الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على رسوله الأمين وعلى آلة وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله –تبارك وتعالى- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُون}[آل عمران:23]{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُون}[آل عمران:24]{فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون}[آل عمران:25].
يُعجّب الله –تبارك وتعالى- نبيه محمداً –صلى عليه وسلم- من حال هؤلاء اليهود والنصارى الذين آتاهم الله وعلمهم نصيباً من الكتاب المنزل إليهم -التوراة والإنجيل- وهم يُدعون إلى كتاب الله تعالى ليحكم بينهم، ثم مع هذا، مع ما عندهم من علم يتولون عن الإيمان بالله –تبارك وتعالى- واتباع الرسول الخاتم المبشر به في التوراة والإنجيل وهم معرضون عن ذلك.
{أَلَمْ تَر}َ، هذا تعجيب من الله –تبارك وتعالى- للنبي المخاطب بهذا القرآن، ألم تر ألم تعجب ألم تنظر إلى حال هؤلاء الذين أُوتوا نصيباً من الكتاب، أُوتوا أُعطوا نصيباً من الكتاب، الكتاب هنا الذي منزل عليهم، التوراة والإنجيل، {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ}، يدعون إلى كتاب الله القرآن المنزل من الله –تبارك وتعالى- ليحكم بينهم، {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُون، يتولى فريق منهم عن الإيمان، فالذين آمنوا بالنبي من اليهود كانوا قليلا، وأما النصارى فإن كثير منهم آمن بالنبي، وكثير منهم أعرض، قال –جلا وعلا- {........ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُون}[آل عمران:23] عن إتباع الحق.
ثم بين الله –تبارك وتعالى- السبب في إعراضهم عن هذا الحق واختيارهم الكفر على الإيمان {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُون}[آل عمران:24]، ذلك الكفر والإعراض عن كتاب الله –تبارك وتعالى- والإيمان بالنبي الخاتم –صلوات الله وسلامه عليه- إنما جاء منهم بدعوة كاذبة ادعوها وبعقيدة باطلة اعتقدوها وهى أن الله لا يعذب أحداً من بني إسرائيل في النار إلا أياماً معدودات مهما ارتكب من الكفر والإثم، ذلك بأنهم قالوا {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ}، أي مهما ارتكبنا من المعاصي والآثام فإننا لا نمكث في النار إلا أياما قليلة، ثم لابد أن نخرج منها إلى الجنة.
قال اليهود نحن شعب الله الذي اختاره للهداية وبوركنا ببركة إبراهيم وببركة إسرائيل، والله –تبارك وتعالى- لا يحاسبنا على أعمالنا إلا أن يدخلنا في النار أياما معدودة ثم بعد ذلك يكون مآلنا إلى الجنة، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ}، قال –جل وعلا- {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُون}، غرهم هذا الذي افتروه في دينهم فارتكبوا الكفر والآثام كلها وظنوا أن الله –تبارك وتعالى- لا يُخَلدهم في النار بهذا الكفر، علماً أن هذه الدعوة التي يدعونها ليست من الله –تبارك وتعالى- في أن الله لا يعذبهم على ذنب إلا عذاباً قليلاً.
قال –جل وعلا- {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ}، كيف حالهم، وكيف الأمر إذا جمعهم الله –تبارك وتعالى- ليوم القيامة والله أخبر بأن هذا اليوم لا ريب فيه لا شك فيه أنه سيجمعهم فيه ولا يتخلف أحد منهم.
{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون}، وُوفيت أُعطيت جزائها وافياً كاملاً، كل نفس أيا كانت من بني إسرائيل أو من غيرها، كل نفسٍ سيجازيها الله –تبارك وتعالى- بجزائها الكامل ما كسبت من خير أو شر {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون، والحال أن الذي ارتكبوه إنما هو كفر والكفر مخلِدٌ للنار مهما كان فاعله.
ثم بين الله –تبارك وتعالى السبب أيضا الذي يعني منعهم من الإيمان بمحمدٍ –صلوات الله وسلامه عليه- وهو أنهم رأوا أن الملك قد تحول من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل إلى العرب. قال –جل وعلا- {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}[آل عمران:26]{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب}[آل عمران:27].
هنا يعلن الله –تبارك وتعالى- أن الملك كله له –سبحانه وتعالى- {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ}، أمر من الله –تبارك وتعالى- لرسوله ودعاء إلى الرب –تبارك وتعالى- وإخبار بأن الله مالك الملك، الملك كل ما سوى الله، كل ما سوى الله فهو ملك لله –تبارك وتعالى- العرش والكرسي والسماوات والأرض وكل العالمين من الملائكة والجن والإنس وما بين أيديهم وما خلفهم، هذا كله ملك الله –تبارك وتعالى-، الله يملك هذا الملك ذاتاً فهو الذي أنشأه وأخرجه من العدم يملكه تصريفاً –سبحانه وتعالى- فهو الذي يصرفه كيف يشاء –سبحانه وتعالى- .
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء}، الملك في هذه الأرض سواء كان ملكا دنيويا أو ملكا في الدين ووراثة للدين كله لله –تبارك وتعالى- {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء}، فهذا التصريف إنما هو لله –تبارك وتعالى- تصريف من إعطاء الملك من سلب هذا الملك، إنما هو للرب –تبارك وتعالى- وهذا فيه رد على اليهود الذين قالوا بأنه لا يُنزع الملك من بني إسرائيل ولا تنزع النبوة منهم بل تبقى فيهم إلى الأبد، فأخبر –سبحانه وتعالى- أن هذا لله –جل وعلا- {وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء}، أن هذا أيضا تصريف بالعز والذل إنما هو لله –تبارك وتعالى-، {ِيَدِكَ الْخَيْرُ، الخير كله بيدك، بيد الله –تبارك وتعالى- {إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}، تصريف الله –تبارك وتعالى كله خير، يعني بالرفع والخفض، بالعز والذل، بإعطاء المك ونزع الملك، كله لا شك أنه خير، فإن تصريف الله –تبارك وتعالى- هو خير وهو المقتضى حكمته وعدله، ورحمته –سبحانه وتعالى- {إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}، لا يعجز الله شيء، لا يعجز الله شيء–سبحانه وتعالى- فهو على كل شيء ومنه هذا على كل شيء قدير.
ثم أيضا من أنواع التصريف في الخلق {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب}[آل عمران:27]، هذا تصريف الرب –تبارك وتعالى- الإيلاج: الإدخال، يدخل الليل في النهار ويدخل النهار في الليل، دخول إما دخول في الوقت أو في المكان فإن الأرض يعتبرها ليل ونهار، فالمكان الذي يدخله الليل يدخله النهار بعد مدة، النهار يزيح الليل ويحل محله وهكذا دواليك جريان الليل والنهار{........يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا........ }[الأعراف:54]، يغشي الليل النهار، فالنهار يغطي ما يغطى الليل ثم يأتي هذا فيغطي محل هذا فيُدخل هذا في مكان هذا بنسبة الأرض فيعتبر الأرض ليلا ونهارا.
وكذلك في الوقت، صيفاً وشتاءات على سطح هذه الأرض، هذا يأخذ من هذا، فالليل يأخذ من وقت النهار في الشتاء والنهار يأخذ من الليل في الصيف وهكذا هذا يأخذ من وقت هذا، فهذا الذي... القادر على هذا الفعل على إيلاج الليل في النهار وإجراءهما على الأرض بهذه الصورة هو الرب الإله العظيم الذي لا إله إلا هو، لا يقدر على هذا إلا الله –سبحانه وتعالى- والناس يرون الآن من هذه القدرة أمر عجيب فإنهم يرونه رأي العين بعد أن كانوا يعلمونه علماً يرونه الآن رأي العين بما أقدرهم الله –تبارك وتعالى- ممن آلاتهم العظيمة حيث ارتفعوا إلى خارج هذه الأرض وأصبحوا يرون كيف يجري الليل والنهار على ظهر هذه الأرض.
{وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيّ}ِ، وهذا عمل دؤوب في كل يوم في ملايين الملايين من المخلوقات تخلق وتحيا، وكذلك الملايين تموت وتفنى في حركة دائبة في الحياة والموت، {تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، كما يخرج الله –تبارك وتعالى- قال أهل العلم النخلة من النواة، والطفل من النطفة، وكل هذا من العدم يخرجه الله –تبارك وتعالى- فالعدم موات ثم يخرج الله –تبارك وتعالى- منه الحياة، ثم بعد الحياة يكون الموت .
{........وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب}[آل عمران:27]، بغير حساب بغير عد، ترزق من تشاء من رزق هذه الحياة بغير عد، فهذا كذلك من عطائه وفعله –سبحانه وتعالى- إذن التصريف كله له كما أن الملك ذاته لله فالتصريف في الملك أيضاً لله –تبارك وتعالى—إحياء وإماته، إغناءاك وإفقاراً، إعزازاً وإذلالاً، وكل أنواع التصريف كذلك، {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى}[النجم:42] {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى}[النجم:43] {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا}[النجم:44]{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَوَالأُنثَى}[النجم:45] {مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى}[النجم:46] {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى}[النجم:47] {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى}[النجم:48] {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى}[النجم:49] {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى}[النجم:50] {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى}[النجم:51] {وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى}[النجم:52] {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى}[النجم:53] {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى}[النجم:54] {فَبِأَيِّ آلاَء رَبِّكَ تَتَمَارَى}[النجم:55].
فالفعل كله والتصريف كله لله –تبارك وتعالى- هو الذي يتصرف في عباده وفي خلقه كما يشاء –سبحانه وتعالى- فهذه الآية رد على اليهود والنصارى الذين قالوا لا يخرج الملك والنبوة من بيت إسرائيل فأخبرهم ربنا –سبحانه وتعالى- أن المك كله له –سبحانه وتعالى- وأنه يتصرف في عباده كما يشاء –جل وعلا- بحكمته ورحمته وعلمه وإحسانه –سبحانه وتعالى-.
بعد هذا تأتي المفاصلة بين أهل الإيمان وأهل الكفر، لما اتضح السبيل وأُقيمت الحجة على هؤلاء المعاندين المكذبين سواء كانوا طلاب الدنيا الذين زينت لهم هذه الشهوات {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ........}[آل عمران:14]، هؤلاء الذين انصرفوا إلى الدنيا وتركوا الآخرة أو الذين تمسكوا بدينهم الباطل بما هم عليه من الباطل وما افتروه في هذا الدين وتركوا الدين الحق واتباع النبي محمد –صلوات الله وسلامه عليه-بعد أن أُقيمت يعني لهم الحجة عند ذلك أمر الله –تبارك وتعالى-أهل الإيمان أن يكون بينهم مفاصلة مع الكفر، فلا موالاة بين كفرٍ وإيمان.
قال –جل وعلا- {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِير}[آل عمران:28]، نهي بصيغة الأمر والجزم، النهي الجازم {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءمِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِين}، إياكم أُحذركم أن يتخذ أهل الإيمان الكافرين أولياء، أولياء أنصار أحباب، يوالونهم، ينصرونهم، يكونون معهم يُطيعونهم في دينهم.
{لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ، أي يوالوهم دون إخوانهم المؤمنين، وهذا إيجاب لأن يكون المؤمنون أولياء بعضهم مع بعض وأن تترك ولاية الكفار {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ، نهي حازم وجازم وأمر من الله –تبارك وتعالى- ثم تحذير ووعيد بعد هذا، قال {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ}، ومن يفعل ذلك يعني ومن والى الكفار دون أهل الإيمان {فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ} ، ليس من الله في شيء ليس بينه وبين الله سبب، كأنه قطع صلته مع الله –تبارك وتعالى- {فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ، ومعنى أنه ليس من الله في شيء قد انتهت صلته وأمره مع الله –تبارك وتعالى-.
ثم قال –جل وعلا- {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً، إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً أي من الكفار تقاه، فيكون المؤمن في حالة من الضعف خوفاً على دمه، على ماله، فيضطر إلى أن يخفي يعني إيمانه حتى يجعل الله –تبارك وتعالى- له فرجاً ومخرجاً، {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً، إخفاء الدين والإسرار به كما كان الشأن في بدء الإسلام مع النبي – صلوات الله وسلامه عليه- فإن كثيراً من أهل الإيمان أخفوا إيمانهم عن الكفار، هذا أمر، لكن مقالة الكفر فإنها ليست هنا داخلة لا يحوز المؤمن أن يقول مقالة الكفر إرضاءاك للكفار إلا في حال ضرورة الموت فقط، كما جاء في قول الله –تبارك وتعالى- {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم}[النحل:106]{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين}[النحل:107]، فالنطق بكلمة الكفر لم يبحها الله –تبارك وتعالى- للمؤمنين إلا في حال ضرورة الموت أن يكون معرضاً للموت إما أن يقول هذه الكلمة وإما أن يُعذَّب حتى الموت، كما كان الشأن في بلال وسمية وعمار ونحوهم فإنهم عُذبوا.
أما بلال فلم يقل كلمة الكفر قط وإن عُرض على الموت كما كان يفعل معه أُمي ابن خلف، يضع الصخرة العظيمة على صدره ويقول له لا أرفع عنك حتى تكفر بمحمد، فيقول أحدٌ أحد، ثم يقول والله لو أعلم كلمةً هي أغلظ لك من هذا لقلتها، وأما عمار فإنه تحت التعذيب الشديد يعني سمح له النبي بأن يقول، يعني أن يجيبهم إلى ما يدعونه إليهم من قول كلمة الكفر باللسان، وأما سمية –رضى الله تعالى عنها- فإنها ماتت تحت التعذيب دون أن تقول كلمة الكفر، علماً قيل لها إن النبي قد سمح بذلك، فقالت والله لا أُدنس لساني بكلمة الكفر بعد إذ طهره الله –تبارك وتعالى- منه.
الشاهد أنه ليس من اتقاء الكفار أن يقول لمؤمن كلمة الكفر إلا ضرورة، أما الاستتار بالإيمان أن يستتر بالإيمان بدون أن يقول كلمة الكفر فهو مباح، ولكنه ليس مباحاً أبدا وإنما مباح لحد، وذلك أن الله –تبارك وتعالى- أوجب على أهل الإيمان بعد ذلك الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، كما جاء في قول الله –تبارك وتعالى- {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا}[النساء:97]{إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلا}[النساء:98]{فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}[النساء:99]، فهؤلاء الذين استتروا بإيمانهم طيلة الوقت ولم يصلوا ولم يقوموا بأي أمر من أمور الدين وبقوا في دار الكفر مصانعي للكفار متقين لغضبهم فإن الله –تبارك وتعالى- أخبر بأنهم يوم القيامة من أهل النار، فقول الله {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاة}، يعني أن تحذروا منهم حذرا ما فتخفوا الإيمان، لكن أن تقولوا كلمة الكفر لا يكون هذا إلا بضرورة الموت.
ثم قال –جل وعلا- {........وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِير} [آل عمران:28]، هذا وعيدٌ إثر وعيد على موالاة الكفار قال –جل وعلا-وَيُحَذِّرُكُمُ {اللّهُ نَفْسَهُ}، يعني يحذركم الله من نفسه وذلك أن عقوبة الله شديدة وغضبه شديد ومؤاخذته شديدة، فالله يحذركم من الله، من نفسه –سبحانه وتعالى-يحذركم أن يصيبكم عذابه وعقوبته إن اتخذتم الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ثم {وإلى الله المصير}، يعني اعلموا أن مصيركم إلى الله لن تفلتوا ولن تفوتوا، بل أنتم راجعون إليه فيحاسب كلٍ على عمله.
ثم أيضاً وعيد إثر وعيد{قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}[آل عمران:29]، هذا يستمر السياق في بيان التهديد والوعيد على موالاة الكفار فيقول الرب –تبارك وتعالى- {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ}، أيُّ أمر تخفوه أو تعلنوه يعلمه الله، فالله يعلم ما أخفيتم وأكننتم في صدوركم، فلو أضمر هذا المسلم ما في صدره محبة الكفار وموالاتهم حتى وإن لم يظهرها فإن الأمر مفضوح معلوم عند الله – تبارك وتعالى-.
{قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ}، ليس فقط يعلم الذي تبدونه من عملكم وما تخفونه في صدوركم، بل كل يعني ما في السماوات وما في الأرض لا يغيب شيء منه عن علم الله –تبارك وتعالى- {وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}، هذا من قدرته من سعة قدرته –سبحانه وتعالى- وأنه على كل شيء قدير أنه لا يعجزه أن يعلم أمراً ما، بل يعلم كل ما في السماوات وما في الأرض –سبحانه وتعالى-.
ثم أيضاً وعيد {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَاد}[آل عمران:30].
يوم تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا، كل نفس على الإطلاق، دون أن تكون هناك نفس ما لا تعلم هذا، بل كل نفس خلقها الله –تبارك وتعالى- يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا}، الذي عملته من خير قد أحضره الله –تبارك وتعالى- فلا ينقص الله –تبارك وتعالى- منه شيئاً، {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:40]،إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ من الخير لصاحبها، لو أن إنسان فعل مثقال الذرة من الخير فإن الله –تبارك وتعالى- لا ينقصها لصاحبها بل يأتي بها يوم القيامة.
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا}، وهذا حث منه –سبحانه وتعالى- على فعل الخير، فإن من يريد أن يفعل الخير إذا علم أنه لا يضيع وأنه بيد الرب –تبارك وتعالى- وأن الله لا يضيع منه شيئاً وأنه سيأتي يوم القيامة ويعطيه الله عليه جزاءه، فإنه ينشط للعمل، كذلك {وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا}، هذه النفس الذي عملته من سوء سيكون محضراً كذلك، هو محضر كذلك ولكن يتمنى صاحبه أن لا يكون قد حضر كل هذا السوء الذي فعله.
تَوَدُّ أي هذه النفس التي فعلت السوء {لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدً، لو أن بينها وبين هذا الذي فعلته أمدا بعيدا، أمد إما من السنين، أمد من السنين يعني ألا يراه إلا بعد سنين طويلة، أو أمد من المكان، يكون في مكان بعيد جداً لا يأتي إليه ،ولكنه سيأتي وهذا منتهى التحذير أن أي فعل من الشر لابد أن يحضر ولابد أن يأخذ فاعله جزاءه عليه، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه}[الزلزلة:7]{وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه}[الزلزلة:8]، كل هذا يراه يوم القيامة.
ثم قال –جلا وعلا- معقباً على ذلك {وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ} مرة ثانية، يعاد التحذير هنا في هذه الآية مرة ثانية أيضا لتأكيد الأمر، وأن الله يحذركم من نفسه من عقوبته –سبحانه وتعالى- الله يحذر من الله، يحذركم الله –تبارك وتعالى- من عقوبته لأن عقوبة الرب عقوبة عظيمة، والله هو الذي يحذركم.
ثم قال –جل وعلا- {وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَاد}، شديد الرأفة والرحمة بعباده، ومن أجل هذا يحذرهم، تكرير هذا التحذير هو من شدة رأفته ورحمته –سبحانه وتعالى- والحال والمثال والمثال كأن يعني أب رحيم بابنه ويرى أمر مخوف هو قادم عليه فيظل يحذره، احذر هذا، احذر هذا، احذر هذا، هذا شرٌ عظيم، احذروا منه، هذا التكرير للتحذير من المحب لمن يحب ومن المشفق لمن يشفق عليه، هذا دليل شفقته ودليل رحمته، ولله المثل الأعلى–سبحانه وتعالى- من يعني أدلة شفقته ورحمته بعباده أن يكرر لهم التحذير تلو التحذير، احذروا هذا، احذروا هذا، احذروا هذا، لأن في هلاك وفي دمار وفي عقوبة شديدة، فما ترك الله –تبارك وتعالى- الناس يعني في عماهم ولم يحذرهم ثم بعد ذلك، يعني فقط يأمرهم وينهاهم دون يعني التحذير والوعيد الشديد والبيان للمخاطر التي تتأتى، ثم بعد ذلك يؤاخذهم ويعاقبهم دون هذا التحذير والتهديد، فالأمر كأن الإنسان أُخذ بدون ما يدري أن الأمر على هذا النحو، لم يكن يظن الأمر على هذا النحو، فإذا جاءه الأمر وجاءه الوعيد والتهديد وأن في هذه عقوبة وفيه عقوبة وهذه عقوبته الرب، الإله الذي لا إله إلا هو، أنت خالفته، احذر هذا الأمر، بعد ذلك خلاص يكون الله قد أعذر لعباده، شهد أن قول الله {وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادهذا رأفته ورحمته تلوين الوعيد والتهديد على هذا النحو حتي يكون الإنسان على بصيرة ويراعي هذا الأمر ويتخذ له العدة والأهبة.
ثم بعد ذلك، بعد هذا التوجيه والتحذير للفئة المؤمنة أن تتخذ اليهود والنصارى أولياء بعد كفرهم، كفرهم عن عناد وعن بصيرة بأنهم كفار وادعائهم بأنهم لن تمسهم النار إلا أيام قليلة ثم يخرجون، كما قال يعض اليهود للنبي، قالوا نحن لا ندخل النار، ندخلها أيام قليلة ثم تخلفوننا فيها، يعني أن العالم كله يخلفون فيها وأما هم لا يبقون في النار إلا أيام قليلة، فهذا من افترائهم وكذبهم لما جاءهم الرد على هذا وجاء تحذير المؤمنين من طريقهم بعد ذلك أعاد الله –تبارك وتعالى- يعني الحجة أيضا وإلزام اليهود والنصارى بالحجة وهو في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحبائه وأن الله يحبهم ومن أجل أنه يحبهم كان من شأنهم ما كان ولا يعذبهم.
قال –جل وعلا- {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم}[آل عمران:31]، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ} معشر اليهود والنصارى كما تدعون فإن طريق محبة الله –تبارك وتعالى- هو أن تتبعوا هذا النبي الخاتم الذي إخطاره الله –تبارك وتعالى- وأرسله الله –تبارك وتعالى- إلى العالمين وأنتم أول هؤلاء الناس وأنتم أحق الناس باتباع هذا النبي –صلوات الله وسلامه عليه- {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم}[آل عمران:31]{قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِين}[آل عمران:32]، يكون لهذه الآيات مزيد من شرح وتفسير الحلقة الآتية إن شاء الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.