولمعاني باطلة؛ فأما التأويل بالمعنى الصحيح هو التفسير، والتفسير الصحيح شرح المعنى وتفسيره تفسيراً صحيحاً حسب مراد المتكلم، ومن هذا قول النبي -صلوات الله وسلامه عليه- ودعائه لابن عباس «اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل»  يعنى علمه تفسير القرآن، تأويله هنا بمعنى تفسيره، وقد كان ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- يطلق عليه لفظ ترجمان القرآن كأنه يترجم القرآن للناس من إحسان تفسيره، والتوفيق الذى وفقه الله -تبارك وتعالى- به، والعلم الذى آتاه الله -تبارك وتعالى- لتفسير معانى الكتاب الكريم؛ هذا معنى.

المعنى الآخر من معاني التأويل هو ما يؤول إليه الأمر كوقوع الرؤيا، حصولها كما قال يوسف -عليه السلام- لما سجد له أبوه، وأمه، وإخوانه الأحد عشر {قال يا أبتى هذا تأويل رؤياي من قبل}، هذا الذى حصل منهم كما قال -تبارك وتعالى- {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ.......}[يوسف:100] وذلك أنه رأى فى منامه وهو طفل صغير {قال إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين}؛ فهذه رؤيا، تأويل هذه الرؤيا، يأتي التأويل هذه الرؤيا هنا بمعنيين التأويل بمعنى التفسير، والتأويل بمعنى ما يؤول إليه الأمر، وهو وقوع حقيقة الرؤيا.

 فالتأويل بمعنى التفسير أيضا منه قول الله -تبارك وتعالى- عن يوسف -عليه السلام- {.......وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ.......}[يوسف:6] لما رأى يوسف هذه الرؤيا قال لأبيه {........إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}[يوسف:4] {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[يوسف:5] {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ.......}[يوسف:6] يعلمك الله من تأويل الأحاديث دعا له أن يعلمه الله من تأويل الأحاديث، يعنى من تفسير الرؤى وقد كان يوسف -عليه السلام- من أبرع الناس، ومن أعلمهم فى تفسير الرؤى؛ ولذلك لما جاءه، صاحبا السجن فسر لهما لكل واحد منهما رؤياه وقعت كما فسر به قال: {قُضي الأمر الذى فيه تستفتيان}؛ فقال لأحدهما الذى قال له: إني أراني أعصر خمراً وقال الآخر: إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه، قال للأول قال: أنت ناجى يفرج عنك وتعود إلى ربك فتعصر خمراً عنده، وقال للآخر: أنت يحكم عليك بالقتل، وتصلب وتأكل الطير من رأسك؛ ثم قال لهم: قُضي الأمر الذى فيه تستفتيان قضى يعنى انتهى فى هذا فى حكم الله -تبارك وتعالى- وكذلك فسر رؤيا الملك تفسيراً وقع تفسيره تمام {قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه فى سنبله} لما قال له الملك: {إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر، وأخر يابسات}؛ ففسر هذا بأنه سبع سنوات خصب؛ ثم يأتي بعدها سبع سنوات جفاف؛ ثم لابد من الاستعداد لهذا الأمر؛ فهنا {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ تأويل الأحاديث تفسيرها، تفسير الرؤى؛ ثم لما وقع الأمر {قال: يا أبتي هذا تأويل رؤياي هذا تأويلها يعنى ما آلت إليه الرؤيا وهو وقوعها.

 ومن هذا المعنى الثالث وهو ما يؤول له الأمر قول-تبارك وتعالى- {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ........}[الأعراف:53] {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ}  تأويل القرآن، ومعنى تأويله يعنى ما تؤول إليه أخباره فإن الله -تبارك وتعالى- فى القرآن أخبر عن الجنة، أخبر عن النار، أخبر عن هذه القيامة وما فيها من الأهوال وقوع هذا الأمر هو تأويل القرآن، هو تأويل القرآن؛ اذاً هذه معانى الحق، التفسير معنى التأويل التفسير هذا حق، ومعنى التأويل ما يؤول له الأمر، وهذا حق.

 فيه التأويل يأتي بمعنى التأويل الباطل، وهو صرف اللفظ عن ما جاء به إلى معانى بعيدة لا يحتملها اللفظ، وليست هي من مقصود المتكلم، وهذا تحريف، وهذا تحريف، وإبعاد، وبعض هذا التحريف يكون فيه أنواع من اللعب، أنواع من اللعب لعب بالكلام، وقد قامت الفرق الباطلة باللعب بالقرآن على هذا النحو؛ فأنزلوا القرآن كلمات الله -تبارك وتعالى- والقرآن حملوها على معانى بعيدة جداً وحطموا موازين اللغة، وأخرجوا القرآن، وأخرجوا كلام كل المتكلم عن معانيه. {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ابتغاء تأويله بهذا المعنى الباطل الذى يريدون أن يصلوا إليه؛ فإن كل فرق الباطل من القدرية، ومن المرجئة، ومن الجبرية، والرافضة، وضلال الصوفية، وغيرهم قد وضعوا القرآن على المعاني الباطلة، والعقائد الباطلة التى جعلوها هي الدين، وحملوا آيات القرآن عليهم.

 فهؤلاء أهل الزيغ {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} إيقاع الفتنة، والخلاف بين أهل الإيمان {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ابتغاء صرفه عن معانيه الحقيقية إلى معانٍ أخرى، يعنى يفسرونها به، ويؤولونها به بعيد عن معنى القرآن، قال -جل وعلا- {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} وما يعلم تأويله إلا الله، لا شك أن الله عليم بمعاني القرآن كلها؛ كذلك بما يعنى يؤول إليه أمر هذا القرآن، كل الحقائق التى تكلم عنها القرآن من حقائق الغيب، لا شك أن الله -تبارك وتعالى- يعلمها على الحقيقة -سبحانه وتعالى- فلا يعلم تأويل القرآن على الحقيقة إلا الرب الإله -سبحانه وتعالى-.

اذا كان الوقف هنا {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ووقف هنا ويقول: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} الواو هنا للاستئناف جملة جديدة {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} أما على قراءة {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فتكون الواو عاطفة فيكون والراسخون فى العلم، يعنى كذلك يعلمون تأويله، يعلمون تفسيره، ولاشك أن هذا المعنى الحق، وكان بن عباس لاشك يقول: أنا من الراسخين فى العلم، أنا ممن يعلم تأويله؛ فهذا ممن يعلم تأويل القرآن هنا بمعنى تفسيره؛ أمًأ حقيقة ما يؤول إليه القرآن؛ فإنه لا يعلم ذلك على الحقيقة  إلا الله -تبارك وتعالى- وكذلك الرسول الذى أطلعه الله -تبارك وتعالى- على حقائق الآخرة؛ فإن النبي رأى الجنة، ورأى النار رأْى العين رآها مرات -صلوات الله والسلام عليه- فرأى ما يؤول إليه، وشاهد الخلق، وشاهد من فى النار، وشاهد من فى الجنة شاهدهم رؤية عين؛ فأعلمه الله -تبارك وتعالى- من الحقائق  التى تكلم الله -عز وجل- عنها فى الآخرة رآها النبي -صلى الله عليه وسلم- رأْى العين.

{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} عطف على الرب -تبارك وتعالى-  أو وما يعلم تأويله على الله فيكون هنا المعنى تأويله ما يؤول إليه أمر القرآن، وليس معنى تفسيره؛ فإن هذا القرآن إنما، قد علم النبي تفسيره، وقد أخبره  -تبارك وتعالى- به بأنه أنزل له القرآن ليبينه، ويفسره للناس، ويوضحه لهما {.......وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ.......}[النحل:44] وكذلك القرآن كتاب ميسر للذكر، والفهم، والمعنى كما قال -تبارك وتعالى- {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[ص:29] فاذا كان الوقف على {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ينصرف على ما استأثر الله -تبارك- على ما على ما لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى- من حقائق الغيب التى أخبر عنها -سبحانه وتعالى- أخبر عنها فى هذا القرآن، وأما اذا كان الوقف عند {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فيكون العطف هنا على أن على التفسير {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ تفسيره على الحقيقة إلا الله {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}.

 ثم قال -جل وعلا- {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} يقولون أي الراسخون فى العلم {آمَنَّا بِهِ} صدقنا بكتاب ربنا -سبحانه وتعالى- .

{كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} يعنى كل القرآن كله محكمه ومتشابهه، يعنى الآيات الواضحات، البينات التى لا يعنى يخالف فيها إلا المكابر الذى يخرج اللفظ بوضوح عن  معانيه، وكذلك الآيات المشتبهة التى تحتمل أكثر من معنى {كُلٌّ} المحكم والمتشابه {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}كل من عند ربنا فكله محكم؛ فكله لاشك أنه محكم ما دام أنه من عند الله -تبارك وتعالى- فهو قرآن محكم كله نازل من عند ربنا -سبحانه وتعالى- ولذلك يرد هذا المتشابه إلى المحكم؛ فأصبح الجميع محكما، لأنه اذا كان في اشتباه فى المعنى؛ فرد المتشابه إلى المحكم، وفسر به انتهى إذن القرآن كله بهذا المعنى محكم عندما يرد متشابهة إلى محكمه {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}.

 قال -جل وعلا- {........رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[آل عمران:7] لا يتذكر، الذكرى هنا بمعنى العلم الذى يورث، حضور المعنى فى الذهن، وتمثُل يعنى الإنسان به، وعمله بمقتضاه هذا التذكر {وَمَا يَذَّكَّرُ} بكلام الله -تبارك وتعالى- {إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} أولو الألباب أهل العقول، اللب هو داخل الشيء، والمعنى هنا فى الإنسان هو عقله لأن عقله عقل الإنسان هو لبه هو إنسانه الداخلي  {........ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7] .

ثم وجهنا الله -تبارك وتعالى- وجًه عباده أن يدعوه بهذا الدعاء {رَبَّنَا........ } [آل عمران:8] يا ربنا {....... لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[آل عمران:8] وجاء هذا الدعاء مباشرة كأن النقلة إنما هو لما كان الأمر على هذا النحو، وأنه يمكن أن يكون ضلال من يضل بالقرآن دخولاً من الآيات المتشابهات؛ فيدخل أهل الزيغ من هذا الباب، ويَضلون، يَضلون بسبب الهداية، بالسبب الذى جعله الله سبب الهداية، وهو القرآن؛ فيكون القرآن سبباً فى ضلالهم، وخروجهم من الحق كما قال الله -تبارك وتعالى- {........قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}[فصلت:44] وقال {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}[الإسراء:82] وقال {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}[التوبة:-124-125] لما كان القرآن على هذا النحو كان ثمة فزع إلى الله -تبارك وتعالى- {رَبَّنَا........ } [آل عمران:8] يعنى يا ربنا {....... لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[آل عمران:8] ربنا دعاء يدعوا به أهل الإيمان، وهؤلاء الراسخون فى العلم يدعون الله -تبارك وتعالى- يقولون ربنا، ربنا هنا يا أهل الدعاء باسم الرب دعاء عظيم معناه أنت يا ربنا، بمعنى أنت خالقنا، وبارئنا، ومالكنا، ومربينا؛ فهذه كلها من معانى القرب، قرب المخلوق من هذا الخالق -سبحانه وتعالى- وما دام أنت ربنا فإذن استجب لنا فأنت ربنا.

  {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا........}[آل عمران:8] الزيغ هو الضلال، والانحراف، الميل عن طريق الحق {قُلُوبَنَا} القلب هو محل الفهم {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} فالهدى كان منك سبحانك يا رب؛ فإذن يعنى لا تحول قلوبنا عن هذا الطريق {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ} هب أعطنا من لدنك من عندك {........رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[آل عمران:8] رحمة مُنَكَر، وهذه الرحمة تشمل رحمته -سبحانه وتعالى- بإنزال السكينة فى القلب، الهدى، الثبات على الدين، التمسك بهذا حتى نلقى الله –تبارك وتعالى- جنة الله، ورضوانه، ورحمته {........وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[آل عمران:8] المعطى كثير العطاء -سبحانه وتعالى- {رَبَّنَا........ } [آل عمران:9] دعاء بعد دعاء، {إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} هذا تصديق، هؤلاء العباد الذين يدعون الله -تبارك وتعالى- فيقول إنك بالتأكيد {جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} يعلن هؤلاء المؤمنون أن الله -تبارك وتعالى- سيجمع الناس ليوم لاريب فيه، لاشك فيه هو يوم القيامة.

 {........إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}[الرعد:31] هذا ميعاد ضربه الله، ووقته لعباده، هو مؤقت عنده، ولكنه أخبر عباده بأنه سيجتمعون فى يوم كتبه عنده، ويحضر الجميع فيه ولا يتخلف عنه أحد، لا بر ولا فاجر كلهم آتون لأنك جامع الناس كل الناس {لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} قال -جل وعلا- {........إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}[الرعد:31] فهذا موعد ضربه الله -عز وجل- فلا يمكن أن يخلفه الله -سبحانه وتعالى- ويتخلف هذا أو يتغير خبر الله -عز وجل- يستحيل أن يكون هذا لأن الله -تبارك وتعالى- لا يمكن أن يخلف موعده -جل وعلا- إذن هو حتم ولابد أن يكون.

