إن الحمد لله نحمده، ونستعين، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدً عبده ورسوله.
أما بعد؛ فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}[آل عمران:14]{قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}[آل عمران:15] {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران:16]{الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}[آل عمران:17].
يخبر -سبحانه وتعالى- عباده بأن الناس قد زين لهم {حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ زُين بمعنى أنهم رأوا هذا جميلا فى أعينهم، حُسن هذه الشهوات فى أعينهم بدأ بأعظم هذه الشهوات، وهى النساء، والبنين الذكور، والقناطير المقنطرة الذهب القنطار وزن المتكاثر، الوزن المتكاثر من الذهب، والفضة، والخيل المسومة المعلمة؛ فإن الخيل درجات، وللخيل الكريمة التى ينفق الناس فيها ما ينفقون، ويشغفون فيها لهم علامات، لها علامة كالغر، والتحجيل، {والأنعام} بهيمة الأنعام من الإبل، والبقر، والغنم، {والحرث الزراعة هذه هي زينة الحياة التى يشغف به، شغفت به الناس، وشغلوا عن الدين وعمل الآخرة كما قال -تبارك وتعالى- {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[الكهف:7] قال -جل وعلا- {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} هذه المشتهيات هي متاع الحياة الدنيا يتمتع الإنسان فيه فى هذه الفترة القليلة من العمر وهى الحياة الدنيا، الدنيا بمعنى القريبة غير الأخرى و هي البعيدة الآخرة، أو الدنيا الدنيئة من دناءتها، ومن خستها؛ فإن متاعها قليل وزائل.
قال -جل وعلا- {........وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}[آل عمران:14] الأجر والثواب، والمتعة الحقيقية، والحياة الحقيقية عند الله -تبارك وتعالى- وفى مقابل هذه الدنيا {حسن المآب}، وحسن المآب هذه كلمة جامعة المآب الرجوع، وذلك أن الرجوع الحسن هو أفضل أمر وأفضل نتيجة؛ فإن الأساس إنما هو فى المرجع، وإلا فالطريق مهما كان الطريق شاقاً، والرجوع والمآب حسناً فإنه تهوون مشقة الطريق، أما اذا تمتع الأنسان فى الطريق؛ ثم كان مآبه إلى الخسار، والدمار فما يغنى عنه ما تلقاه من متعة قبى هذه الحياة الزائلة؛ فحسن المآب هو أفضل شيء غير سوء المآب.
قال -جل وعلا- {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ........}[آل عمران:15] بخير من هذه المشتهيات وهذا المتاع الدنيوي من {ذَلِكُمْ} المشار إليه {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} للذين اتقوا بدأ بهذا، ذكر أهل هذا النعيم قبل النعيم وهذا التقديم فيه بيان أن هذا النعيم حتى لا تشرئب له الأعناق فليعلم أنه لأهل التقوى أولاً؛ فقدم الله -تبارك وتعالى- ذكر أصحاب النعيم قبل أن يذكر النعيم فقال: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا}.
والذين اتقوا كلمة جامعة، وذلك أن التقوى اسم جامع يجمع كل صفات الخير، والبر، وذلك أن التقوى إيمان بالله وعمل بطاعته؛ فمن آمن بالله -تبارك وتعالى- وعمل بطاعته، واتقى مساخِطه -سبحانه وتعالى- فهذا معنى التقوى؛ فالتقوى أهل التقوى هم الذين خافوا ربهم -سبحانه وتعالى- فآمنوا به، وأطاعوا أمره، واجتنبوا نواهيه -سبحانه وتعالى- {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ هذا كذلك قوله {عِنْدَ رَبِّهِمْ هذا لتأكيد حصول الأمر، وأنه لا يضيع لأن إذا كان الأمر عند الرب -جل وعلا- فهو لا يضيع؛ ثم هو ربهم أضافهم -سبحانه وتعالى- إلى نفسه هؤلاء الأتقياء؛ فلما أضافهم إلى نفسه، وذكر اسمه -سبحانه وتعالى- بأنه ربهم بمعنى هو خالقهم، ومدبر شؤنهم إذا لا يضيع؛ فهو ربهم -سبحانه وتعالى- بمعنى الرب الرحمن بهم -سبحانه وتعالى- {جَنَّاتٌ جمع جنة، والجنة هي البستان سميت جنة لأنه يجن الداخل فيها من التفاف أغصانه إذا كان البستان ملتف الأغصان بعضه مع بعض؛ فإن من دخله، يستتر به، وهذه المادة جنة و هي أصلها جننه هذى كلها تعني معنى الاستتار منها الجنة لأنها تستر الداخل فيها، ومنه الجنين لأنه مستور فى بطن أمه ومنه المجنون لأن عقله مستور؛ الجنة البستان لهم جنات وليس جنة واحدة {جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} الجريان معروف غير الركود، ومن تحتها من تحت قصورها، من تحت هذه البساتين {الأَنْهَار} جمع نهر.
وقد أخبر -سبحانه وتعالى- بأن هذه الأنهار مختلفة الطعوم، والأشكال؛ قال: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ........}[محمد:15] فـ {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} ليست أنهار المياه فقط بل أنهار هذه الأصناف التى ذكرها الرب -جل وعلا-.
خَالِدِينَ فِيهَا ماكثين فيها مكوثا طويلا، وأخبر الله أن هذا المكث، وهو فى الجنة لا انقطاع له كما قال -جل وعلا- {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}[هود:108] والجذ هو القطع أنه عطاء لا ينقطع؛ فعطاء أهل الجنة، أو بقاء أهل الجنة فيها بقاء لا ينقطع؛ فهم خالدون فيها خلوداً لا انقطاع له، ولا نهاية له.
{وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} لهم فى هذه الجنة أزواج زوجات، قال -جل وعلا- {مُطَهَّرَةٌ} وهذا وصف جامع لكل معانى الطهارة طهارة الخُلُق، وطهارة الخلْق؛ فأما طهارة الخَلق؛ فإن أهل الجنة لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون من المخاط، عرقهم، ورشحهم المسك، وأهل نساء الجنة لا يطمثْن لا يأتيهن الطمْث، وهو الحيض، والدم؛ فهن مطهرات من كل النجس، ومن كل القذر، كل القذر الذي يكون فى الدنيا هن مطهرات منه؛ ثم مطهرات من الأدواء الخلقية كالحسد، والغل، والغيرة، وكل ما هو داخل فى معنى التواء الخُلق، وانحرافه، أهل الجنة، ليس فيهم أي نوع من الأدواء الخلقية بل هم مبرءون من كل عيب؛ فإذا كانت المرأة على هذا النحو هي راضية لا تسخط أبدا، لا يصيبها غيرة لا ليس فيها نشوز، ولا عناد، مكابرة، ولا هجران كل الأدواء التى تكون فى الخلق، وتكون فى الدنيا فى نساء الدنيا؛ فأزواج الآخرة مطهرات منها {وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} من كل الأدواء.
{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ رضوان بهذا الوزن الذي يدل على الكمال والامتلاء هو من الرضا، الرضا فيأتيهم رضوان من الله بحيث إن الرب لا يسخط عليهم أبدا، يؤمنهم أماناً مطلقاً بعد ذلك؛ فإن أهل الجنة يناديهم الرب -تبارك وتعالى- بعد أن يكونوا فيها؛ ويلاقوا من الخيرات، ومن نعيم ما يلاقوا يقول الله -تبارك وتعالى- لهم «يا أهل الجنة هل تريدون شيئا أزيدكم فيقولون يا رب وماذا نبتغى وقد بيضت وجوهنا، وأدخلتنا الجنة، وأعطيتنا ما لا عيين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر فيقول لهم الرب -جل وعلا- أحلل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» فهذا أعظم ما يعطون، أنهم يكونون فى رضا الله -تبارك وتعالى- الذي لا سخط بعده أبدا، لا سخط عليهم بعد ذلك أبداً؛ فرضوان من الله هذا كذلكم الجنة.
ثم قال -جل وعلا- خاتما هذه الآية التى فيها هذه البشارة العظمى، الكبرى للذين اتقوا، لأهل الجنة قال: {........وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}[آل عمران:15] {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} مبصر بهم -سبحانه وتعالى- يعلم حقيقة أمرهم؛ فمعنى ذلك أن هذا ختام معنى أنه يعلم من يستحق هذا كذلك أنه لا يضيع عنده -سبحانه وتعالى-أجر؛ فكل من كان من أهل التقوى سينال ذلك حتماً، وذلك أن الله بصير بعباده -سبحانه وتعالى-لا يخفى عليه شيء من أمرهم -جل وعلا-.
فأين بعد هذا من ذلك؟! أين تلك المشتهيات، والشهوات التى كانت فى الدنيا وهى متاع زائل، كم من السنين سيتمتع الإنسان به مهما تمتع {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ}[الشعراء:205]{ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ}[الشعراء:206]{مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}[الشعراء:207] متاع زائل متاع الدنيا مهما كان متاع زائل قليل؛ فأين هذا المتاع القليل من هذا المتاع العظيم الذي لا كدر فيه، ما فيه أي نوع من الكدر، ولا النقص ثم هو دائم ديمومة كاملة لا تنقطع ليس كما يتمتع الإنسان فى الدنيا يتمتع وهو خائف تماماً، خائف أن يؤخذ منه، أن يتحول عنه، أن يموت، أن تنتابه فيه الأعراض التى تجعله موجودا ولكن لا يستطيع أن يتمتع به كالكبير الذي عنده المال لا متعة له فيه، والعاجز، والمريض؛ فهذا، أين هذا؟! أين متاع الدنيا من متاع الآخرة؟
ثم بين الله -تبارك وتعالى- من صفات هؤلاء المتقين الذين يستحقون هذا بدأ الأول قال: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ثم قال: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران:16] فهذا تفصيل لصفات أهل التقوى الذين استحقوا هذا النعيم من الله -تبارك وتعالى- قال: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران:16] الذين يقولون هذا القول ،وقولهم لهذا القول إنما هو إعلان لما صدقوه بقلوبهم، ويعلنونه بألسنتهم {يَقُولُونَ رَبَّنَا} يا ربنا هذا دعاء منهم لله -تبارك وتعالى- {إِنَّنَا آمَنَّا} تأكيد لهم آمَنَّا الإيمان هنا تصديقهم للتصديق ما جاءهم عن الله -تبارك وتعالى- وعملهم بمقتضى هذا التصديق، من مخافة الله وخشيته وخوفه.
{فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} أي كما أننا آمنا بك يتوسل هنا بإيمانهم بالله -تبارك وتعالى-إذا يأرب {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} توسل إلى الله -تبارك وتعالى-بعملهم الصالح، ودعوا الله -تبارك وتعالى-بعملهم الصالح بما يا رب أننا آمنا فغفر لنا ذنوبنا، المغفرة الستر، والتغطية، والمحو {ذُنُوبَنَا} سيئاتنا. {........وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران:16] قنا اجعل لنا وقاية من عذاب النار، نار الآخرة عياذا بالله؛ إذا هؤلاء يعلنون إيمانهم لله -تبارك وتعالى- يتوسلون إلى الله -تبارك وتعالى- بإيمانهم قولهم هذا ليس قولا باللسان، وإنما هو قول يصدقه القلب، وذلك أنهم يعلنون لله -تبارك وتعالى- المطلع على حقيقة قلوبهم.
{الصَّابِرِينَ} الصابرين والصبر حبس النفس عن المكروه دون تضجر، أو تفجع، أو ألم؛ فهم صابرون، والصبر هذا خلق يحتاج إليه فى كل الدين لا مسيرة للدين إلاً بصبر، لأن الطاعة تحتاج صبرا، والبعد عن المعصية يحتاج صبرا عن المعصية، والأحداث المتوالية تحتاج صبرا على هذه الأحداث؛ فهم صابرون، صابرون على كل هذا، على الطاعة، عن المعصية، على ما يصيبهم من الأحداث، والابتلاءات، والاختبارات {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}.
{وَالصَّادِقِينَ} الصادقين أولاً فى دعوى الإيمان بالله -تبارك وتعالى- لما شهدوا أن لا إله إلاً الله وأن محمداً رسول الله كانوا صادقين فى هذا؛ ثم صادقين فى أقوالهم، وكذلك أعمالهم فهي جارية على مقتضى الصدق .
{وَالْقَانِتِينَ القنوت يأتي بمعنى اجتماع الهمة، والنفس على أمر ما، وانقطاعها على هذا الأمر؛ فالقانت هو المنقطع للأمر، ويأتي أيضا بمعنى الثابت كما فى قول الله {........وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}[البقرة:238] والقانت يأتي بمعنى الخاشع، فللخاشعين؛ فهذه كلها من معانى القنوت؛ كما قال الله -تباك وتعالى- فى الزوجات {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} {قَانِتَاتٌ} مطيعات للأزواج وكذلك متوفرات على الزوج، فهمها زوجها لا ترفع عينها إلى غيره فالقانتين لله بمعنى أنهم خاشعين له، ذليلين له قد وفروا حياتهم على عبادته، وطاعته؛ كما فى قول الله {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام:162] فجعلوا حياتهم كلها لله؛ فهم قانتون لله، خاشعون، ذليلون له، قد جعلوا حياتهم كلها للرب -جل وعلا-.
{وَالْمُنْفِقِينَ}، المنفقين الذين يخرجون أموالهم فى سبيل الله، والمنفقين كلام عام إنه أنه من أهل النفقة؛ فهم ينفقون كما قال الله -تبارك وتعالى- {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:274]
{........وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}[آل عمران:17] المستغفرون طالبو الغفران، ويطلبون المغفرة من الله -تبارك وتعالى- بالأسحار، أسحار جمع سحَر، والسحر هو الجزء الأخير من الليل، قبل الفجر هذا وقت السحر، وهو أفضل أوقات الليل للطاعة والعبادة وصلاة الليل، والدعاء، وقد خُص بإجابة الدعاء فيه، وذلك أن الرب -تبارك وتعالى- يقترب من عباده ويناديهم فى هذا الوقت بأن يتوجهوا إليه -سبحانه وتعالى-.
كما فى الحديث الصحيح «ينزل ربنا كل ليلة عند ثلث الليل الآخر فيقول هل مستغفر فأغفر له هل من سائل فأعطيه هل من تائب فأتوب عليه» فهذا نداء ودعاء من الرب -تبارك وتعالى- لعباده فى هذا الوقت، وهو فى كل وقت، يمر على الأرض هذا دعاء الرب -تبارك وتعالى- فى كل وقت سحر، وفى كل جزء من الأرض يكون هذا نداء الله -تبارك وتعالى- لأهل هذا المكان يناديهم الرب -تبارك وتعالى- الذين جاء عليهم وقت السحر يناديهم بأن يتوجهوا إلى الرب -سبحانه وتعالى- إذ هو قريب منهم -سبحانه وتعالى- دان منهم؛ فيقول: «هل من مستغفر فأغفر له هل من سائل فأعطيه هل من تائب فأتوب عليه» فهذا وقت قبول الدعاء؛ فلذلك خصه الله -تبارك وتعالى- بالاستغفار قال: {........وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}[آل عمران:17] ولا شك أن قيامهم فى هذا الوقت يدل على إيمانهم بالله -تبارك وتعالى- ثم على إخلاصهم فإن هذا وقت ينام الناس فيه ،وكل قد خلا بمعشوقه ومحبوبه ،وأهل الإيمان هنا يختلون بربهم -سبحانه وتعالى- إلههم، ومولاهم الذي يخافونه، ويعظمونه، ويحبونه، ويستغفرونه لذنوبهم -جل وعلا- فوصف الله -تبارك وتعالى- هؤلاء الذين لهم هذا الأجر العظيم، والثواب العظيم عنده، بأنهم هذه صفاتهم قال: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} فهم يعنون إيمانهم {........فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران:16] يدعون الله -تبارك وتعالى- بإيمانهم أن يغفر الله ذنوبهم وأن يققيهم عذاب النار؛ ثم هم، هم الصابرون، الصادقون، القانتون، المنفقون، المستغفرون بالأسحار فهذه الآية جاءت فى مقابل أولئك، أهل الدنيا قد اشتغلوا بهذه حب الشهوات {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ........}[آل عمران:14] هذه مشتهيات أهل الدنيا، وهى رغبتهم، ومنتهى آمالهم، ومحط رحالهم، كل سعيهم لبلوغ هذه المشتهيات، وأما أهل الأخرة ، الله -تبارك وتعالى- هو الذي يدل يقول: أنا أدلكم على أفضل من هذا، أفضل من انشغالكم يهذه المشتهيات {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ} قل لهم يا محمد هل أنبئكم، أؤنبئكم بخير من ذلكم لقضاء الأوقات، وفناء الأعمار فى هذه الشهوات القليلة التى سريعاً ما تذهب، ولا تصفو بل هي دائما مخلوطة بغيرها من الألآم، والنكد، الخوف من المفارقة، ما تصفوا لأحد {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} أفضل من هذا{........لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}[آل عمران:15] ثم فصل الله -تبارك وتعالى- معنى الذين اتقوا {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[آل عمران:16]{الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}[آل عمران:17].
ثم مجيء إلى القضية الأساسية، القضية المحورية فى الدين، التى هي الأمر الذي أقيمت عليه كل هذه السماوات والأرض، قامت على هذه قضية محورية، وهو أن الله هو الله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- هذا القضية الأساسية، فى هذه السورة بدأ الله -تبارك وتعالى- بيان هذه القضية بشهادته -جل وعلا- قال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18]
هذه قضية القضايا، والقضايا كلها، أعظم معلومة فى الوجود كله، الله يشهد بها -سبحانه وتعالى- وهى أعظم معلومة لأن خلق السماوات والأرض كان على أساسها، لم تخلق السماوات، والأضر هذه كلها إلا لأجل هذه القضية، ومن أجلها من أجل الإعلان بأن الله خالق السماوات، والأرض، وبارؤها، وخالق العالمين، ورب العالمين هو الله الذي لا إله إلا هو، فهذه هي قضية القضايا، وأمها؛ فلم توجد الشمس، ولا القمر، ولا النجوم، ولا الكواكب، ولا البشر، ولا الإنس، ولا الجن، ولا الملائكة إلا من أجل هذه القضية الأساسية، هذه هي أم القضايا، وأم الموضوعات، وهذا أعلى، وأشرف قضية فى العلم.
قال -جل وعلا- {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ........}[آل عمران:18] الشهادة جاء من الحضور، والشهود، وأركان الشهادة نظر ثم بعد ذلك إدلاء بمقتضى هذا النظر، نقول شهد فلانُ بهذا الأمر بمعنى أنه أقر بكذا وكذا، ولابد أن تكون الشهادة عن علم، وعن بصر، الله -تبارك وتعالى- يخبر عباده بأنه يشهد والشهادة هنا من الله -تبارك وتعالى- شهادة بعلمه، وإقراره -جل وعلا- وقوله.
قال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ........}[آل عمران:18] أنه الرب الإله -سبحانه وتعالى- لا إله إلا هو، لا إله إلا هو على الحقيقة؛ فهو الإله حقًا، وليس هناك غيره إله يستحق أن يُسمى إله، وكل من سُمى إله غير الله فهو كذب باطل، ظنُ لا حقيقة له، من زعم أن هناك إله مع الله فهذا كذاب، ومن قال إني إله مع الله كذاب.
لأن الإله لا يكون إلهاً إلاً اذا كان خالقاً، رازقاً، قادراً، يحي، يميت، يملك شأن وأمر من يعبده؛ فهذا الذي يستحق يذل العابد له، يخضع له، يركع له، يسجد له، يأتمر بأمره، يقول له افعل ولا تفعل لأنه ربه إلهه خالقه، أما اذا كان هذا المعبود لا يملك لعابده لا نفع، ولا ضر، ولا حياة، ولا موت؛ فكيف يكون إلهه؟ كيف يعبد الإنسان من لا يملك له نفعاً ولا ضراَ؟ إن فعل فهذا من ضلاله؛ فمن عبد الشمس؛ من عبد القمر لا تملك لعابدها شيئاً، من عبد الملائكة، من عبد الجن، من عبد وثنا، من عبد وليا، من عبد أي إله له من دون الله، من عبد عيسى بن مريم ، ماذا يملك عيسى، لنفسه من النفع، والضر فضلاً عن أن يملك لغيره، ما فى أحد يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فضلا عن يملكه لغيره؛ فكل إله دون الله فباطل {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران:18] لهذه الآية إن شاء الله وقفة نعيش فى ظلالها فى الحلقة الآتية إن شاء الله.
أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه.