الجمعة 20 رمضان 1445 . 29 مارس 2024

الحلقة (89) - سورة آل عمران 42-52

الحمد لله ربِّ العالمين وأُصَلِّى وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله الأمين وعلى أصحابه ومَن اهتدى بهديه وعَمِل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله - تبارك وتعالى - : {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:42], {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43], {ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:44].

يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- عباده ويقول : {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ} أي اذكروا، {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:42], مريم ابنة عمران -عليها السلام- التي نذرتها أمها للبيت ونشأت هذه النشأة الطيبة الصالحة في كَنَفِ ذكريا النبي -عليه السلام- واعتكفت في بيت الله - تبارك وتعالى- تعبد الله وأجرى الله على يديها هذه المعجزات، فكان يَظْهَرُ تأتيها الفاكهة في غير أوانها رزقاً مِن الله - تبارك وتعالى -، يُخْبِرُ سبحانه وتعالى أنها وهى في أثناء هذه العبادة نادتها الملائكة وقالت الملائكة : {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ}, وسمعت أصوات الملائكة ورأت شخوصهم مع أصواتهم نادتها، جاءها ملاك الرَّب - سبحانه وتعالى - وناداها وقال لها : {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ}, أي اختاركِ، اختيار على كل نساء العالمين، اختيار بالعبادة وبالدين وبالتقوى وبالتصديق وبهذا الفضل الواسع العظيم الذى فضلها الله - تبارك وتعالى- به,  {وَطَهَّرَكِ}, مِن كل الأدناس الخُلُقِيَّة فجعلها امرأة صالحة طيبة النَّفْس بعيدة عن كل دَنَس فهي العذراء البَتُول الشريفة الفاضلة عليها السلام، { وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}, أنه فَضَّلَكِ وأعلى منزلتكِ على كل نساء العالمين أي مِن النساء الصالحات فهي أفضل نساء الأرض كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : «خير نسائها مريم ابنة عمران وآسيا بنت مُزاحِم وخديجة بنت خُويلد», فهؤلاء خير نساء الأرض الذين فضلهم الله -تبارك وتعالى -.

اصطفاها الله - تبارك وتعالى-  على كل نساء العالمين بأنْ جعلها فوق هؤلاء النساء وكَمَّلَهَا - سبحانه وتعالى- كمال قال النبي : «كَمُلَ مِن الرجال كثيرون ولم يَكْمُل مِن النساء إلا مريم ابنة عمران وآسيا امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد مِن حيث الكمال المقدر بالنسبة للنساء».

{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}[آل عمران:43] ، هذا مِن فضل الله - تبارك وتعالى- واصطفائه وإحسانه على مريم أنَّ الله تبارك وتعالى أمرها بالقنوت له، { اقْنُتِي لِرَبِّكِ}، القنوت هو الخشوع والذُّل والطاعة واجتماع الهمة والنَّفْس على هذا الأمر أي اجعلي همتكِ ونفسكِ مجموعة على طاعة الرب -تبارك وتعالى-, {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} ، هذه أركان الصلاة السجود والركوع أمر بأركان الصلاة، {........وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ }[آل عمران:43] ،  مع الراكعين لله -تبارك وتعالى- وذلك أنَّ المؤمن يدخل في زُمْرَةِ الصالحين في الدنيا والآخرة فأُمة الدين أُمَّة واحدة، {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}[المؤمنون:52], {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، فاركعي مع الراكعين وأدخلي في هذه الزُمرة الصالحة الطيبة وهم أهل الله -تبارك وتعالى - سماهم الله  هنا بالراكعين وذلك أنَّ هذه مِن صفتهم، صفة مِن صفاتهم وفعل مِن فعلهم وهذ- صفة مَدْح لأنها بفعل عظيم يحبه الله - تبارك وتعالى- كما مدح الله - تبارك وتعالى - النبي وأصحابه فقال : {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا}، أي إذا رأيتهم على هذا النحو رُكَّعاً سجداً، فاركعي مع الراكعين أي أدخلي في هذا الجمهور الصالح الطيب مِن أهل الصلاح الذين هم أهل الركوع لله - تبارك وتعالى-.

