الأربعاء 16 شوّال 1445 . 24 أبريل 2024

الحلقة (88) - سورة آل عمران 31-41

الحمد لله ربِّ العالمين, وأُصَلِّى وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

 وبعد فيقول الله –تبارك وتعالى- : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم}[آل عمران:31], {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِين}[آل عمران:32]، هذا إخبارٌ ونداءٌ مِن الله -تبارك وتعالى- وأَمْرٌ لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أنْ يدعوا هؤلاء الزاعمين بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنَّ الله يحبهم وبالتالي لا يعذبهم إلا قليلاً مهما ارتكبوا، لن يعذبهم في النار إلا أياماً معدودات، هذا ادِّعَاء اليهود والنصارى، كلٌ يدعي لنفسه، اليهود يدعون هذا لأنفسهم والنصارى لأنفسهم، يدعوهم الله –تبارك وتعالى- أنهم إنْ كانوا يحبون الله –تبارك وتعالى- على الحقيقة فهذا طريق محبته أنْ يتبعوا النبي الخاتم –صلوات الله والسلام عليه- الذي بَشَّرَت به الأنبياء، بَشَّرَ به موسى وبَشَّرَ به عيسى والذي أُمِرُوا أنْ يؤمنوا به ويتبعوه وينصروه –صلى الله عليه وسلم-, {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ}, كما تدعون يا معشر اليهود والنصارى, {فَاتَّبِعُونِي}, محمد –صلوات الله والسلام عليه-, {يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، هذا طريق محبة الله -تبارك وتعالى- اتبعوا هذا النبي، آمنوا به، ادخلوا في الإسلام، سيروا في هذا الطريق فإنَّ هذا هو طريق الله وصراط الله -تبارك وتعالى- وإنَّ محمد هو اختيار الله -تبارك وتعالى- اختاره الله –تبارك وتعالى- وفَضَّلَه على العالمين وأرسله رسولاً للبشر أجمعين، وأنتم أَوْلَى الناس أنْ تؤمنوا به لما عندكم مِن العلم به ولما عندكم مِن العلم بالنبوة والأنبياء وتعرفون صِدِق هذا النبي –صلوات الله والسلام عليه- وعندكم صفته، {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}، إنْ اتبعتم هذا النبي أحبكم الله –تبارك وتعالى- وكنتم كما ادعيتم بالفعل أنكم أحباب الله وأنَّ الله يحبكم ويغفر لكم ذنوبكم ما سلف مِن معاصيكم وذنوبكم، يغفرها يمحوها –سبحانه وتعالى ويسترها عنكم.

 {وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيم} تجاوز عن كفركم وعنادكم السابق وتوليكم، يغفر لكم هذا، {غَفُورٌ}، وهذا لأنَّ مِن صفة الرب –تبارك وتعالى- أنه {غَفُورٌ}، كثير المغفرة -سبحانه وتعالى- رحيم بعباده، ولذلك يقبل منهم مَن سلف منه الإجرام والكفر والعناد والبعد، فإنه إذا رجع إليه يقبله -سبحانه وتعالى- ويغفر له سيئاته تلك ويتجاوز عن هذا، هذا مِن رحمته –سبحانه وتعالى- ، {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ}، قل لهم أطيعوا الله والرسول، طاعة الله والرسول طاعة واحدة، لأنَّ مَن يُطِعِ الرسول فقد أطاع الله، أطيعوا الله وذلك لأنَّ الله هو الذي يأمركم -سبحانه وتعالى- والرسول الرسول محمد –صلوات الله عليه وسلم- وطاعة النبي طاعة الرسول الذي أرسله الله هو طاعة لله، لأنَّ هذا الرسول ما جاء من عند نفسه، وإنما أرسله الرب، الإله -سبحانه وتعالى- الله هو الذي أرسله، فطاعة النبي طاعة لله -تبارك وتعالى-, قال -جلَّ وعَلا- : {فإِن تَوَلَّوْاْ},أي عن طاعة الله وطاعة رسوله والإيمان بهذا النبي الخاتم {فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِين}، إذن هم كفار، إذن يكونون قد كفروا والله -تبارك وتعالى- {لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِين}،وهذه مفاصلة ما بعدها مفاصلة، وإيقاف على جلية الأمر وحقيقته، تريدون بالفعل أنْ تكونوا أحباب الله فإذن هذا طريق الله هذا صراط الله -تبارك وتعالى- وهذا رسوله الذي اختاره ليسير أمام المؤمنين فيه إلى الله -تبارك وتعالى- وهذا طريقه الذي لا طريق له سواه -سبحانه وتعالى-, {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين}[آل عمران:85]، {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ} عن الطاعة {فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِين}، إذن دعواهم في أنَّ الله يحبهم دعوة كاذبة لأنهم بهذا يكونون كفار، كفروا بالله -تبارك وتعالى- الآمر لهم بأنْ يتبعوا هذا النبي الخاتم –صلوات الله والسلام عليه-.

ثم بدأ الله -تبارك وتعالى- في بيان فضله ونعمته على مريم -عليها السلام- وابنها عيسى وفي هذا حِجَاج ونقاش للنصارى في هذا الأمر وبيان حقيقة الأمر ومفاصلة لهم بالبيان والإيضاح والبراهين وضع كل أمر في نصابه، فأعلن الله أولًا قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِين}[آل عمران:33], {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم}[آل عمران:34]، يُخْبِرُ الله -سبحانه وتعالى- ويعلن للعالمين أنه {اصْطَفَى آدَمَ}, الاصطفاء هوة الاختيار والاجتباء وهذا اختيار نُبُوَّة ورحمة ومحبة ودين، فآدم مُصطفى مِن الله
-تبارك وتعالى- وذلك أنَّ الله -تبارك وتعالى- فَضَّلَهُ فهو أبو البشرية كلها، خلقه الله -تبارك وتعالى- بيديه، أسجد له ملائكته، عَلَّمَهُ أسماء كل شيء، هو نبي منه إلى أبنائه، هو نبي مُكَلَّم كَلَّمَهُ الله -تبارك وتعالى- ففضله عظيم على العالمين، هو أبو البشر -صلوات الله والسلام عليه- فالله آدم واصطفى نوح، نوح أول رسول أرسله الله -تبارك وتعالى- إلى أهل الأرض، سَمَّاهُ الله عبداً شكورا، آتاه الله النبوة والرسالة وجعله مِن أُولِى العزم مِن الرسل فقد مكث في قومه ألف سَنَة إلا خمسين عاماً، خمسون وتسعمائة سَنَة يدعو إلى الله -تبارك وتعالى- ويصبر على الأذى في طريقه، اصطفاه الله وأعلى منزلته وجعله أول رسول إلى أهل الأرض، {وَآلَ إِبْرَاهِيمَ}، آل إبراهيم اصطفاهم الله -تبارك وتعالى- وآله إبراهيم وزوجه سارة وهاجر وابناه إسماعيل بِكْرُهُ النبي وإسحاق الابن الثاني مِن سارة، هؤلاء كلهم آله، وقد بارك الله -تبارك وتعالى- فيهم وبارك لهم، فجعل الله –تبارك وتعالى- ابني إبراهيم إسماعيل وإسحاق كلاهما نبي منه -سبحانه وتعالى-، وبارك الله -تبارك وتعالى- في زوجتيه هاجر وسارة، فكانت هاجر أُم أُمَّة عظيمة هي أُم العرب جميعهم، ابنها إسماعيل أبو العرب كلهم، قحطانيون وعدنانيون، كلهم مِن نسله، ثم مِن نسله النبي الخاتم –صلوات الله والسلام عليه-, وإسحاق كان منه أمة عظيمة، فهو أبو يعقوب وكان نبياً، ثم يعقوب بعد ذلك، كل الأنبياء الذين جاءوا بعد ذلك في بني إسرائيل كلهم مِن هذا الفرع مِن إسحاق إلى عيسى آخرهم عيسى ابن مريم-عليه السلام- فقد اصطفاه الله -تبارك وتعالى- وأعطاه كل هذه الفضائل.

 {وَآلَ عِمْرَانَ}, وهم عمران وزوجته وابنتهما مريم -عليها السلام- وابن مريم عيسى ابن مريم هؤلاء كلهم آل عمران اصطفاهم الله -تبارك وتعالى- فعمران العبد الصالح وزوجته المرأة الصالحة التي نذرت ما في بطنها لله -تبارك وتعالى- وكان منها مريم التي هي سيدة نساء العالمين، لا أفضل منها مِن النساء وهي أفضل مِن كثير مِن الرجال، فقد كَمُلَت على كل النساء لم يكمل مِن النساء غيرها وغير خديجة -رضى الله تعالى عنها- وابنها جعله الله -تبارك وتعالى- فَضَّلَهُ بالرسالة وبما أجرى الله –تبارك وتعالى- عليه مِن المعجزات جعله نبياً لبني إسرائيل، هو عبد الله -تبارك وتعالى- وكلمته ومعجزة أخرجها الله -تبارك وتعالى- وجعله آية للعالمين، إذ أوجده مِن امرأةٍ بلا زوج فهو أُم بلا أب -عليه السلام-

فهؤلاء يخبر الله -تبارك وتعالى- أنَّ هذه البيوت الطيبة الصالحة فَضَّلَهَا الله -تبارك وتعالى على سائر بيوتات وعوائل وقبائل الأرض، هذا مِن فضله وهذا اختيار الله -سبحانه وتعالى- فالنبوة و التفضيل اختيار، اختار الله -تبارك وتعالى- هذه البيوتات الطيبة وفَضَّلَهَا على العالمين بما جَعَلَ فيها مِن النبوة ومِن الرسالة ومِن الخير ومِن الفضل ومِن الصلاح ومِن التقوى، ثم بَيَّن الله –تبارك وتعالى شأن آل عمران فبدأ بزوجته، قال : {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم}[آل عمران:35]، انظر فعل هذه المرأة الصالحة إنها تتمنى ولد لا لنفسها، وإنما لتهبه لله -تبارك وتعالى- ولتوقفه على عمل الخير وخدمة بيت الله -تبارك وتعالى-, {إِذْ قَالَتِ}, وقد حملت, {رَبِّ}, أي يا ربي، {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا}, {نَذَرْتُ لَكَ}, النذر هو إيجاب أمر لله -تبارك وتعالى- نَفْس لم يجبه الله -تبارك وتعالى- أرادت أنْ يكون ما في بطنها وتمنت أنْ يكون ولداً أنْ تهبه لبيت الله –تبارك وتعالى- {مُحَرَّرًا}, أي أنه حر للبيت فقط، للعبادة فقط، ولا يكون لشأن من شئون الدنيا وإنما توقفه وقفاً على خدمة البيت لله -تبارك وتعالى- {فَتَقَبَّلْ مِنِّي}, أي تقبل، هذا نذري وهذا هديتي وعطائي فتقبله مني, {إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم}، السميع لدعائي العليم بحالي وهذا منتهى انكسارها وإخلاصها لله -تبارك وتعالى- وتقديمها هذا الأمر الذي نذرته لله -جلَّ وعَلا- مخلصة في ذلك وداعية لله -تبارك وتعالى- أنْ يتقبل هذا الأمر منها.

قال –جلَّ وعَلا- : {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى}, {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} ، وضعت هذا الحمل الذي في بطنها فإذا به أُنْثَى، فقالت كالمتفجعة أو المتوجعة أو المعتذرة قالت : {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى}, وقد كانت ترجو أنْ يكون ولداً ليخدم البيت، ولكن هذا نذر لا يجوز له أنْ تعود فيه فإنها قالت : {مَا فِي بَطْنِي}، الذي في بطني أنا قد نذرته لك، {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى}, قال –جلَّ وعَلا- {وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}، أي ليست هنا تخبر الله خبر عن عدم علمه بذلك، بل الله -تبارك وتعالى- أعلم بالذي وضعت، {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى}، أي هي قالت هذا أنه ليس الذكر كالأنثى في خدمة البيت، وكنت أتمنى أنْ يكون ذكراً يخدم، ثم قالت : {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ}، سميت هذه المولودة مريم، {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم}، دعت لابنتها هذه ولِمَن تلده بعد ذلك، قالت : {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ}, أنت يا رب, {وَذُرِّيَّتَهَا}، العوذ هو الحماية، طلب اللجء والحماية أحميها وأجعلها تلتجئ وتحتمي بك يا رب, {وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم}، وقد أجاب الله -تبارك وتعالى- ، {الشَّيْطَانِ}, إبليس جنده وأعوانه، {الرَّجِيم}, المرجوم، وذلك لأنَّ الله -تبارك وتعالى- رجمه وطرده مِن رحمته -سبحانه وتعالى- ولذلك هو يُرجم دائماً، يُرجم بالقول باللعنة، ويُرجم بالحجارة كذلك، {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم}, قال -جلَّ وعَلا- : {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ........ }[آل عمران:37]، هذا شأن الله -تبارك وتعالى أنْ الله قِبِلَ نذرها وقبل أنها كان نذرها أُنثى هذا خَلْق الله -تبارك وتعالى- وقبول حسن وذلك بأنْ تقبل الله -تبارك وتعالى- عملها وأعد لها ما أعد -سبحانه وتعالى- مِن الأجر والمثوبة لهذا النذر الذي نذرته لله -تبارك وتعالى-.

قال -جلَّ وعَلا- : {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}، أنبت مريم, {نَبَاتًا حَسَنًا}، في النشأة وفي النمو, في الخَلْق فتكون على كمال مِن الخُلُق ومن الخَلْق، {أَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}, كما يُعتنى بالزرع النابت كيف يكون عنايته حتى يخرج سليماً معافاً مِن الآفات، الله -سبحانه وتعالى-, {وَأَنبَتَهَا}, أي هذه المولودة, {نَبَاتًا حَسَنًا}, قال -جلَّ وعَلا- : {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}، جعل زكريا وقيل أنه زوج أختها أو زوج خالتها وهو نبي قومه في ذلك الوقت هذا مِن آخر أنبياء بني إسرائيل، يَكْفُلُهَا وذلك أنهم لما وُلِدَت هذه الفتاة المنذورة للبيت تنافس بنو إسرائيل في كل مَن الذي يكفلها ويأخذها في كفالته وجعل الله -تبارك وتعالى- القُرعة تقع على زكريا لتنشأ في بيت نبي القوم في البيت النبي، قال -جلَّ وعَلا-:  {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} أي بما هيأه الله –تبارك وتعالى- مِن وقوع القُرعة عليه.

قال –جلَّ وعَلا- : {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً}, كان زكريا وهو زوج خالتها وهو الذي كفلها وهو الذي تربت في بيته بعد وفاة أبيها, {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ}, وهو المكان الذي اتخذته في البيت للعبادة, {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا}, ثمار، مِن الثمار أحيانًا تكون غير موجودة في الأرض، التين والعنب ونحو ذلك مِن هذه الثمار يجدها أحياناً في غير وقتها ثم ليس هو الذي أتي بها، {قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا}[آل عمران:37]، كيف وُجِدَ هذا عندك ومِن أين لكِ هذا الرزق وهذه الفاكهة؟ {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ}, أي بغير سبب، {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ}, أنه يوجد عندها مِن الله -تبارك وتعالى- كرامة منه معجزة، عنده بلا سبب يكون منها، فليست ممن يسعى في الأرض ولا يدخل عليها أحد وإنما هي معتكفةٌ في هذا المكان لعبادة الرَّب -جلَّ وعَلا-، {........قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب}[آل عمران:37]، أي عَقَّبَت على هذا وهذا مَن عِلْمِهَا وفقهها, {إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء}, أي مِن عباده, {بِغَيْرِ حِسَاب}, عد، وبغير حساب كذلك بغير احتساب، أنْ يكون قد احتسب هذا مِن هذا الوجه أو مِن هذا الوجه، فيأتيها الله -تبارك وتعالى- به.

قال –جلَّ وعَلا- : {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ}، {هُنَالِكَ}, كأنَّ هذا الأمر الخارق للعادة وهذه الكرامة التي أظهرها الله -تبارك وتعالى- على مريم جعلت زكريا -عليه السلام- يتفكر في الأمر ويطلب مِن الله -تبارك وتعالى أمراً أيضاً على خلاف العادة وهو أنْ يرزقه الله –تبارك وتعالى- بولد وقد كبر سِنّة وامرأته التي تزوجها امرأة عقيم لا تلد، قال -جلَّ وعَلا- : {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء}[آل عمران:38]، رب يا رب، {هَبْ لِي}, أوهب لي أعطني, {مِن لَّدُنْكَ}, مِن عندك أنت, {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}, ولم يحددها قال: {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}, طيبة خَلْقًا وخُلُقًا وديننًا, {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء}، إنك تسمع دعائي، كما قال -تبارك وتعالى- {كهيعص}[مريم:1], {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}[مريم:2], {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا}[مريم:3], {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}[مريم:4], {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا}[مريم:5], {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}[مريم:6]، فقد دعا الله -تبارك وتعالى- بهذا الدعاء في جوف ليل وفي بُعدٍ عن الناس لا يسمعه أحدٌ إلا ربه -سبحانه وتعالى- {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا}[مريم:3]، {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}، أي لم أعهد أنْ تُخَيِّبَ رجائي فيك وتُنِيْلُنِي ما أدعوه، {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي}, أنْ يتسلطوا على بني إسرائيل، {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا}[مريم:5] ، {يَرِثُنِي}, يرثه في العلم والدين والعبادة وقيادة بني إسرائيل، {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}، قال -جلَّ وعَلا- : {هُنَالِكَ}, أي عندما رأى زكريا ما أجراه الله –تبارك وتعالى- على عند مريم مِن خرق العادة ومِن هذه المعجزة وهي وجود فاكهة بلا سبب مِن أسباب الدنيا، دعا زكريا ربه أي دعاه وناداه هذا النداء الخفي قال : {رَبِّ} أي يا ربي, {هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ}, مِن عندك {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء}.

قال -جلَّ وعَلا- : {فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِين}[آل عمران:39]، {فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ}, ملائكة الرَّب -جلَّ وعَلا-, {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ}, عندما كان يصلي في المحراب والمحراب مُعْتَكَف يكون في المسجد يُصَلَّي فيه، {أَنَّ اللّهَ}, أي مفاد نداء الملائكة ومعنى ندائهم, {أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى}, أي يبشرك بأنه سيولد لك مِن زوجك هذه العقيم غلام اسمه يحيى ثم وصف الله يحيى هذا أنه {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ}، أي أنه مِن أهل التصديق بكلمات الله -تبارك وتعالى- وكذلك مُؤَيَد بكلمة مِن الله -تبارك وتعالى- في تأييده ونصره والقيام بدينه، أي أنه نبيٌ مُؤَيَد بكلمة مِن الله -تبارك وتعالى- {وَسَيِّدًا}, في قومه، وهذا الذي كان يريده، مِن أنْ يريد رجل مِن نسله ليقود بني إسرائيل، فهو سيد لهم، {وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِين}، حصور فعول وهو مِن الحصر وهنا الحصر عن النساء أنه ذو إرادة عالية جدًا في كبت نَفْسِهِ وكبت شهوته عن النساء مع كماله في الخلق، قال بعض أهل التفسير أنَّ الحصور هو الذي لا يأتي النساء، بعضهم قال أنَّ هذا خلقًا وهذا مِن خطأ التفسير لأنه ليس في هذا مدح لا يبشره الله -تبارك وتعالى- بـنبي عِنِّين، لا يأتي النساء خلقًا، لا وإنما المدح إنما هو أنْ يكون كامل في الخَلْق، ذَكَر كامل في الذكورية والخَلْق ولكنه مالك لنفسه ومالك لإربه وحصور عن النساء منصرف إلى شأن الآخرة ولا أَرَبَ له في النساء رغبةً وشهوًة وليس خلقًا وجبلة، ثم إنَّ فعول هذا اسم فاعل مبالغة مِن اسم الفاعل، فلا يمكن أنْ تكون وليس هو محصور فهو ليس محصور اسم مفعول وإنما هو حصور فعول فهو مِن فعله وليس مِن فعل الله به، وإنما من فعله الذي أسنده الله إليه.

 قال : {وَحَصُورًا}، وهذا فيه أيضًا صفة مدح ولعله أيضًا مناسب للوقت والزمان فإنَّ هذا الوقت الذي كان فيه زكريا كان قد انتشر الفساد في بني إسرائيل وفسدت نساؤهم وانتشر فيهم الزنا والفجور، فكانت تحتاج إلى نبي حَصُور قائم بالحق، ليقود الناس القيادة السليمة في هذا الوقت الذي عَمَّ فيه الفساد على هذا النحو كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- في وصيته : «واتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإنَّ فتنة بني إسرائيل قد كانت في النساء»، {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِين}، أي أنَّ الله –تبارك وتعالى-  سيجعله كذلك نبيًا مِن الصالحين، أوصاف عظيمة وصف الله -تبارك وتعالى- بها يحيى الذي بَشَّرَ الله -تبارك وتعالى- به أباه زكريا -عليه السلام- بعد هذا الدعاء الذي دعا به، لما جاءته هذه البشرى مِن الملائكة كأنه فرح بها زكريا واستعظمها وتلهف على حصولها وتعجب مِن  حصولها منه وهو على هذه الحال مِن كبر السن وأنَّ امرأته عقيم لم تلد قبل هذا وأصبحت عجوز كذلك عجزٌ
وكبر سن.

{قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ........ }[آل عمران:40]، {قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ}, كيف يكون لي غلام {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ}، ليس شكًا في قدرة الرب على الخلق وإنما تعجب مِن هذا الأمر واستفصال مِن الرب كيف سيكون منه هذا الأمر وهل سَتُخْرَق له العادة على هذا النحو، قال -جلَّ وعَلا- : {قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء}, قال له الرب -تبارك وتعالى- كذلك كهذا الأمر أنْ يخلق منك ولد وأنت في هذه الحال وامرأتك في هذه الحال، هذا فعل الرب -سبحانه وتعالى- وأنه {يَفْعَلُ مَا يَشَاء}, لا يعجزه شيء -سبحانه وتعالى- .

{قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً}, وهذا أيضًا مِن شدة تلهفه أنْ يكون هذا الأمر سيحصل منه، {قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً}, علامة على أنك ستهبني هذا الغلام مني وأنا على هذا النحو، {اجْعَل لِّيَ آيَةً}, علامة على هذا الأمر، قال -جلَّ وعَلا- : {........ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَار}[آل عمران:41]، جعل الله –تبارك وتعالى- له آية مِن نفسه، قال : {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ}، يُحْبَسُ لسانك فلا تستطيع أنْ تتكلم، ليس عن عيب ونَقْص في الخَلْق، وإنما عن حَبْس, قَهْر يفعله الله -تبارك وتعالى بك وأنت سوي كامل الخلَقْ لكن يكون فيك هذا الأمر، وفي الآية الأخرى قال : {........ قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا}[مريم:10]، أي حال كونك سويًا، السوي هو كامل الخَلْق، فمع كمال الخَلق و مع كمال القدرة على الكلام إلا أنك تبقى ثلاث أيام لا تستطيع أنْ تتكلم {إِلاَّ رَمْزًا}، أي لا تكلم الناس ِ{إِلاَّ رَمْزًا}، بالإشارة، الرمز الِإشارة فتشير إشارة، فيكلم الناس بالإشارة شأن من لا يستطيع الكلام، لذلك قال -تبارك وتعالى- في آية مريم قال : {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}[مريم:11]، أوحى إليهم بالرمز بالإشارة، أوحى إلى قومه بني إسرائيل أن سبحوا الله بكرة وعشيًا سبحوه في أنه سيوجد هذه الآية العظيمة.

{قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا}, أي في هذه الأيام وغيرها، {وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا}, اذكر هذا أولًا نعمته, قدرته -سبحانه وتعالى-, إحسانه بك، استجابته لدعائك، {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَار}، سبح الله -تبارك وتعالى- بالعشي والإبكار، أما العشي فإنه مِن وقت الزوال إلى غروب الشمس هذا العشي، وأمَّا الإبكار فإنه وقت الصبح عند طَرَفَي  النهار أي سَبِّح الله -تبارك وتعالى- واختيار هذين الوقتين أول النهار وآخر النهار لأنهما كذلك مِن أدلة قدرة الله - تبارك وتعالى- فأنَّ هذا التغيير في الزمن دليل قدرة الله -تبارك وتعالى-, {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}[الفرقان:62]، أراد أنْ يشكر الله -تبارك وتعالى- {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَار}  أي صباحًا ومساءًا، سَبِّح الرب -تبارك وتعالى-.

نقف عند هذه الآية, ونكمل إنْ شاء الله في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.