الخميس 19 رمضان 1445 . 28 مارس 2024

الحلقة (83) - سورة آل عمران 7-9

الحمد لله رب العالمين، وأصلي، وأسلم على عبد الله، ورسوله الأمين، وعلى آلة، وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ أيها الإخوة الكرام، يقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم {آلم}[آل عمران:1]{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}[آل عمران:2]{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ}[آل عمران:3]{مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}[آل عمران:4]{إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}[آل عمران:5]{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران:6].

 هذه الآيات من سورة آل عمران، وسورة آل عمران سورة مدنية، والفرق بين القرآن المدني والمكي، القرآن المكي هو الذي نزل قبل هجرة النبي -صلوات الله والسلام عليه- والقرآن المدني هو الذي نزل بعد الهجرة إلى وفاة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، سواء كان نزوله بالمدينة، أو بخارج المدينة؛ فإن آيات من القرآن المدني نزلت على النبي -صلوات الله والسلام عليه- وهو بمكة، وكذلك وهو فى الطريق بين مكة، والمدينة  كسورة الفتح؛ فإنها نزلت فى السنة الثالثة، وانصرف النبي -صلوات الله والسلام عليه- من الحديبية.

إذا ذُكرت البقرة ذكر آل عمران؛ فإنهما إحدى السبع الطوال، وقد جاء فى فضلهما قول النبي -صلوات الله والسلام عليه- « البقرة وآل عمران تأتيان يوم القيامة كأنهما فرقان من طير الصواف تظلان صاحبهما».

و إذا كانت البقرة يمكن أن يكون عنوانها حقيقة دين الإسلام، والدعوة إليه؛ فإن آل عمران موضوعها هو البرهان على أن دين الإسلام حق؛ فإن الله -تبارك وتعالى- فى هذه السورة ساق البراهين على أن هذا الإسلام الذي بعث به النبي -صلوات الله والسلام عليه- حق، ودحض كل الشبهات التى توجهت للإسلام ، وعلى الخصوص شبهات النصارى، وذلك أنهم أهل الدين الأخير الدين السماوي الأخير ليس بين النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- وبين عيسى نبي، وشبهات النصارى حول الإسلام كثيرة دحضها الله -تبارك وتعالى- وبين الله -تبارك وتعالى- فى هذه السورة من البراهين، أولا براهين آياته المنزلة؛ ثم البراهين الكونية التى بثها الله -تبارك وتعالى- فى هذا الكون {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ}[آل عمران:190] ثم صنيع الله -تبارك وتعالى- من أجل طاعته، من نصرهم، وعزهم، وخرق العادة لهم؛ فقد كانت غزوة بدر فرقانا فرق الله -تبارك وتعالى- به بين الحق والباطل، وقد جاء فى مطلع السورة {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ}[آل عمران:13].

 ثم أجاب الله -تبارك وتعالى- عن كل الشبهات ومن هذه الشبهات، شبهة كيف يكون هذا الدين حق، ويقع النبي -صلوات الله والسلام عليه- والمسلمين هزيمة، وتعلو كلمة الكفر عليهم أحيانا، ولذلك استغرق حديث الله -تبارك وتعالى- عن غزوة أحد معظم هذه السورة، وقد بيًن الله -تبارك وتعالى- فيها من العبر، والدروس الأمر العظيم حتى لا يكون هذه الهزيمة الجزئية من أعظم المنح الإلهية لأهل الإسلام، تربية لهم، واستقامة لهم، وترقية لصفوفهم عن صف المنافقين، وإعطاءهم درسا عظيما فى الصبر والتوكل على الله -تبارك وتعالى- والرغبة إليه، والخلاصة أن سورة آل عمران هي سورة البرهان على أن دين الإسلام حق.

استفتح الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بحروف، ثلاث حروف مقطعة أ، ل، م  وقد مضى تفصيل معانى هذه الحروف، وأقوال أهل العلم مفسرين فيها فى بدء سورة البقرة، والخلاصة أن هذه الحروف المقطعة هي حروف يتكون منها الكلمات، هي أساس لغة العرب، وقد تحدى الله -تبارك وتعالى- بهذا القرآن العرب أن يأتوا بمثله؛ فليؤلفوا من هذه الحروف قرآنا كهذا القرآن الذي يُتلى، هذا أفضل ما قاله أهل التأويل فى معانى هذه الحروف، وكثير من المفسرين ذهب إلى أن هذا من القرآن الذي استأثر الله -تبارك وتعالى- بعلمه أ ، ل، م الله أعلم بمراده من هذه الحروف.

 {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}[آل عمران:2] الله، علم على ذات الرب -تبارك وتعالى- اسم الله الأعظم، وهو مشتق، وليس جامدا مشتق من أله يأله  إلاها؛ فهو الإله -سبحانه وتعالى- الإله الحق الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ........ }[آل عمران:2]  لا إله إلا هو على الحقيقة، وليس على الوجود الكاذب؛ فإن الآلهة الذي اتخذها البشر كثيرة، ولكنها كلها كذب و زور وبهتان ليست ألهه فى حقيقتها، لأن الإله الحق لابد أن يكون خالقا رازقا مالكا لعبده  متصرفا فيه، منعما عليه يملك ضره، ونفعه، وليس هناك فى الوجود من هذه صفته إلاً الله رب السماوات والأرض؛ فرب السماوات والأرض الذي خلق هذه السماوات، والأرض، وخلق الوجود وهو رب العالمين كل العالمين الملائكة، والجن، والإنس، وكل العوالم هو الذي أنشأها من العدم، وهو الذي يصرفها -سبحانه وتعالى- وهو الذي يملكها على الحقيقة؛ فهو رب الجميع -سبحانه وتعالى-.

 إذن لا رب للمخلوقات إلا هو -سبحانه وتعالى- وليس هناك خالق غيره، ولا رب غيره -سبحانه وتعالى- إذن هو الإله وحده، هو الذي يستحق الألوهة وحده، بمعنى هو المعبود الذي يجب أن يعبد وحده؛ فكل ما عبد من دونه اذا من شيء فباطل؛ أسماء سموها آلهة أطلقوا على الشمس الإلهة، وأطلقوا على أحجارهم، وأوثانهم آلهة، وأطلقوا على معبوداتهم من الجن آلهة، والحال أن كل هؤلاء الذين عبدوا من دون الله ليسوا آلهة على الحقيقة، وإنما هم عباد لله -تبارك وتعالى- وعبيد، أو أنهم أحجار لا تنفع نفسها فضلا عن تنفع غيرها؛ فالله -سبحانه وتعالى- لا إله إلا هو، لا إله ألا هو على الحقيقة.

 الحي القيوم ، صفته -سبحانه وتعالى- الحى، والحياة ضد الموت؛ فهو الحي الذي لا يموت -سبحانه وتعالى- {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ........}[الفرقان:58] حي حياة من ذاته -سبحانه وتعالى- لا يحيا بغيره كما الشأن فى كل الأحياء غير الله؛ فإنهم يحيون بطعامٍ، وشرابٍ، ومقومات لابد أن توجد ليقوموا؛ أما الرب الإله -سبحانه وتعالى- فإنه حيُ بذاته -سبحانه وتعالى- لا يحتاج إلى غيره؛ فهو يُطْعٍم ولا يُطْعًم -سبحانه وتعالى- القيوم قائم بنفسه -سبحانه وتعالى- بغير شيء يقيمه؛ ثم أنه مقيم لغيره -سبحانه وتعالى- فما من شيء فى هذا الكون فى الوجود إلا والله يقيمه، السماوات والأرض الملائكة الجن الإنس العرش، الكرسي؛ فعرشه، وكرسيه، وسماواته، وأرضه، وملائكته، وإنسه، وجنه، كلهم لا يقومون إلاً به -سبحانه وتعالى- لا قيام لمخلوق إلاً بإقامة الخالق، بأنه أقامه، أبرزه من العدم، رزقه، منً عليه بكل نعمة هو فيها بقاؤه مرهون بإرادة خالقه -سبحانه وتعالى- {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}[فاطر:41] ].

 {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}[آل عمران:2]{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ}[آل عمران:3]{مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ........}[آل عمران:4] ]{نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ.......}[آل عمران:3] هذا إخبار منه -سبحانه وتعالى- بأن الله الذي هو الموصوف بأنه الذي لا إله إلاً هو الحىُ القيوم هو الذي نزًل علي عبده محمد -صلى الله وسلم- الكتاب وهو القرآن، هو كتاب لأنه أولاً مكتوبُ فى السماء؛ ثم أنزله الله تبارك وتعالى قرآناً وكتب فى الأرض.

 {نزل عليك الكتاب}، القرآن بالحق، بالحق نزوله حق.،  فإن نزول القران من الله -تبارك وتعالى- حق وهذا لهداية الناس، وأنه نزل لمعاني عظيمة جدا منها أنه نور، وبرهان من الله -تبارك وتعالى- هو بصيرة لأهل الأرض جميعاً، وحجة منه -سبحانه وتعالى- على عباده {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:203] فنزوله حق لهذه الغايات العظيمة التى من أجلها نزل؛ ثم هو نازل بالحق؛ فمضمونه، محتواه كله حق ليس فيه شيء من الزور، والبهتان، والإفك، ولا من الضلال، ولا من الزيغ؛ بل كل ما نزل فيه إنما هو حق، إخباره عن الله -تبارك وتعالى- وملائكته، وغيبه -سبحانه وتعالى- وما شرعه الله -تبارك وتعالى- لعباده كل ما تضمنه القرآن حق {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا........}[الأنعام:115]  صدقاً فى الأخبار، وعدلاً فى الأحكام.

 {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ........}[آل عمران:3] جاء القرآن يصدق ما بين يديه من الكتب؛ فالأخبار الصادقة الموجودة فى الكتب التى سبقت القرآن، التوراة، والإنجيل جاء القرآن يصدقها ،ومن ذلك أن إله العالمين إلهُ واحدُ -سبحانه وتعالى- وأنه خلقهم لعبادته، وأن بدء خلق الإنسان إنما كان فى السماء وهو آدم -عليه السلام- ومنه أنه  لما حصلت الخطيئة أنزله الله تبارك وتعالى إلى الأرض، وكان من شأنه ما كان، ومن شأن إبليس كل هذه الأخبار التى جاءت فى الكتب السابقة جاء القرآن ليصدقها؛ فأمور الغيب، وإرسال الرسل هذا جاء القرآن مصدقا لما بين يديه، يصدق هذه الكتب فيما دعت إليه، وما تضمنته من توحيد الله وعبادته.

 {........وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ}[آل عمران:3] أي أن الله -تبارك وتعالى- كذلك هو الله الذي لا إله إلاً هو الحى القيوم هو الذي أنزل التوراة والإنجيل، التوراة، الكتاب الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- على موسى، والإنجيل الكتاب الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- على عبده ورسوله عيسى ابن مريم -عليه السلام- .

{........وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ}[آل عمران:3]{مِنْ قَبْلُ........}[آل عمران:4] أي من قبل نزول القرآن {هُدًى لِلنَّاسِ} أنزل الله -تبارك وتعالى- هذه الكتب حال كونها فيها هداية للناس {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} وأنزل الفرقان، الفرقان الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- هو الآيات المحكمات التى نزلت فى هذه الكتب، هذا معنى، والفرقان اسم من أسماء القرآن {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1] فالقرآن هو فرقان، وذلك أن الله فرق به بين الحق، والباطل بين الهدى، والضلال بين الشرك، والتوحيد بين صراط الله -تبارك وتعالى- وصراط الشيطان؛ فالقرآن فرقان، وكذلك ما يؤيد الله -تبارك وتعالى- به أهل الإيمان، يؤيد به الرسل من المعجزات، يظهر الله -تبارك وتعالى- به صدق رسله، وكذلك يظهر به كذب أعداءه هذا فرقان؛ ولذلك كانت غزوة بدر فرقاناً، سماها الله -تبارك وتعالى- فرقان وذلك أنها فرقت بين الحق والباطل؛ فإن كان فيها آية، آية من آيات الله -تبارك وتعالى- أن  فئة قليلة خرجت إلى الحرب غير مستعدة لها غير آخذة أهبة الحرب تقابل فئة أخرى كافرة خرجت محادًة لله ورسوله مستعدة للحرب فيها رجال متمرسون بالقتال؛ ثم إن الله -تبارك وتعالى- يؤيد هذه الفئة القليلة التى انتسبت إليه على هذه الفئة العظيمة التى تضادها {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ........ِ}[آل عمران:13] {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ........}[الأنفال:41] يوم الفرقان يوم بدر {........يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الأنفال:41] فالله جعل يوم بدر فرقاناً، فرق به بين الحق، والباطل؛ لأنه أظهر أن دعوة النبي حق، وأن قوله حق، وأنه سينتصر حق، وأضل الله -تبارك وتعالى- سعى الكافرين.

وما أجراه الله -تبارك وتعالى- على أيدى الرسل، عصا موسى وكيف جعلها الله -تبارك وتعالى- فرقاناً فرق به بين الحق، والباطل؛ فإن إلقاء هذه العصا على سحر السحرة أظهرت هذا ظهر للناس كلها أن هذا فرقان هذا دليل من الله -تبارك وتعالى- معجز، وهذا فعل التلبيس والكذب؛ فالله -تبارك وتعالى- أنزل الفرقان كذلك هو منزل الفرقان أي الحجج القاهرة، البينة التى يفرق الله -تبارك وتعالى بها بين الحق، والباطل، وما أنزله الله -تبارك وتعالى- من الفرقان على رسوله أمور عظيمة جدا من الأمور الكونية القدرية التى أظهر الله -تبارك وتعالى- بها أن دين الإسلام حق، وأن دين الكفر باطل، هذا من معانى إنزال الفرقان {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ}.

 ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} بعد أن بين الله -تبارك وتعالى- أنه أنزل هذه الكتب لهداية الناس، وأنزل مع الفرقان البين الحجج الكونية القاهرة يصبح الكفر بعد ذلك جريمة كبرى يصبح الكفر جريمة لأنه جحود، لا للمعقول بل المحسوس كذلك، يعنى أنهم أنكروا  حتى المحسوس ما يرونه بأم أعينهم من آيات الله -تبارك وتعالى- البينات على صدق الرسل يجحدونه وينكرونه؛ فهنا توعد الله -تبارك وتعالى- هؤلاء الكفار {........إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ}[آل عمران:4] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ آياته علاماته الدالة على  أنه الإله الواحد الذي لا إله إلاً هو، وعلى صدق ما جاءت به الرسل.

 وهذه الآيات  نوعان النوع الأول هو هذه الآيات المنزلة منه -سبحانه وتعالى- ثم النوع الثاني هو البراهين التى يظهر الله -تبارك وتعالى- بها صدق رسله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} وهذا العذاب هو النار عياذاً بالله يوم القيامة {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} غالب لا يغلبه أحد فلو كان هؤلاء الكفار ما كانوا عدداً، وقوةً، وكثرة؛ فإنهم لا يغلبون الله -عز وجل- ذلك أن الله هو العزيز، الغالب الذي لا يغلبه أحد، والعزة هي الغلبة فى لغة العرب، كما تقول العرب من عزً بز يقولون من غلب سلب {ذُو انْتِقَامٍ} صاحب انتقام -سبحانه وتعالى- من أعدائه؛ فأعداء الله -تبارك وتعالى- والكافرون به ينتقم الله -تبارك وتعالى- منه وذلك بإنزال عقوبته فيهم –سبحانه وتعالى- هذا من صفته -جل وعلا- أنه عزيز ذو انتقام.

{إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}[آل عمران:5] هذا كذلك وعيد لكل العباد أن الله -تبارك وتعالى- الذي أنزل الكتاب على عبده أنزل هذه الكتب أنزل البرهان هو -سبحانه وتعالى- كذلك لا يخفى عليه شيء من أي شيء  سواء أن كان من أعمال خلقه، أو من كل هذه الموجودات فى الأرض، ولا فى السماء بل الله -تبارك وتعالى- حاضر شاهد على كل شيء مطلعُ على كل شيء، ولحظة بلحظة لا يغيب عنه شيء -سبحانه وتعالى- ليس ثَمَ شيء من، يعنى الخلق يغيب عن الله-تبارك وتعالى- {........وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[يونس:61] يعزب يعنى يغيب، ويغرب؛ فالله -تبارك وتعالى- كل شيء عنده شهادة، كل شيء من هذه الموجودات عند الله -تبارك وتعالى- شهادة ليس عليه غيب، ولا ذرة واحدة تغيب عنه -سبحانه وتعالى- عن سمعه، وبصره، وعلمه -سبحانه وتعالى- ثم كذلك من صفته -جل وعلا-.

قال: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران:6] هو الله -سبحانه وتعالى- الذي يصوركم فى الأرحام الخلق كله لله، والخلق بمعنيين، بمعنى الإخراج من العدم إلى الوجود، وكذلك إعطاء كل مخلوق صفته صورته؛ فالإنسان الذي هو أشرف هذه المخلوقات على الأرض الله -تبارك وتعالى- هو الذي يبرزه من العدم، وهو الذي يصوره -سبحانه وتعالى- فى رحم أمه الأرحام جمع رحم والرحم هو هذا العضو الذي هو منبت الولد، وسميت بالرحم الله هو الذي سماها اشتق لها، اشتق لهذا العضو اسم من إثمه الرحمن -سبحانه وتعالى- قال: « أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمى فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته».

 {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ} يعنى فى هذا العضو الذي هو منبت الولد، هو الذي يعطى كل يعنى مخلوق كل إنسان ذكرا ً كان، أو أنثى صورته -سبحانه وتعالى- وهذا من كمال قدرته -سبحانه وتعالى- فإن ملايين الملايين من هذه الأرحام تكون فى وقت واحد والله -تبارك وتعالى- يعطى كل إنسان صورته، ولا يوجد تطابق كامل فى صورة عن صورة  فانظر هذا الخلق، وهذه البشر يعيش الآن على الأرض أكثر من ست مليارات إنسان ولكن  لا يمكن أن تجد إثنين قد تطابقا تطابقاً كامل فى الصورة، وهذا العمل، والخلق مستمر أبداً، والله تبارك وتعالى لا يعجزه أن يعنى يخلق كل مخلوق على صورة جديدة غير صورة المخلوق الآخر؛ بل إن هذا الأمر يتعدى إلى أدق الصفات، إلى داخل الخلية الواحدة الجزيء الصغير من كل مخلوق لا توجد ما هو فى داخل الخلية شفرة الإنسان الخاصة، أو ما يسمى بصمته الوراثية لا يمكن تتطابق بصمة لإنسان لواحد مع إنسان آخر قط؛ علماً أن فى كل إنسان أكثر من ستين مليار من هذه الخلية، وكل واحدة من هذه الخلايا يحمل الصفات الكاملة لهذا الإنسان؛ فتعالى الله -تبارك وتعالى- الرب الإله العظيم الخالق لكل شيء الذي لا إحاطة بعلمه؛ فهذا أمرُ فوق التصور، يعنى أمر فوق تصور البشر أن يتصوروا قدرة الله -تبارك وتعالى- وسعة علمه -سبحانه وتعالى- وسعة قدرته {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ........}[آل عمران:6] لا يعاونه أحد، ولا يقترح عليه أحد، ولا يتدخل معه أحد بل الله -تبارك وتعالى- ولا يوكل هذا الأمر إلى أحد بل هو الذي يفعل ذلك -سبحانه وتعالى- بنفسه -جل وعلا- {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ........}[آل عمران:6] مرةً ثانية  {........لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران:6] لا إله على الحقيقة إلاً هو؛ أما الآلهة الأخرى غيره فباطلة تسمى آلهة، وهى ليست آلهة لا يمكن أن تكون آلهة لأن الإله هو الذي يفعل هذا الذي يصور خلقه فى الأرحام كيف يشاء هذا الذي يستحق أن يكون إلها -سبحانه وتعالى-.

 {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ} الغالب الذي لا يغلبه أحد {الْحَكِيمُ} الذي يضع كل أمر فى نصابه -سبحانه وتعالى- فكل أمر إنما هو موضوعُ فى نصابه تماماً لأن علمه العلم الكامل {........قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}[الطلاق:12] ويضع كل أمر فى نصابه الهدى، والضلال، الغنى، والفقر، الصحة، والمرض كل أمر إنما يضع الله -تبارك وتعالى- فى نصابه، ولا يفعل إلاً لحكمة -سبحانه وتعالى- فأفعاله كلها حكيمة فى مكانها الصحيح -سبحانه وتعالى- هو الله -سبحانه وتعالى- {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[آل عمران:7] نقف عند هذه الآية، ونأتي إلى شرحها فى الحلقة الآتية إن شاء الله، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد