الخميس 17 شوّال 1445 . 25 أبريل 2024

الحلقة (9) - سورة البقرة 1-2

تفسير الشيخ المسجل في تلفزيون دولة الكويت

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد أيها الإخوة الكرام؛ سورة البقرة أطول سورة في القرآن وأعظمها وأشرفها، فهي ديوان الإسلام وهى سورة الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-، وبيان هذه الرسالة التي أُرسل بها النبي -صلوات الله وسلامه عليه-، وديوان التشريع الذي شرعه الله -تبارك وتعالى- لهذه الأمة.

جاء في فضل هذه السورة أحاديث كثيرة منها أنها وآل عمران تأتيان يوم القيامة كفرقان من طير صواف تظلان صاحبهما، ومنها أن الشخص كان إذا حفظ سورة البقرة شغف في الصحابة، وقد كان الوفد يأتي إلى النبي –صلوات الله وسلامه عليه- فيسألهم «أيكم أحفظ للقرآن» قال مرة أحدهم أنا أحفظ كذا وكذا وسورة البقرة فقال له النبي: «اذهب فأنت أميرهم».

سورة البقرة من القرآن المدني، نزلت بكاملها على النبي –صلوات الله وسلامه عليه- في نحو تسع سنوات، ففيها آيات نزلت في السنة الثانية من هجرة النبي –صلوات الله وسلامه عليه- كآيات الصيام، وفيها الآيات الأخيرة التي نزلت قبل وفاة النبي –صلوات الله وسلامه عليه- بأيام، وهي قول الله -تبارك وتعالى- بعد آيات الربى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[البقرة:281]، والصحيح من الأقوال أن هذه الآيات هي آخر الآيات نزولًا على النبي –صلوات الله وسلامه عليه-.

كان القرآن ينزل منجمًا على النبي –صلوات الله وسلامه عليه- يعني آيات آيَات، وكان النبي –صلوات الله وسلامه عليه- إذا نزلت عليه الآيات يأمر بوضعها على رأس مائة آية، على رأس كذا بعد الآية الفلانية، ضعوها هنا ضعوها هنا، وهذا أيضًا باب من أبواب إعجاز القرآن وأن القرآن من عند الله -تبارك وتعالى- وليس من عند النبي –صلوات الله وسلامه عليه-، فلم يكن شأن القرآن شأن الكتاب المؤلف الذي يؤلفه يعني كاتبه فيكتبه على نسق واحد مرتبًا له، ولكن القرآن نزل على غير ذلك، القرآن كان مكتملًا في السماء ثم نزل نجومًا قطعةً قطعة آيات آيات، هذه الآية قد تكون في هذه السورة وآيات أخرى في السورة الفلانية، وهذه آيات أخرى في سورة، وسورة هنا وسورة هناك، فلمَّا اكتمل نزوله اكتمل البناء، اكتمل نظام هذا القرآن واكتمل الكتاب.

الوحدة الموضوعية الكاملة بين سور القرآن موجودة، الوحدة الموضوعية في السورة الواحدة، فكل سورة من سور القرآن هي وحدة موضوعية، موضوع واحد متناسق فيه مقدمات فيه فصول أبواب، كل باب يسلم إلى الآخر، وكل معنى يسلم إلى ما بعده، وليس معاني أو آيات متفرقة مقطعة لا صلة بينها، يتبدى هذا -إن شاء الله- من خلال بيان الوحدة الموضوعية لكل سورة من سور القرآن عند بياننا –إن شاء الله- في هذا التفسير المبارك.

نبدأ بسورة البقرة، سورة البقرة أولًا مقدمة بالحروف المقطعة {آلم}[البقرة:1] وسيأتي الكلام –إن شاء الله- على أقوال أهل العلم في معاني هذه الحروف، ثم إشارة من الله -تبارك وتعالى- إلى هذا القرآن إشارة بالبعيد لبيان عظمة القرآن ذَلِكَ الْكِتَابُ وأنه {........ لا رَيْبَ فِيهِ ........}[البقرة:2].

 ثم بيان مواقف الناس حول هذا القرآن؛ وهو أنهم ينقسمون في جملة إلى قسمين وفي التفصيل إلى ثلاثة أقسام، المتقون وهؤلاء الذين يستفيدون بهذا القرآن هم وحدهم أهل الهداية بهذا القرآن، ثم الكفار الذين ختم الله -تبارك وتعالى- على قلوبهم، ثم المنافقون الذين هم يترددون بين الإيمان والكفر يظهرون الإيمان ولكنهم يبطنون الكفر.

 ثم ضرب الله -تبارك وتعالى- مثلًا لهم وذلك ليظهروا، والتقريب لهذا المعنى ... معنى النفاق وتصوير له على حقيقِته، ثم بعد ذلك دعوة من الله -تبارك وتعالى- للناس جميعًا إلى الإيمان به، وهذا أول أمر في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:21]، ثم بيان الدليل على هذه الدعوة وأن الله هو رَبِّ الْعَالَمِينَ –سبحانه وتعالى-، وبيان لماذا يأمرهم الله -تبارك وتعالى- بها، ثم الدليل على صدق النبي –صلوات الله وسلامه عليه- وأن هذه الدعوة نزلت على هذا النبي، وأن النبي مؤيَّد بآية قاهرة لا يمكن ردها وهو هذا القرآن المنزل من الله -تبارك وتعالى- {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:23]، ثم بعد ذلك ما يترتب على هذه الدعوة – ما يترتب على دعوة الله -تبارك وتعالى- للناس بأن يعبدوه وحده لا شريك له بأن ... {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة:24]، ثم الفريق الآخر {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ........}[البقرة:25]، ثم بعد ذلك بيان أن الله -تبارك وتعالى- أسلوب الله -تبارك وتعالى- في خطاب الناس وأنه لا يستحي –سبحانه وتعالى- {........ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ........}[البقرة:26]، ففي بيان – بيانه للحقائق يمكن أن يخاطب الله -تبارك وتعالى- عباده ويذكر بعض المخلوقات التي قد يراها بعض الناس أنها مخلوقات حقيرة وصغيرة كالحمار والكلب والفيل والبعوضة والذبابة، وحتى لا يظن الناس أن كما قال المشركون إن كلام الملوك يتنزه عن هذا؛ كيف يتكلم الله ويذكر مثل هذه المخلوقات؟، فقال –جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}[البقرة:26]، ثم بعد ذلك بيان أساس الإنسان، بداية الأمر وهو أن الله -تبارك وتعالى- قد قضى خلق الله -تبارك وتعالى- في السماء فأخبر الملائكة بمشيئته –سبحانه وتعالى- وإرادته في خلق الإنسان، ثم ما قالت الملائكة، ثم ما رد عليهم الرّب -تبارك وتعالى-، ثم خلق آدم، ثم إسجاد الملائكة له وما كان من شأن إبليس، ثم تحذير الله -تبارك وتعالى- يعني لآدم وذريته أن يتبعوا هذا الشيطان.

بعد أن بيَّن الله -تبارك وتعالى- أصل الإنسان والمهمة التي خلقه من أجلها، ثم بعد ذلك المعركة التي بدأت بامتناع إبليس عن السجود لآدم، بدأ الله -تبارك وتعالى- يوجه دعوة الإسلام إلى اليهود خاصة وذلك أن اليهود كانوا هم معهم وراثة الدين، فقد كان معهم الرسالة الأخيرة، رسالة الله -تبارك وتعالى- الأخيرة وتشريعه الأخير، ويعتقدون بأنهم هم أمة الهداية وهم شعب الله المختار، فبدأ الله -تبارك وتعالى- بتوجيه الدعوة إليهم بقوله –جل وعلا-: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[البقرة:40]، ويستمر الخطاب مع اليهود من هذه الآية وهي الآية الأربعون من سورة البقرة إلى الآية مائة واحد وأربعون ومائة يعني نحو تقريبًا مائة آية وواحد، كلها في بيان حِجَاج اليهود، أولًا تذكيرهم بماضيهم بإنعام الله -تبارك وتعالى- عليهم بتبديلهم ... بتغييرهم، ثم كشف ... يعني أمرهم تمامًا للمسلمين، وإقامة الحجَّة عليهم والسبب الطويل في إن البقرة تأخذ ... يعني في سورة البقرة يأخذ أكثر من مائة آية مع اليهود، وذلك لأنها انتقال، لأن بعثة النبي –صلوات الله وسلامه عليه- إنما هي نقل لـ.. الرسالة – رسالة الله -تبارك وتعالى- من بين إسرائيل إلى بني إسماعيل إلى النبي محمد –صلوات الله وسلامه عليه- خاتم الرسل، وأن الأمر انتهى هنا عند بني إسرائيل كان آخر نبي لهم هو عيسى –عليه السلام-، عيسى امتداد لـ.. يعني آخر نبي من بني إسرائيل، وطبعا اليهود كذبوه، و.. لكن شريعته شريعة يعني بني إسرائيل، فقد جاء مجددًا وفي هذه .. في هذه الشريعة كما قال الله -تبارك وتعالى- عنه: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ........}[آل عمران:49] إلى آخر الآية، بعد ذلك ... بعد انتهى الحديث مع اليهود، وانتهى الحديث بسلخهم تمامًا عن الدين، ليسوا هم من أهل الله -تبارك وتعالى- ونسبتهم إلى إبراهيم نسبة نسب وليس نسبة إتِّبَاع، وقال الله -تبارك وتعالى- عن الصالحين السابقين منهم من الأنبياء إبراهيم وإسرائيل وأولاده قال: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة:134]، فهذه أمة تختلف عنكم تمامًا إن كفرتم بالنبي محمد –صلوات الله وسلامه عليه- فأنتم خارجون يعني عن الدين وأصبحتم كفار ونسبتكم إلى آبائكم نسبة تصبح نسبة باطلة، نسبة نسب لكنها ليست نسبة إتِّباع.

ثم تبدأ السورة بعد ذلك من هذا الموضع لبيان تشريع الله -تبارك وتعالى- المستقل لأمة محمد –صلوات الله وسلامه عليه- بدءًا من قول الله –عز وجل-: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ........}[البقرة:142]، فأول شيء يعني إثبات القبلة التي هي بمثابة العلم والمركز لأمة الإسلام التي تجمع أمة الإسلام الواحدة في كل أقطار الدنيا، حيث يُصَلُّون والصلاة أشرف أعمالهم إلى مكان واحد، وكذلك حيث يحجُّون إلى هذا المكان الواحد فترتبط الأمة في كل أقطارها بهذا، فبدأ التشريع بالقبلة، ودخل تشريع القبلة في معركة مع اليهود الذين يعني دخلوا أيضًا معركة مع النبي –صلى الله عليه وسلم- في تحوله من قبلة بيت المقدس إلى مكة، وبيان الله -تبارك وتعالى- أن قبلة مكة هي الأساس وهى الأصل، وهي التي بناها إبراهيم –صلوات الله وسلامه عليه- أبو الأنبياء، ثم بعد ذلك تتوالى يعني التشريع للأمة ووعد الله -تبارك وتعالى- لهم بدءًا بقول الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ ........}[البقرة:153-154]، ثم تأتي السورة كلها تشريعات من هنا إلى نهاية بآية الدَيْن - بأية الدين والرهن، ثم بعد ذلك تحذير وموعظة من الله -تبارك وتعالى- بأن الأمر كله له {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:284]، ثم في ختام السورة شهادة من الله -تبارك وتعالى- أن هذا النبي آمن بما أنزله الله إليه، وأن الذين آمنوا معه آمنوا بما أنزل الله -تبارك وتعالى- إلى النبي –صلوات الله وسلامه عليه- وأن هذا جزاؤهم، {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[البقرة:285]، ثم في النهاية {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ ........}[البقرة:286] بيان هنا يعني سنة الله -تبارك وتعالى- ورحمته في تشريعه لهذه الأمة الخاتمة، الأمة المرحومة، وأن الله -تبارك وتعالى- قد رفع عنها كل الآثار والأغلال والتضييق والشدة الذي أخذه على بني إسرائيل سابقًا، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[البقرة:286] آخر آية من سورة البقرة.

إذا نظرنا إلى السورة نجد أن وحدة متكاملة كل معنى يؤدي إلى المعنى الآخر وهي موضوع واحد، وبالرغم من هذا فقد نزلت -كما قلنا- في تسع سنوات على النبي –صلوات الله وسلامه عليه-، كانت تنزل الآيات في موضوع معيَّن فيقول النبي ضعوها في المكان الفلاني، تنزل بعد ذلك آيات فيقول ضعوها هنا وضعوها هنا، وليس بترتيب يعني السورة وإنما تأتي آيات تكون في أول السورة، تأتي آيات في وسط السورة، تأتي آيات في آخر السورة، تأتي آيات مرة ثانية في أول السورة وهكذا، ثم تنتهي في النهاية إلى هذه الوحدة الموضوعية، وهذا كما ذكرت أنه من أعظم الأدلة على أن هذا القرآن من عند الله وليس من عند محمد –صلى الله عليه وسلم-، نَشْرَعُ الآن بعد هذا الإجمال في معنى السورة العام إلى ... يعني تفصيل معاني هذه السورة العظيمة.

أولًا بُدِئت سورة البقرة بـ بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ شأن جميع سور القرآن إِلَّا سورة براءة، وقد سبق وأن شرحنا معنى بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ عندما فسرنا سورة الفاتحة، ثم يقول الله -تبارك وتعالى-: {الم}[البقرة:1]، الألف واللام والميم حروف مقطعة من الحروف العربية، الحروف العربية ثمانية وعشرين حرف، وهذا الأسلوب من بدء الكلام بحروف مقطعة لم تعهده العرب في كلامها، فلم يكن العرب تعهد في كلامها أن تبدأ كلامها بحروف مقطعة، وهذا مما انفرد به القرآن، ولعلماء التفسير في هذا أقوال، ماذا تعني هذه الحروف المقطعة؟، فعامة أهل العلم من المفسرين يقولون هذا مما استأثر الله -تبارك وتعالى- بعلمه والله أعلم بمراده، ولم يأتي في معاني هذه الحروف آيات تشرحها، ولا نزل ... ولا تكلم النبي –صلوات الله وسلامه عليه- بأحاديث يشرح للأمة معاني هذه الحروف، ولا يجوز أن نقول في كتاب الله -تبارك وتعالى- بغير علم؛ بل يجب أن نقف عند المشتبه منه كما علمنا الله -تبارك وتعالى-، كما قال –جل وعلا-: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[آل عمران:7]، هذا الموقف الأول من مواقف علماء الأمة في معاني هذه الحروف المقطعة التي جاءت في أوائل السور.

الموقف الثاني؛ قال بعض أهل العلم بأن القرآن كله إنما نزل للتدبر والاعتبار، كما قال -تبارك وتعالى-: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[ص:29]، وقالوا ليس في القرآن يعني شيء هو خارج معاني التدبر والاعتبار، وينبغي أن نتدبر المعنى الذي يمكن يعني أن يفهم من معاني هذه الحروف، وهؤلاء الذين ذهبوا هذا المذهب – ذهبوا فيه أقوال؛ منها أقوال قريبة يعني من الصحة لها وجه، ومنها أقوال بعيدة يعني أن القبول، فأما القول اللي هو قريب من الصحة ويشهد له القرآن؛ فقالوا إن هذا إشارة من الله -تبارك وتعالى- للعرب بأن هذا القرآن الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- على عبده ورسوله محمد –صلوات الله وسلامه عليه- هو مؤلف من الحروف التي يتكلمون بها، فهو من جنس كلامهم، إذن فليأتوا ويؤلفوا من هذه الحروف الكلمات والأسلوب الكلام الذي يعارضون به القرآن أو يساوونه به، وإذا عجزوا عن ذلك – والقرآن الحال أنه مؤلف من لغتهم ومن حروفهم – فليعلموا أنه منزل من الله -تبارك وتعالى-، هذا المعنى لا شك أنه موجود في القرآن؛ فإن الله -تبارك وتعالى- تحدى العرب أن يأتوا بحديث مثله كما قال –جل وعلا-: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[الطور:34]، وأخبر أنه قد أنزله بـلغتهم، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[يوسف:2].

هذا معنى الذي قاله يعني هؤلاء أهل العلم في معاني الحروف المقطعة، يشهد له أن الله -تبارك وتعالى- قد تحدى العرب بأن يأتوا بقرآن مثل هذا القرآن، ثم قالوا كذلك بأنه عامة الحروف المقطعة قد أعقبت ببيان القرآن وأنه من عند الله -تبارك وتعالى-، بمثل هنا في سورة البقرة {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:2] ففي إشارة إلى القرآن، كأن القرآن من هذه الحروف.

قول آخر؛ وهو أن هذه الحروف هي أدوات تنبيه كمثل أداة التنبيه {الم}[البقرة:1] {كهيعص}[مريم:1] {حم}[غافر:1] {عسق}[الشورى:2]، هذه كأنها أدوات تنبيه، أداة تنبه وتسترعي الانتباه، ثم بعد ذلك يأتي يعني كلام الله -تبارك وتعالى-، والبعض قال أن هذه أسماء للسور، فنسمي هذه السور {الم}[السجدة:1] وهذه {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}[ق:1] ونحو ذلك أنها من أسماء السور، البعض قال: أن هذه ... أنها سائرة على طريقة العد على طريقة أبجد هوز وهذا لا شك أنه قول بعيد ساقط، وأنه ليس هناك ارتباط بين يعني الحروف المقطعة النازلة وبين هذه.

مما يشهد للقول الأول وهو أن الحروف المقطعة تنبيه من الله –سبحانه وتعالى- أن القرآن بلغة العرب أن الحروف المقطعة مجموعها الموجودة في القرآن أربعة عشر حرف، وهي نصف الحروف العربية تمامًا، فلعل هذا إشارة إلى يعني هذا المعنى الذي ذهب إليه من ذهب من أهل العلم، أن هذه الحروف المقطعة إنما هي بيان من الله -تبارك وتعالى- أن القرآن من جنس هذه الحروف أو من هذه الحروف.

{الم}[البقرة:1] ثم قال الله -تبارك وتعالى-: {ذَلِكَ الْكِتَابُ ........}[البقرة:2] ذَلِكَ إشارة إلى البعيد، والقرآن هو القرآن المنزل وهو الذي بين أيدي الناس، إذا أشير إلى القريب بإشارة البعيد فهذا للتعظيم، هذا للتعظيم ذَلِكَ الْكِتَابُ للتعظيم، والوقف عند الْكِتَابُ ذَلِكَ الْكِتَابُ يعني هذا الذي يستحق أن يسمى كتابًا، إن كان في يوجد بأيدي الناس ما ينبغي أن يسمى كتاب فهو هذا، وأما غيره فإنه يسمى كتاب من باب التجاوز، يعني هذا الكتاب الحق الذي ينبغي أن يسمى كتاب ذَلِكَ الْكِتَابُ، ثم جاء وصف هذا الكتاب قال الله -تبارك وتعالى-: {........ لا رَيْبَ فِيهِ ........}[البقرة:2] الرَيْب هو الشك نفى الله -تبارك وتعالى- بلا النافية للجنس أي نوع من الشك عن كتابه، إخبار من الله -تبارك وتعالى- أنه لا يمكن أن يتطرق الشك في هذا الكتاب وأنه من عند الله -تبارك وتعالى-، هذه مقدمة وإخبار من الله -تبارك وتعالى- بأن هذا الكتاب هو الكتاب الحق وأنه لا شك فيه، ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك مواقف الناس من هذا الكتاب فقال: هذا الكتاب {........ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:2] هُدًى الهداية هدايتان؛ هداية توفيق وشرح صدر وتمسك بالنور والصراط والحق، وهُدًى بمعنى البيان والإرشاد، القرآن هدايتان هداية خاصة لمن صدقوا به وآمنوا به هُدًى لِلْمُتَّقِينَ وجاءوا موصوفين هؤلاء {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ........}[البقرة:3]، وإن كان القرآن قد أخبر الله -تبارك وتعالى- بأنه هدايةٌ عامة، قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ........}[البقرة:185] فهُدًى لِلنَّاسِ بمعنى أنه بيِّنٌ واضحٌ لكل أحد، يمكن أن يفهمه كل أحد البر والفاجر، المؤمن والكافر، كلٌ يفهم مراد الله -تبارك وتعالى- {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[القمر:17]، لكن القرآن من يؤمن به يهديه الله -تبارك وتعالى-، ومن يكفر يكون هذا القرآن نفسه عليه عمى {........ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ........}[فصلت:44] وَهُوَ أي القرآن عَلَيْهِمْ عَمًى، وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}[الإسراء:82]، فالقرآن واحد ولكن الذين أمنوا به وصدقوا به هداهم الله -تبارك وتعالى- به هدى خاص هذا، والذين كفروا به وجحدوه أصبح نفس القرآن  عمى عليهم كما قال الله في اليهود: {......... وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ........}[المائدة:68]، يعني يزدادوا بنزول القرآن وهو آيات بينات طُغْيَانًا وَكُفْرًا، وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ يعني الذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، فيزدادوا بالقرآن كفر، وإذا ما أنزل ... أما بالنسبة للمنافقين فقال الله -تبارك وتعالى-: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ}[التوبة:125]، فالقرآن واحد ولكنه يزداد به أهل الإيمان إيمانًا لتصديقهم به فيوفقهم الله -تبارك وتعالى- به، ويزداد به أهل الكفر كفرا، فهنا هُدًى لِلْمُتَّقِينَ هدى خاص للمتقين، المتقين ... التقوى هي الخوف والحماية أقول ... كما أقول: اتقيت المطر مثلًا بمظلتي أو البرد بمعطفي، يعني أني جعلت حماية بيني وبين المطر وبين البرد بها، فالتقوى مخافة وحماية، والمتقون هم الخائفون من الله -تبارك وتعالى- الذين جعلوا بين عذاب الله -تبارك وتعالى- وبينهم .... وقاية لهم من عذاب الله -تبارك وتعالى-، ولا يكون هذا إِلَّا بطاعة الله بالإيمان بالله -تبارك وتعالى- وطاعته، فهذا الذي يتقي به العبد غضب الله -تبارك وتعالى-، وهذا أشرف الأسماء –(لأهل) أهل الإيمان- التقوى، هذا أشرف أسمائهم وأعلاها، وذلك أن المؤمن هو التقي، المؤمن الحق هو التقي هو الذي يخاف الله -تبارك وتعالى-، فيعمل بطاعته ويتقي سخطه وعذابه –سبحانه وتعالى-.

القرآن هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ثم وصف الله -تبارك وتعالى- هؤلاء المُتَّقِينَ فقال من أول أوصافهم {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[البقرة:3-5]

تفصيل هذا الحلقة الآتية إن شاء الله