جاء هذا الدعاء مناسبته فى هذا الموقع هو بعد هذا الأمر الذى يمكن أن يفتن، يعنى فيه الناس وهو أن القرآن نزل على هذه الصورة، أنزله الله -تبارك وتعالى- على هذه الصورة {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ........}[آل عمران:7] فكان الطريق، طريق الخروج من الضلال، هو طريق الراسخين فى العلم الذين يقولون {.......آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[آل عمران:7] والذين يدعون الله -تبارك وتعالى- بألاً يزيغ قلوبهم كما زاغ، كما زاغت قلوب أهل الزيغ الذين يتبعون المتشابه من القرآن يريدون الفتنة، إيقاع الشر بين المسلمين، وتفريقهم، ويريدون تأويل القرآن صرفه عن معانيه إلى معانى بعيدة هم يريدونها؛ فكان جزاؤهم أن، يعنى ساروا فى طريق الزيغ، وأهل الإيمان لجؤوا إلى الله -تبارك وتعالى- ويعنى توسلوا إليه، ورغبوا إليه -سبحانه وتعالى- بأسمائه الحسنى أن يجنبهم هذا الزيغ، وهذا الضلال.

ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ}[آل عمران:10] هذا بعد أن بين الله -تبارك وتعالى- مصير أهل الإيمان ولاشك أن الذين دعوا الله عز وجل بهذا الدعاء ولا شك أن الله استجاب دعاؤهم يبين الله -تبارك وتعالى- مصير هؤلاء أهل الزيغ، وأهل الضلال قال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا........}[آل عمران:10] إن الذين كفروا بالله، وبرسالاته، وبهذه البينات المنزلة، كتابه المنزل، وهذه البينات كفروا بها بمعنى أنهم جحدوها، وستروها بعد أن انكشفت لهم الحقائق، وعرفوها لكنهم كفروها {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا........}[آل عمران:10] بمعنى أنها لن تدفع عنهم العذاب لن تفيدهم شيء يعنى من عقوبة الله -عز وجل- مهما كثرت أموالهم فإنهم تاركوها خلف ظهورهم، أولادهم يوم القيامة الكل يفر، كل واحد يفر من غيره؛ فكان هؤلاء الكفار يظنون أنهم بكثرة المال، وبكثرة الولد هم قادرون على شيء يخبرهم الله -تبارك وتعالى- بأن هذا لن يغنى عنهم من الله شيئا، لا فى الدنيا، ولا فى الآخرة؛ فإذا أراد الله -تبارك وتعالى- أن ينزل بهم بأسهم فى الدنيا أنزله -سبحانه وتعالى- وأما فى الآخرة فإن حالهم سيكون كما أخبر الله -تبارك وتعالى- من أنهم  يأتون ذليلين خاضعين {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ........}[هود:105] فى هذا اليوم، ويقول فيه الكافر  {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ}[الحاقة:28]{هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}[الحاقة:29] فيظهر لكل أحد ضعفه وذلته ومسكنته وأنه لا عاصم له، ولا منجى له من الله -تبارك وتعالى- ولا ينفعه أي شيء أبناؤه، وزوجته، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}[عبس:34] {وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ}[عبس:35]{وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}[عبس:36]{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس:37].

 {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ}[آل عمران:10] وأولئك إشارة لهم إشارة البعيد تحقيراً لشأنهم هم كذلك إعادة التأكيد {........ وَقُودُ النَّارِ} [آل عمران:10] وقودها ما تشتعل به النار عياذاً بالله، وقد أخبر الله -تبارك وتعالى- عن هذه النار نار الآخرة أن وقودها الناس والحجارة قال: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ........} [التحريم:6] فتشتعل بالأجساد وكلما نضجت هذه الجلود التى تشتعل أعاد الله -تبارك وتعالى- لهم بنائها؟؟؟؟ {........كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ........} [النساء:56] فوقودها الناس، ووقودها الحجارة قال الله {........وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} [آل عمران:10] فتشتعل بهم النيران عياذاً بالله، هذا يعنى تهديد، وتخويف حق واقع لابد أن يكون {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} [آل عمران:10].

نكتفى عند هذه الآية، ونكمل أن شاء الله فى الحلقة الآتية أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد.