الجمعة 18 شوّال 1445 . 26 أبريل 2024

الحلقة (84) - سورة آل عمران 10-14

 الحمد لله رب العالمين، وأصلى، وأسلم على عبد الله، ورسوله الأمين، وعلى أله، وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ}[آل عمران:10]{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[آل عمران:11]{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}[آل عمران10:12].

 يخبر الله -سبحانه وتعالى- عباده أن الكفار {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا لا فى الدنيا إذا أراد الله -تبارك وتعالى- أن يُنزل بهم بطشه، وعقوبته المعجًلة، ولا فى الآخرة حيث يحشرون إلى النار بلا نصير، ولا معين، ولا ينفع عنهم مالهم الذي جمعوه كما قال الله -تبارك وتعالى- {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ}{وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ}{ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ}{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ}{هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}[الحاقة25-:29] وكل أحد يوم القيامة يفر من أوليائه {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}{وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ}{وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس:34-37] فتأكيد الله -تبارك وتعالى- قال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ}[آل عمران:11] هذه عقوبة الله تبارك وتعالى لهم وقود النار الذي تشتعل بهم النار، فالنار تشتعل بأجسادهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قووا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ.......}[التحريم:6] تشتعل بأجساد الناس؛ فنارُ عظيمة أن يكون نفس الناس هم وقودها عياذًا  بالله.

 ثم أخبر -سبحانه وتعالى- أن شأن الكفار الذين كفروا برسالة محمد -صلوات الله والسلام عليه- لن يكون أفضل، ولا أحسن من ِشأن الكفار السابقين الذين سبقوا هؤلاء قال -جل وعلا- {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[آل عمران:11] فإن آل فرعون قد دأبوا بمعنى أنهم استمروا، وساروا دآئبين، عاملين فى درب واحد على رد الحق، والثبات على الكفر مع ما جاءتهم من الآيات الكثيرة، والبينات، وضرب الله -تبارك وتعالى- لهم المواعظ والحجج إلاً أنهم فى كل ذلك  كابروا، وعاندوا، وجحدوا كما قال -جل وعلا- {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}[الأعراف:133]

{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ........}[آل عمران:11] من قبلهم من قبل قوم فرعون، عاد، وثمود، وقوم نوح {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} تكذيب رد الحق، وإتهام هذا الصدق بأنه كذب بآياتنا آيات الله -تبارك وتعالى- بآيات الله المنزلة المقروءة، وكذلك آيات الله -تبارك وتعالى- الكونية، معجزات، بيناته، براهينه التى يجريها،  على أيدى رسله -سبحانه وتعالى- {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بذنوبهم}   {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} أخذ الله هلاك الله -تبارك وتعالى- لهم؛ فإن قوم فرعون قد أغرقهم الله -تبارك وتعالى- على ما كان لهم من المال، والسلطان، والتمكن فى الأرض، والقوة  المادية الهائلة إلاً أنهم لم يعجزوا الله -تبارك وتعالى- أخذهم الله قال -جل وعلا- {بِذُنُوبِهِمْ}  أن أخذه -سبحانه وتعالى- إنما كان بسبب ذنوبهم، لما أذنبوا هذا الذنب العظيم، وهو الكفر، والجحود بآيات الله –عز وجل- فإن الله أخذهم -سبحانه وتعالى-  {........وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[آل عمران:11] عقوبته شديدة، وانظروا هذه العقوبة،  العظيمة التى عاقب الله -تبارك وتعالى- بها،  آل فرعون، وعاقب بها،  الكفار الذين سبقوهم {........وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[آل عمران:11] هذا من صفته سبحانه، الله من صفته أن عقابه شديد، وأخذه أليم -جل وعلا- وسُمي  هذا النكال، والعذاب بالعقاب لأنه يأتي إثر الذنب، عقب الذنب. {........وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[آل عمران:11] المؤاخذة  بالذنب.

 ثم وجه الله -تبارك وتعالى- خطابه إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه-  أن يقوم كذلك بإنذار هؤلاء الكفار الذين يعاندونه، ويكذبونه قال -جل وعلا- {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}[آل عمران:12] {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} الذين كفروا بالنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- كفروا بآيات الله هذا النبي المؤيد بهذه البينات، بالكتاب المنزل عليه من الله -تبارك وتعالى- الذي تحدى الله به العرب، والعالمين أن يأتوا بسورة مثل سوره، وكذلك بالأدلة الواضحات التى يجريها الله -تبارك وتعالى- من خوارق العادات على يد النبي -صلوات الله والسلام عليه-.

{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ........}[آل عمران:12] تنهزمون وينصر الله -تبارك وتعالى- عليكم أهل الدين هذا فى الدنيا {........وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}[آل عمران:12] هذه عقوبتهم أنه فى النهاية ستكون الغلبة لأهل الإسلام على أهل الكفر؛ ثم فى يوم القيامة ستحشرون إلى جهنم وبئس المهاد إذن ستلاقون،  الهزيمة مرتين، هزيمة الدنيا، وهزيمة الآخرة؛ فأما هزيمة الدنيا أن ينصر الله -تبارك وتعالى- عليكم رسوله، ويؤيد دينه، وفى النهاية تحشرون إلى جهنم وبئس المهاد، هذه نفس العقوبة السابقة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ}[آل عمران:10] لن تغني عنهم لا فى الدنيا، ولا فى الآخرة.

 {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}[آل عمران:12] {تُحْشَرُونَ} تجمعون {إِلَى جَهَنَّمَ} هذه النار التى أعدها الله -تبارك وتعالى- لعباده، قهرها، يُلقى الحجر من شفيرها فيستمر سبعين سنة حتى يصل قاعها عياذًا  بالله؛ فهي سجن عظيم، وبئر بعيدةُ الغور، والقعر {........وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}[آل عمران:12] هذا من الاستهزاء بهم، المهد هو ما يرتبه الإنسان، ويسويه ليريحه، ومنه مهد الطفل، الفراش الذي يبسط له حتى يكون ممهداً، ومكاناً لراحته؛ فالنار مهاد لكم بمعنى أنها فراش ستكونون عليه، والنار عياذًا  بالله سجن فراشه نار، وجدرانه نار ،وغطاؤه نار؛ كما قال -تبارك وتعالى- {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}[الأعراف:40]{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ........}[الأعراف:41] {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} فراش {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} غطاء {........وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}[الأعراف:40] فكذلك  كهذا الجزاء الشديد، وهو أن يوضع فى سجن فراشه نار، والغطاء الذي يغطيهم عياذًا  بالله نار، وكذلك يحاط بالنار؛ كما قال -جل وعلا- {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} والسرادق الجدران {........وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}[الكهف:29] {........وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}[آل عمران:12]  بئس فراشاً يفرش لكم هناك عياذًا  بالله.

 ثم قال -جل وعلا- يعطيهم آية بعد أن بين الله تبارك وتعالى الآيات من السابقين، آيات من التى حصلت لهم الآن، قال لهم: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ}[آل عمران:13] {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} علامة هذه علامة واقعة، واضحة قد رأيتموها بأعينكم.

 {فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فئتين جماعتين التقتا للحرب، وهو النبي -صلوات الله والسلام عليه- ومن معه وهم أهل بدر من المؤمنين، وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، والكفار وعلى رأسهم أولئك الصناديد، أبو جهل عمرو بن هشام، وأبى بن خلف، وأمية بن خلف كبار قريش فى هذا الجانب فى ألف من المشركين، والكفار المتمرسين بالقتال {فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} للقتال.

 {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ النبي ومن معه -صلوات الله وسلم- يقاتلون فى سبيل الله يقاتلون لإعلاء كلمة الله -سبحانه وتعالى- فهذا فى سبيل الله،  فى طريق الله، سائرون فى طريق الله -تبارك وتعالى- يريدون إعلاء كلمة الله -تبارك وتعالى- فى الأرض، وأخرى و  هم الكفار {كَافِرَة}.

  {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} يرونهم مثليهم رأى العين، يرونهم  الفئة القليلة، ترى تلك الفئة،  مثليهم، أنهم ضعفين {رَأْيَ الْعَيْنِ} يرون هذا رأى العين أنهم مثليهم ، و كما جاء فى السيرة أن النبي سأل الرؤيان الذي أتى بهم على بن أبى طالب، والمقداد قال لهم: كم القوم؟، قالو لا نعرف عددهم، قال كم تذبحون؟، قالوا يوماً تسعة من الجزر، ويوم عشرة،  يذبحون عشرة من الإبل فى يوم، أو تسعة فى يوم فقال النبي: « القوم من بين  التسعمائة إلى الأف» فقد كان الكفار نحو ألف شخص؛ فيرى أهل الإيمان أن  الكفار مثليهم رأى العين؛ ولذلك استشار النبي أصحابه -صلى الله وسلم- وقال: أشيروا علىً أيها الناس أنقاتلهم أم لا؛ فأشاروا بأنه  يقاتلهم، تكلم أبوبكر فأحسن، وتكلم عمر؛ ثم قام المقداد فقال: يا رسول  الله، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى {........فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}[المائدة:24] بل اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معك مقاتلون، وقال سعد بن معاذ -رضى الله تعالى عنه- كأنك تعنينا يا رسول الله، قال: نعم أنتم الناس، وذلك أن المهاجرين كانوا بضع وثمانين رجلاً فقط، وأما بقية الجيش كله كانوا من الأنصار؛ فقالوا كأنك تعنينا يا رسول الله، قال سيد الأنصار، سيد الأوس؛ فقال النبي: نعم قال فإنا قد آمنا؛ بك وصدقناك، وأعطيناك على ذلك عهوداً، ومواثيقاً، والله لو خضت بنا هذا البحر لخوضناه معك ما تخلف منا رجل، ولو ذهبت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونك؛ ثم قال له:  قم يا رسول الله إلى ما  أمرك الله فلعل الله -تبارك وتعالى- أن يقر عينيك بنا قال والله صُبرُ فى القتال، صُدُقُ عند اللقاء ، وكان  ما كان من أمر الله -تبارك وتعالى- الله يقول  {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}.

 ثم إن الله أيدً بنصره هذه الفئة القليلة، خرجت النبي لما خرج إلى بدر لم يكن خارجاً لقتال قريش ، وإنما كان خارجاً لغنيمة تؤخذ العير التى جاءت بتجارة قريش من الشام ألف من الإبل المحملة، وفيهم نحو مئة رجل فقط؛ فكانت غنيمة سهلة، باردة يمكن للمسلمين أن يأخذوها سهلة باردة و  هي كما قال الله {غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ} ولكن الله -تبارك وتعالى- رتب الأمر بما كان لا يظنه المسلمون،  ذهب أبو سفيان بالعير من طريق آخر، ساحَلَ به البحر ففات المسلمين؛ ثم آتت قريش بحدها، وحديدها تريد القتال، فكان الناظر إلى الناس قبل المعركة ينظر فئة مؤمنة خرجت لا تريد،  الحرب، وفوجئت بها، وعددهم قليل، وفئة خرجت تريد الحرب، تريد هؤلاء وتريد أن تبطش بهم، وهم متمرسون  فى قتال، وأهل خبرة طويلة، والأنصار كان منهم كثيرون،  حدثاء الأسنان، وهنا ظهرت آية الرب -تبارك وتعالى- إذ نصر هذه الفئة القليلة على هذا الجمع الغفير؛ فما كادوا  تبدأ المعركة حتى ولىً هذا الجمع الكبير من الكفار ظهورهم، وانطلق المسلمون فى إثرهم يقتلون، ويأسرون.

{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ}  يا أيها الكفار   {........فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ}[آل عمران:13] والله -سبحانه وتعالى- يؤيد بنصره من يشاء؛ ولذلك نصر هذه الفئة القليلة على هذه الفئة الكثيرة، وهذا فيه  خرق للعادة أمر على خلاف  السنن المادية فى أن الكثرة تغلب القلة هذا أمر  معلوم مثل قوانين الحساب واحد وواحد يساوى أثنين؛ فعشرة يغلبوا شخص واحد، اثنين يغلبوا رجل إذا كان الاثنان فى مثل قوته؛ فانظر كيف أن هذه الفئة القليلة غلبت هذه الفئة الكثيرة بإذن الله!

 قال -جل وعلا-{وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ} يقوٍى {........بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران:13] العبرة وهي العظة، وأخذ الدرس، وهى جابية العبرة من العبور؛ كأن الإنسان يعبر عن الحدث إلى ما وراء الحدث؛ فمن شاهد هذا الحدث، وفكر فيه علم أن هناك أمورا وراء هذا الحدث؛ ما هو؟ فئة قليلة على هذا النحو تغلب فئة كثيرة على هذا النحو؛ إذا فيه أمر هنا خارق للعادة هذا الأمر لابد أن يكون هؤلاء مؤيدين بمدد آخر، بسبب آخر غير الأسباب المادية، وهذا السبب هو السماء سبب الله -تبارك وتعالى-تأييد الله -تبارك وتعالى-ونصره للفئة القليلة على الفئة الكثيرة، الفئة التى معه أهل الإيمان على الكافرة. قال -جل وعلا- {إِنَّ فِي ذَلِكَ}  وهو ما كان يوم بدر {........لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ}[آل عمران:13] .

ثم بين الله -تبارك وتعالى- أعظم الصوارف التى تصرف، فلماذا يكفر الكافر  وينصرف عن هذا الدين، قال -جل وعلا- {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}[آل عمران:14]

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ زُين بالبناء بما لم يُسم فاعله، التزيين هو التجميل، والتحسين {........وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ}[الحجر:16] و  هي السماء  جملناها هذه السماء تنظر إليها ليلاً فتجدها  ساحة عظيمة، مرصعة بهذه النجوم، والأقمار زينة للناظرين؛ فالزينة الجمال، {زُيِّنَ لِلنَّاسِ}  حُسٍنً فى قلوبهم، وفى نفوسهم .

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} هنا الفاعل الذي نُسٍب إليه الفعل هنا لم يذكر هنا وقد جاءت الآيات تبين أن الذي يزين هذه الشهوات للناس هم الشياطين؛ كما فى قول الله -تبارك وتعالى- {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} .

وجاء أن الله -تبارك وتعالى-  هو الذي زين لكل أمة عملهم حتى القبيح، نسبة  هذا إلى الرب -تبارك وتعالى- كما فى قوله -جل وعلا- {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام:108] {كَذَلِكَ زَيَّنَّا} بنسبة هذا إلى الرب -تبارك وتعالى- ،وقد أخبر الرب -تبارك وتعالى- أن هذا الفعل منه -سبحانه وتعالى- ‘إنما هو عقوبة لهؤلاء الكفار، أنه عاقبهم على هذا النحو لما تركوا طريق الرب -تبارك وتعالى- فإن الله أرسل لهم الشياطين،  يفعلون بهم هذا  الفعل {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}[مريم:83] تحركهم تحريكاً إلى المعاصي بتزيين هذا الشر لهم؛ فهي عقوبة من الله -تبارك وتعالى- فنسبة الفعل إلى الله أنه هو الذي قضى به، وقدًره -سبحانه وتعالى- وأنه لا يقع شيء إلاً بأمره، وكونه، وقدره -سبحانه وتعالى-  ، وأما الذي  زين هذا فإنما هو،  الشيطان هو الذي زين لهم،  المعاصي ، فإن الشيطان قال الرب -تبارك وتعالى- {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر:39] فقد أخذ على نفسه هذا، وتسليط الشيطان على من سُلٍط عليه، وإن كان واقعاً بقضاء الله وقدره؛ فهذا لأن هؤلاء زاغوا عن طريق الرب كما جاء كما قال -تبارك وتعالى- َمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}[الزخرف:36]{وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}[الزخرف:37] فهذه تكون عقوبة لهم من الله -تبارك وتعالى- وقال -جل وعلا- {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[الكهف:7]

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ}  حُسٍن فى نفوسهم، وعقولهم {لِلنَّاسِ} كل الناس {حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} جمع الله -تبارك وتعالى- كل أنواع الزينة، والمتاع التى يُفتن بها الناس، ويشغفون بها وهى جميلة فى  أعينهم، وبالتالي يتتبعها  أهل الجهل، وأهل الغفلة منهم تتبُع  الذي يجعلها همه، ودنياه، وآخرته فيجعل كل شيء هو هذا.

 {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} شهوة وذلك أنها رغبة، وإرادة شهوة تُراد أن تشبع، بدأ هذه الشهوات قال -جل وعلا- {مِنَ النِّسَاءِ} هذه أعلى وأعظم الشهوات الموجودة فى الأرض، والتي هي محل تهافت الناس، وتسابقهم، وتنافسهم {وَالْبَنِينَ} البنين، الأولاد الذكور فإنها شهوة عظيمة، شهوة الولد، وإرادة عظيمة، ويتتبعها  الناس، ويشغفون بها {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} القناطير، القنطار وزن، ومعنى مقنطرة  أنها مضاعفة بقناطير كثيرة {مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} والذهب والفضة  هي من المعادن الثمينة منذ وجدت الأرض، وقد جعلها الإنسان كذلك مصدر أو مقياس للقيم، يقيم بها الأشياء إلى ما فيهما من،  الحسن، والجمال، واللمعان؛ فهي محبوبة للناس لهذا، أنها هي القيمة، وما فيها من الجمال فيها، فالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مشتهى الناس، ومعبودهم، ومبتغاهم إذا كانت طبعا  أمرا كثيرا أما  إذا كان الشيء القليل قال الله {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} لأن الرغبة إنما هو فى  الكميات العظيمة من هذا وليس فى  الشيء القليل.

 {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} الخيل من أعظم المتع الموجودة أيضاً فى الأرض، وإذا كانت مسومة، المسومة و  هي المعلمة بعلامات تعرف بها و  هي الأصيل من غيرها فمواصفات الجمال، ومواصفات الكرم فى الخيل هذه يتتبع الناس هذا، كما يقال مثل الخيل الكريمة مثل الأصيلة هي أن تكون محجلة ثلاث محجلة الثلاث مطلقة اليمين،  فإذا كانت يمينها بلون جسمها، والثلاث الأخرى، اليسرى والقدمان الأخيرتان فيهم حجال بياض فى رجل الفرس؛ فهذه علامة الأصالة، والكرم؛ فالخيل المحجلة، والخيل الأغر الذي يكون فيه بياض فى جبهته بعلامات معينة يتتبعها الناس، وقد يكون ثمن واحد بثمن ألف من غيره {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} المعلمة بهذه العلامات التى تعرف بها أصالتها وكرمها.

 {وَالأَنْعَامِ} بهيمة الأنعام و  هي الثمانية أزواج التى أنزلها الله -تبارك وتعالى- الإبل، والبقر، والغنم {وَالْحَرْثِ الزراعة؛ فهذه مشتهيات الناس، ومطلوباتهم، ومحل سعيهم، والمتع التى زُينت فى قلوب البشر، وفى أعينهم.

 قال -جل وعلا- {ذَلِكَ} كل هذا {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} هذه الأمور و  هي هذه الشهوات، وهذه المتع هي كلها لا يتمتع بها إلا في الحياة الدنيا {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} المتاع،  الإشباع السريع للشهوة العابرة، أمر يشتهى يشبع، ويتمتع به هنا؛ كما قال النبي -صلى الله وسلم- «الدنيا متاع»  إشباع شهوة عابرة  «وخير متاعها المرأة الصالحة»  {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وسماها الله الحياة الدنيا لأن الدنيا بمعنى أنها دنيئة، أو الدنيا القريبة فمتاع الحياة الدنيا التى نحن فيها، وهى حياة قصيرة تمر سريعاً، ولا تبقى، قال -جل وعلا- {........وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}[آل عمران:14] انظر الفارق الهائل بين هذا وبين حسن المآب، المآب المرجع، وحسن المآب دائما المرجع هو الأساس لأن مرجع الإنسان إذا كان يرجع، ليستقر ويبقى، وهذه نهاية المطاف؛ فهذا هو الأمر؛ بل إن فى الدنيا يتحمل الإنسان مشاق السفر إذا علم أن نهاية هذا السفر، هو أن يستريح، ويلقي عصا التسيار، ويذهب هذا العناء، ويعود إلى الراحة؛ فالإنسان يتحمل المشاق فى سبيل الراحة النهائية؛ فأخبر الله -تبارك وتعالى- أن هذا، هذه المشتهيات إنما هي إشغال بالوقت الأساسي الذي عليه بعد ذلك يتوقف عليه،  الحياة الحقيقية؛ فالحياة الحقيقية ليست هنا، الحياة الحقيقية إنما هي فى المآب قال -جل وعلا- {........وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}[آل عمران:14] المرجع الحسن، والمرجع الحسن و  هو نهاية المطاف.

ثم فصل الله -تبارك وتعالى-نهاية هذا المطاف {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ........ }[آل عمران:15] أفضل من هذه الشهوات، هذه الدنيوية {........لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}[آل عمران:15] {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران:16] فحسن المآب الذي عند الله -تبارك وتعالى- هذا تفصيله، هو أمر لا  مقارنة بينه، وبين كل هذه المشتهيات {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ........ } [آل عمران:15] أخير من هذا {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِم} وهم من جملة هؤلاء الناس {........لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:15] ولهذه الآية إن شاء الله مع ما يليها تفصيل فى الحلقة الآتية إن شاء الله.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.