عَقَّبَ الله - تبارك وتعالى- على هذه الأخبار التي جاءت للنبي بهذا التفصيل، قال الله - تبارك وتعالى- لرسوله : {ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ {ذَلِكَ}, أي هذا الذى ذكر لك وأوحى إليك هو مِن {مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ}، وأنباء جمع نبأ والنبأ هو الخبر العظيم، {الْغَيْبِ}, التي غابت لأنَّ النبي لم يكن حاضراً لها ولا مشاهداً لها فهي غائبة عن النبي وعن مِن يُحَدَّث بهذا القرآن، إنما هذه كانت في زمن بعيد قبل ذلك، فهي غائبة عن النبي، {مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ}, الذي غاب عنك, {نُوحِيهِ إِلَيْكَ}، يأتيك عن طريق الوحى والوحى ينزل به جبريل عليه السلام - ثم يُخْبِرُه بهذه الأخبار التي كان النبي غائباً عنها أخباراً مفصلة واضحة، {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}، هذه حادثة وواقعة دقيقة وهى قضية الاقتراع على أخذ مريم فإنَّ بنى إسرائيل قد تزاحموا وتعاضدوا وتنافسوا في كفالة مريم ثم ضربوا لهذا قُرْعَة وهى أنْ يلقوا بأقلامهم في جَرْيَةِ النهر وقيل أنه نهر الأردن فمَن وقف قلمه وعاد ضد الجَرْيَة فهذا يكون هو الذى يفوز أو إنْ كان الأمر مَن سبق قلمه في الجري أي واحد يسبق فيكون هو الذى يفوز.

قيل بأنَّ قلم زكريا -عليه السلام- عاد عكس التيار لما ألقوا أقلامهم هذا عاد عكس التيار، وقف بالتيار ثم عاد بعكس التيار فتميز قلمه عن أقلامهم جميعاً الذى أخذتهم جرية النهر, {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ}, أي  في جرية النهر, {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}، مِن يفوز بالقُرْعَة ويكون قلمه على هذا النحو، فالله - تبارك وتعالى- جعل خَرْقِ العادة هنا لزكريا -عليه السلام-, فهذه الحادثة حادثة إجراء القُرعة بهذا الأمر بالأقلام، وهذه حادثة وقعت مِن ستمائة سنة وأكثر مِن بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن النبي حاضراً بهذا ولم يكن عنده علم ولا وَصَلَهُ علم بهذا بإسناد ولا بغير إسناد ولا قرأه في كتاب، فهذا إعلام مِن الله -تبارك وتعالى-,  قال جلَّ وعَلا- :  {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}, أي يختصم بني إسرائيل في شأن مريم -عليها السلام- فهذا دليل لكل مَن يشك في شأن النبى -صلى الله عليه وسلم- أنه مِن أين تأتيه هذه الأخبار إلا أنْ يكون مِن وحى الله - تبارك وتعالى- هذا دليل صِدْقِهِ ودليل أنه رسول الله حقاً وصدقاً الذى يأتيه وحى السماء, دليل لبنى إسرائيل عندما يشاهدون أنَّ هذا الأمر يوافق ما عندهم ودليل للعالم كله عندما يشاهدون أنَّ النبى يُخْبِرُ بخبر السماء وأخبار غيوب سابقة ثم يأتي بها كما هي عند أهلها فهذا دليل صدقه -صلوات الله والسلام عليه-.

ثم سيراً مع سياق قصة مريم عليها السلام وابنها المسيح, قال جلَّ وعَلا : {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ........} [آل عمران:45]، أي اذكروا إذ قالت الملائكة، جاءها ملاك الرَّب وهو جبريل -عليه السلام- فقال لها : {يَا مَرْيَمُ}, ناداها باسمها, {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ}، هذه بشارة مِن الله بشارة لإخبار بما يسر، {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}, أي مولود يولد بكلمة مِن الله - تبارك وتعالى- يولد بالكلمة ولا يولد مِن زوج تتزوجينه ويكون منه غلام بل بكلمة كن فيكون، فإنَّ أمر الله -سبحانه وتعالى- يكون ويوجد بالكلمة فيُخْلَقُ بكلمة مِن الله -تبارك وتعالى- وهى كن فيكون {اسْمُهُ}, هذا الذى سيولد لكِ {الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}, المسيح هذه فعيل وفعيل يأتي أحياناً باسم الفاعل وأحياناً يأتي باسم المفعول فهل هو بمعنى الماسح أم الممسوح؟ قيل هنا بمعنى الماسح أنه يمسح الأرض مِن الكفر والشِّرك فيكون هنا كاسم النبي -صلوات الله والسلام عليه- الماحي فإنه مِن أسماء نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه- كما قال النبي : «وأنا الماحي يمحو الله بي الشِّرك»، فيمحو الله به الشرك مِن الأرض, بعضهم يقول المسيح أي الممسوح لأنه على طريقة النصارى واليهود يمسحون مواليدهم بالزيت الذى يقرأون عليه المبارك فيه، لكن الصحيح أنه المسيح بهذا المعنى إنْ شاء الله المسيح الماسح للشر وفى وقته ثم يأتي كذلك يمسح الشر مِن الأرض عندما ينزل في آخر الزمان كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «والذى نفس محمد بيده لينزلن فيكم عيسى ابن مريم حَكَماً عدلاً مقسطاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويُؤذِّنُ للصلاة», فيأتي أيضاً تمسح به الأرض مِن الشر في آخر الزمان عكس المسيح الدجال الذى يزعم أنه الله بل هو يقتل كذلك، هذا آخر الشرور في الأرض وهو المسيح الدجال، {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}, هذا اسمه عيسى ويُنسَب إلى أُمِّهِ ولا ينسب إلى أب لأنه ليس له أب وإنما قد خُلِقَ بكلمة الله -تبارك وتعالى-, {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}، {وَجِيهًا}, أي عند الله  -تبارك وتعالى-,  {فِي الدُّنْيَا}, الوجاهة المكانة أنَّ الله -تبارك وتعالى-  جعل له مكانة وقبول في الدنيا حيث يُقْبَل ويُعَظَّم ويُبَارك وكذلك في الآخرة منزلته ورفعته عند الله -تبارك وتعالى-, {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} مِن الرب -جلَّ وعلا- أي مِن الذين يقربهم الله - تبارك وتعالى-  إليه فيكون مقرب مِن الله  -تبارك وتعالى- وهذه بشرى عظيمة أنَّ يولد لها ولد هذه صفته، ثم {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا........}[آل عمران:46], أنَّ كذلك مِن صفاته أنه يكلم الناس في المهد وهو صغير وهذه معجزة، هذه كذلك معجزة يهبها الله -تبارك وتعالى- له، و {الْمَهْدِ}, مهد الطفل أي الفراش الذى يمهد للطفل لصغره، وذلك لأنه يكون ملازماً له، الطفل يلازم هذا المهد وهذا في حال الرضاعة والصغر ويتكلم وهذه معجزة لأنه لا يتأتى الكلام لِمَن هو في المهد ، {وَكَهْلًا}، كبيراً, الصحيح في معنى الكهل هو الكبير الذى بلغ الشيب وقيل أنَّ هذا أيضاً معجزة وذلك أنَّ عيسى رفعه الله  -تبارك وتعالى- إلى السماء وهو لم يبلغ الكهولة، فإنه كان ما زال في المرحلة العليا مِن الشباب، لم يبلغ الأربعين ورفعه الله - تبارك وتعالى-  إلى السماء وهذا معناه أنه سيكلم الناس كهلاً وهذا لا يكون إلا بأنَّ ينزل إلى هذه الأرض ويكلم الناس كذلك أي أنه بشر حي قائم يكلم الناس فيكون في قوله تعالى، يكون هذه معجزة في الأمرين، معجزة في كلامه في المهد ومعجزة في كلامه في الكهولة وذلك لأنه ينزل مِن السماء يكلمهم وهو كهل فتكون هذه معجزة له هنا ومعجزة هناك كذلك أيضاً،  {وَمِنَ الصَّالِحِينَ} مِن عباد الله -تبارك وتعالى-  الصالحين.

هذه بشارة عظيمة بهذا المولود الذى يولد لها ويكون له مِن كل هذه الصفات العظيمة النبوة والرسالة والفضل والقربى والزلفى مِن الله -تبارك وتعالى – وأنْ تُخْرَق له العادة وتَجْرِى على يديه المعجزات على هذا النحو، {قَالَتْ} أي مريم -عليها السلام- {رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ........}. [آل عمران:47], {رَبِّ}, أي يا ربي, دعت الله -تبارك وتعالى- {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ}, كيف يكون لي ولد! وَلَمْ {يَمْسَسْنِي بَشَرٌ}, والحال أنَّ خَلْقِ الولد لا يكون إلا بإجتماع ذكر وأُنْثَى وأنا لا زوج لى ولم يمسسنى بشر ولست بزانية وإنما امرأةٌ عفيفةٌ معتكفة على أمر ربي -جلَّ وعَلا-, {قَالَ}, أي لها الملك {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}, {كَذَلِكِ}, كهذا الأمر الذى أُخْبِرْتِ به, {اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ}, الله يخلق ما يشاء خلقاً فهو الذى أوجد هذه السُّنَن وهو الذى يخلق بدون وجود هذه السنن، وإنه لا يوجد مولود إلا بإجتماع ذَكَر وأُنثى فهذه سُنَّة مِن سُنَنِ الله عزَّ وجلَّ، والله  -تبارك وتعالى- هو الذى أوجد هذه السنن ويخلق بدونها، بها وبدونها، يخلق ما يشاء يعنى كيف يشاء  -سبحانه وتعالى-, {إِذَا قَضَى أَمْرًا}, أبرمه وأراده, {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، يقول الله -تبارك وتعالى- لهذا الأمر {كُنْ}, فيأمر به فيكون الأمر كما قضى به الله - تبارك وتعالى- وأراده، ثم : {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ........} [آل عمران:48]، قال جلَّ وعَلا : {وَيُعَلِّمُهُ} أي هذا الذى بُشِّرَت به مريم -عليها السلام-، و {الْكِتَابَ}, جنس الكتب التوراة وما أنزل بعد ذلك مِن الكتب على أنبياء بنى إسرائيل الكتاب الذى سينزله الله - تبارك وتعالى- عليه وهو الإنجيل، {الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، العلم التام الذى يضع به كل أمر في نصابه, {وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ}، هذا تفصيل للكتاب الذى يُعَلِّمُهُ الله  -تبارك وتعالى- أنه يعلمه كذلك {التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ}, هذه مِن الكتب التي يُعَلِّمُهُ الله -تبارك وتعالى-  إياها، ثم : {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي أنَّ المهمة التي سيقوم بها هذا النبي أنه رسول إلى بنى إسرائيل، رسول يرسله الله  -تبارك وتعالى-  إلى بنى إسرائيل، وبنو إسرائيل هم أولاد يعقوب -عليه السلام- ماذا يقول لهم؟ {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}, {أَنِّي}, وهو عيسى بن مريم, {قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ}, آية أي علامة على القدرة فالآية هي العلامة، علامة على قدرة الرب -تبارك وتعالى- و {مِنْ رَبِّكُمْ}, وهذا حث لهم على قبولها لأنها مِن ربهم فينسبهم الله -تبارك وتعالى- إليه وهو ربهم والرب دائماً هو محل الرحمة والعطف والإحسان لأنه المربى ولأنه المالك  -سبحانه وتعالى-, { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ}.

هذه أول آية مِن الآيات التي يجريها الله  -تبارك وتعالى-  على يديه ليكون هذا دليلاً لهم على أنه رسول مِن الله -تبارك وتعالى-,  {أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ}، {أَخْلُقُ}, هنا الخلق بمعنى التقدير، يصور مِن الطين يأتي مِن الطين معروف طين الأرض فيصور منها صورة الطير, {فَأَنفُخُ فِيهِ}, والنفخ معروف وهو إخراج الهواء مِن الفم, {فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ}, النفخة هذه تكون نفخة روح، فتجعل هذا الطير الذى هو طين تمثال طير يطير في الهواء طيراً مخلوقاً وهذا {بِإِذْنِ اللَّهِ}، بسماحه وإعطائه لي وليست صفة ذاتية مِنِّى أنَّ رب أخلق وإنما هذا أفعله بإذن الله  -سبحانه وتعالى-, {وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ}، الإبراء هو الإشفاء، بَرَءَ مِن الأمر بمعنى أنه انتفى عنه وابتعد عنه، أَشْفِى وأُنْقِى {الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ}, {الأَكْمَهَ} هو ممسوح العين الذى ليست هناك ثمة عين موجودة حتى يبصر أي ناقصة شيء لا وإنما هذا كمَن يولد أعمى ممسوح العينيين، {وَالأَبْرَصَ}, معروف والذى هو تَغَيُر في الجلد عن لون الجلد الأصلى وهذا أمر لم يعرف له البشر في وقت عيسى ولا بعد وقته علاجاً لهذا الأمر, هذا من الأدواء التي لا علاج لها.

 {وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى}، إخراج ميت مِن قبره بعد أنْ يموت تدب فيه الحياة كل هذه خوارق للعادة بل معجزات كاملة لا يَقْدِرُ البشر عليها وفى كل عصورهم، في كل العصور والدهور لم يعرف البشر طريقة لعلاج مثل هذا الأمر أو لخرق هذا الأمر.

{وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ}, ثم : {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}, هذا كذلك إخبار بالغيب الإضافى وكذلك بعض الغيب المستقبلي، الغيب إما إضافى وهو أنْ يكون أمر يعلمه قوم ويغيب عن آخرين، كأنت مثلًا تعلم ما عندك وما حولك ولكن لا تعلم ما غاب عنك أي من هو خارج الجدران وخارج الأمر، فهذا غيب إضافي, والغيب المطلق الذى لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى- كما يكون في غد، متى ينزل المطر ما في الأرحام، يوم الساعة، هذه غيوب استأثر الله بعلمها لا يعلمها إلا هو  -سبحانه وتعالى-, {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[لقمان:34], فهذا الغيب الذى استأثر الله – تبارك وتعالى- بعلمه والله  -سبحانه وتعالى- هو عالم الغيب ولا يطلع أحداً مِن خَلْقِهِ على هذا الغيب إلا مَن شاء الله  -تبارك وتعالى-, {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن:26], {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}، إلا مَن يرتضيه الله  -تبارك وتعالى- مِن رسول فهو يُطْلِعُهُ على بعض غيبه -جلَّ وعَلا-، فعيسى يقول لقومه أنا أخبركم بهذه الغيوب، أخبركم {بِمَا تَأْكُلُونَ}, ممكن غداً, {وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}, وما الذى تخفونه وهو بالنسبة إليّ غيب ما أعرف ما تدخر أنت في بيتك ولكن أخبرك أنك تخفى كذا وتخفى كذا، فيُخْبِر كل إنسان ما يُخفيه هو في بيته، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ}, أي في هذا الذى يجريه الله  -تبارك وتعالى- على يدى آية, علامة على صدقى وأنى رسول من الله - تبارك وتعالى-  {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ}، إنْ كنتم مِن أهل الإيمان ومصدقين فإنَّ أي إنسان عنه صفة التصديق, مستعد للتصديق هذه هي أدلة وبراهين، هذه أدلة الصدق، فإذا رأى هذه الأدلة والبينات لابد أنْ يصدق، أما إنْ كان جاحداً, كافراً فإنه وإن رأى الآيات وإن رأى البينات فإنه يجحدها ويردها، فإن كنتم مؤمنين فإنَّ هذه آيات لكم مفهوم هذا إنْ كنتم كافرين تروا الحق ولا تؤمنون به فهذا كفر فلن ينفعكم هذا الأمر.

ثم هذا النبي الذى جاء بنى إسرائيل والذى هو عيسى -عليه السلام- قال : {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ}, أيضاً مما جئت به أني أصدق ما بين يديه مِن التوراة، أَحْكُم بحُكُمِ التوراة وأخبركم بها، فما تقوله التوراة مِن الصدق أنا أقوله وأعمل به وأسير عليه، {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}, أنَّ مِن فضل الله  -تبارك وتعالى- كذلك عليكم بإرسالى أنْ أحل لكم وهذا مِن الله  -تبارك وتعالى- {بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}, مِن أطعمة ومِن أشربة ومِن أحوال كان الله -تبارك وتعالى- قد حرمها عليهم، يأتي عيسى -عليه السلام- ليحلها لكم، {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ}, علامة واضحة مِن ربكم وإلهكم, {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}, {فَاتَّقُوا اللَّهَ}, خافوا الله  -تبارك وتعالى- {وَأَطِيعُونِ}, أمر واضح بيِّن لا خفاء فيه، فرسالة عيسى -عليه السلام- مع ما أيده الله  -تبارك وتعالى- مِن المعجزات إلى بنى إسرائيل مِن أوضح الوضوح، ثم : {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}[آل عمران:51], {إِنَّ اللَّهَ}, تأكيد الله المعلوم بهذا الاسم الذى هو علم عليه الله اسم على ذات الرَّب، الاسم الأعظم لله -تبارك وتعالى-, {رَبِّي}، خالقي، مالكي، سيدي، المتصرف في، الذى رباني، كل هذا مِن معانى الرَّب فهو ربى، بدأ بنفسه أولاً وهذا حتى لا يقطع الطريق أمام المغالين فيه والذين ينسبون هذه الأفعال التي جرت على يديه إلى أنه الله خالق السماوات والأرض وهو {وَرَبُّكُمْ}  -سبحانه وتعالى- وهو ربكم كذلك {فَاعْبُدُوهُ}، أمرٌ بعبادة الرَّب, {فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}، قد وَضَحَ لك وبان لكم طريق يوصلكم إلى مرضاة الرَّب -جلَّ وعَلا-.

قال جلَّ وعَلا : {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52]، {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ}، انظروا كم كان بنو إسرائيل على عناد ورَد للحق ومُكابرة فإنَّ دعوة عيسى إليهم أولاً هو منهم؛ مِن بنى إسرائيل جاءهم بهذه البينات العظيمة، دعاهم دعوة واضحة بينة لا خفاء فيها ولا غموض يحمل لهم كل الخير ومِن هذا الخير رفع بعض الآصار والأغلال التي كانت عليهم ولكنهم مع ذلك قابلوه بالكفر وقابلوه بالعناد.

قال جلَّ وعَلا : {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ}، أي مِن بنى إسرائيل, {الْكُفْرَ}، وإحساسه بهذا إحساس رؤية وسماع وعلم ورَأَى هذا، {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}، وذلك أنه قد توبع مِن قرية إلى قرية وبدأ اليهود يسعون لقتله بكل سبيل، يحتاج هنا ناس يقومون بهذا الأمر حتى يسلمه إياه وقد رأى أنه قد أحيط به على هذا النحو، {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}، مَن الذى ينصرنى إلى الله  -تبارك وتعالى- وإنْ تَحَمَّل في هذا الأمر ما تَحَمَّل حتى الشهادة، {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ}، {الْحَوَارِيُّونَ}, أي أنصاره, أما سبب تسميتهم بالحواريين هل هو مِن الثياب البيضاء الحَوَار الذي يلبسونه أو هو مِن النصرة، {الْحَوَارِيُّونَ}, على كل حال هم الذين التفوا حوله تلاميذه المخلصون الذين التفوا حوله ووهبوا أرواحهم ليقدموها لله  -تبارك وتعالى- وينصروا هذا الدين مهما تكالب عليه أعداؤه، قالوا : {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ}، وفى هذا تقديم للنَّفْسِ وإعلان أنهم سينصرون الله  -تبارك وتعالى- إيماناً به وصَدْعاً بالحق، {آمَنَّا بِاللَّهِ}, الذى عرفتنا طريقه ودللتنا عليه, {وَاشْهَدْ}, يا عيسى, {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ},اشهد لنا في الدنيا وكذلك في الآخرة بأننا مسلمون أي منقادون، مزعنون، خاضعون لأمر الله - تبارك وتعالى-.

نقف هنا إنْ شاء الله ونكمل في حلقة آتية, أقول قولي هذا, واستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.