الخميس 24 شوّال 1445 . 2 مايو 2024

الحلقة (91) - سورة آل عمران 62-64

الحمد لله ربِّ العالمين وأُصلِّى وأُسلِّم على رسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله  -تبارك وتعالى- : {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[آل عمران:61], {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران:62], بعد ثلاث ليال وأيام مِن حِجاج النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مع وفد نجران النصارى، لم يؤمنوا ولم يستجيبوا للحق وكان النقاش في شأن حقيقة المسيح عيسى بن مريم -عليه السلام- وقرأ النبي عليهم ما أنزل الله  -تبارك وتعالى-  في شأنه، وهذا هو القصص الحق مِن الله  -تبارك وتعالى- وكان في ختام هذا أنْ دعاهم النبي بأمر الله  -تبارك وتعالى- إلى المُباهلة وهي أنْ يدعوا الله –تبارك وتعالى- بأنْ يُهْلِكَ الكاذب مِن الاثنين وأصل المباهلة مِن البُهلة طلب البُهلة  والبُهلة هي الهلاك، قال جلَّ وعَلا : {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ}, أي مِن هؤلاء النصارى, {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ}, في شأن عيسى وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وأنه خُلِقَ معجزة خلقها الله - تبارك وتعالى – كما خلق آدم مِن قبل بمعجزته  -سبحانه وتعالى-  بأمر دون خَلْق سائر البشر مِن ذَكَرٍ وأُنْثَى فإن آدم خلقه الله  -تبارك وتعالى-  بيديه مِن طين هذه الأرض  -سبحانه وتعالى-  بعد أن سوَّاه ونفخ فيه مِن روحه فكان بشرًا سويًا، لذلك قال الله -عز وجل- : {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ}, إذا كنتم تقولون بأنه هو أمر الله -عزَّ وجل- مثله في الخلق{.........كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[آل عمران:59], فكذلك خلق الله  -تبارك وتعالى- عيسى بن مريم بأمره -سبحانه وتعالى- وقال له كن فكان.

{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}, وهو الحق مِن الله - تبارك وتعالى-  {فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}[آل عمران:60] ، فليس هو ابناً لله كما زعموا ولا هو الله كما زعموا، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، قال -جلَّ وعَلا- : {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا........} [آل عمران:61]، إذن نحتكم إلى الرَّب جلَّ وعَلا, {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ........} [آل عمران:61].، خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخذ ابنته فاطمة -عليها السلام- وأخذ الحسن والحسين ودعا وفد نجران أنْ يخرجوا كذلك إلى الفضاء أنفسهم هم المجادلون ومعهم أبنائهم ونسائهم ثم يدعوا الله – تبارك وتعالى -  أنْ يهلك الكاذب مِن الاثنين، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين، فكعوا وعلموا أنهم إنْ باهلوا هذا النبي قال بعضهم لبعض إنْ باهلتموه أهلككم الله  -تبارك وتعالى-  وقال النبي: والله لإنْ فعلوا ليرون أنَّ النار تحرق واديهم، قل إذا رجعوا إلى واديهم لملئه الله  -تبارك وتعالى- ناراً أي فأهلكهم جميعًا ما دام احتكموا إلى الله  -عزَّ وجلَّ- إلى هذا النحو وطلبوا البهل بأنفسهم فصالحوا النبي على الجزية ورجعوا ثم كان مِن شأنهم بعد ذلك أنْ تحول هؤلاء الجميع إلى الإسلام.

قال جلَّ وعَلا : {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ}، إنَّ هذا الذى نقص عليك يا محمد في شأن عيسى -عليه السلام- لهو القصص الحق الذى لا ريب فيه ولا شُبهة فيه لأنَّ الله  -تبارك وتعالى- هو الذى يقص وهو الذى ينزله -سبحانه وتعالى-  ومَن أعلم مِن الله ثم قال جلَّ وعَلا : {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ}، هذه حقيقة،  لابد أنْ يصل إليها كل ذي عقل ولُب أنه {مَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ}، ما مِن إله في هذا الوجود على الحقيقة إلا الله وذلك أنَّ هذا الوجود باستقراره وثباته وانسجامه بعضه مع بعض ووحدته الكاملة الشاملة بالضرورة يُنْبِئ أنَّ له إله واحد، كيف؟

أولاً: الإله لا يكون إلا خالق، رازقاً، لابد أنْ يملك لعبده النفع والضر، يملك أنْ ينفعه, يملك أنْ يدفع الضر عنه، فمَن الذى يستحق أنْ يُعْبَدُ, يُسْجَدُ له, يُخَافُ منه, يُرْجَى ما عنده، مَن يملك هذا؟ لا يملك هذا إلا الله -عزَّ وجلَّ-, الإله الواحد  -سبحانه وتعالى-  أما كل ما يُعْبَدُ مِن دون الله فهو لا يملك لعابدها فالملائكة، الجِن، الإنس، الرسل، البشر، ما مِن أحد مِن هؤلاء يملك لمن يعبده نفعًا ولا ضرًا، بل لا يملك لنفسه أصلًا نفعًا ولا ضرًا، لو كان في إله على الحقيقة يخلق ويرزق ويحيى ويميت، لا يبقى هذا الكون على هذا النحو، لابد أنْ يفسد الكون، {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ}، آلهة حقيقيين إلا الله {لَفَسَدَتَا}، فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الأنبياء:22],

فسدتا، كيف تفسدا؟  لأنَّ كل إله لابد أنه يُغالب الآخر ليكون هو الإله وحده، هو الإله الأكبر، فلابد أنْ يكون هناك صراع بينهم، الله يقول : {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[المؤمنون:90]، {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}[المؤمنون:91]، كل إله يذهب بما خلق أي يستقل بالذي خلقه عن الآخر فهذا يخرج بسماوته وأرضه وهذا يخرج بما خلق وهذا يخرج بما خلق لأنَّ هذا إله خالق لم يُزْعِن للآخر؟ لما يكون هذا الإله في خضوع للآخر وهو إله مستقل يخلق ويرزق ويحيى ويميت ويملك إذن لابد أن يستقل أو أن يغالب الآخر ليكون هو الإله، فيفسد الكل، فلابد أن يفسد، {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ........ }[الإسراء:42], صاحب العرش هو الله -سبحانه وتعالى-  الإله الحق، {سَبِيلًا} أي لمغالبته، ليغالبونه  -سبحانه وتعالى- عما يقولون علوًا كبيرًا، أنْ يكون له آلهة أي ينازعونه، يماثلونه، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم:93]، {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا}[مريم:94], {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}[مريم:95]، فالكل عبيده، ليس ثَم ابن له أو شبيه له أو مثل له أو جزء له، ليس لله زوجة {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ}, صاحبة تساويه وتداريه لأنَّ الزوجة لابد أنْ تكون كُفء لزوجها، والله لا كُفء له  -سبحانه وتعالى-  ولا نِد له تعالى الله أن يكون له كفء، ولا شبيه وله نظير، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا -سبحانه وتعالى-، فالقول بأنَّ لله ولد مقالة نجسة، بمعنى كبيرة جدًا في الإثم والخبث كما قال -تبارك وتعالى- : {........كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}[الكهف:5], {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1], {قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكهف:2], {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف:3], {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف:4], {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:5], فهذه كلمة كبيرة في الإثم وفى الوقاحة والأرض التي هي الأرض ثم الجبال تكاد تتفتت مِن وقاحة ومِن عِظَمِ هذه الكلمة كمال قال  -تبارك وتعالى-,  {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا}[مريم:88], {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا}[مريم:89],{تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا}[مريم:90], {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا}[مريم:91], {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا}[مريم:92], {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم:93], {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا}[مريم:94], {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}[مريم:95].

فالرب -جلَّ وعَلا- يقول: {مَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ}، ضرورة يصل إليها كل ذي عقل ولُب حتى بدون وحى، إذا لم يوجد وحى نازل مِن السماء لوصل كل ذي عقل ولُب بالنظر في هذا الكون إلى هذه الحقيقة، أنَّ هذا الكون أولًا لا يمكن أنْ يكون قد خرج وحده، خرج بدون مخرج له يستحيل, أُحْكم هذا الإحكام وهذا البناء بدون مُحْكِم، يستحيل هذا الذى أحكم هذا البناء لابد أنْ يكون أقوى مِن هذا البناء وأقدر منه وعنده علم هائل جدًا وسِعة هائلة فلابد أنْ يكون كذلك، إذن هو لابد أنْ يتصف بهذه الصفات بالعلم، بالسعة، بالقوة، بالمتانة، بالحكمة.

إذن لا يمكن أنْ يكون قد خلق هذا عبثًا وسُدىً، بمعنى يخلق هذا الخَلْق ثم يخلى هذا البشر العظيم الذى خلقه قطاع هائل جدًا مِن العالم، هذا جزء كبير مِن خلق البشر، هكذا يُخَلِّيهِم، يتركهم سدىً وعبثًا، يقتلون، يسفكون، يلعبون، يمرحون، يفعلون ما يشاؤوا بأهوائهم، يُشرِّعون لأنفسهم ويتركهم لا يأمرهم ولا ينهاهم، تعالى الذى خَلَقَ هذه الأرض أنْ يُخَلِّىَ خَلْقَهُ على هذا النحو فيتركهم. إذن لابد أنْ يأمرهم، إذن لابد أنْ نصل بعد ذلك إلى ضرورة إرسال الرسل، لأنه لابد أنْ يكون لهذا مَن يدل عليه لهذا الرب الإله خالق هذا الكون مَن يدل عليه نجد أن هناك ناس دالين على الله, خرج ناس على مدار التاريخ كل واحد يقول أنا رسول ربِّ هذه السماء، هذا نوح يقول أنا رسول الله، أرسلني بكذا وكذا وهذه الأدلة وهذه المعجزات ثم يأتي بعده رسول إثر رسول إثر رسول إثر رسول إلى خاتمهم وسيدهم محمد بن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه-، رجل أُمي يعيش أربعون سنة في مكة لم يقرأ ولم يكتب ثم يخرج فجأة على الناس ويقول للناس أنا أرسلني إله السماوات والأرض، إله هذا الكون أرسلني، ما دليلك؟ كيف نصدق أنه أرسلك؟ يقول أنزل عليَّ كلام عربي، أنتم عرب، هاتوا كلام مِثْل هذا الكلام إنْ دحضتموه وأتيتم بكلام مثله أكون لست برسول ويتحدى العالمين ويأتي بخوارق ومعجزات، ومِن ضمن هذه الخوارق يقون الناس في مكة في قلة جدًا من الناس الذين آمنوا به وصدقوه أنا سيمتد ملكي إلى هذه الأرض كلها, ديني سيعلو على كل دين، سأحطم كِسْرِى وسأحطم قيصر ولن يبقى منهم، وهذا الدين سيظهر على الناس كلهم.

{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التوبة:33], ويتكلم كلام الواثق الذى يرى أنَّ هذا الوعد لابد أنْ يكون ويكون كل ما يتكلم به يكون كما تكلم به تمامًا, ينزل إلى أرض المعركة في بدر فيقول هنا يُقْتَل فلان وهنا يُقْتَل فلان وهنا يُقْتَل فلان وهنا يُقْتَل فلان، يقول عبد الله بن مسعود : (فو الله ما جاوز أحد مِن هؤلاء المشركين مكانه الذى أشار إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الموقعة), علمًا أنَّ هذه الموقعة بالنظر يستحيل أنْ يفكر إنسان بأنَّ هذه الفئة القليلة ستغلب هذه الفئة الكثيرة، ثم يكون الأمر كما أخبر به تمامًا كما أخبر، فهذا لاشك أنه مؤيد بالمعجزات، إذن ضرورة إرسال الرسل وضرورة تصديقهم، ضرورة تلجأ لها الضرورة لا يكذب الرسل إلا معاهد مكابر، فهنا الرب يقول وما مِن إله إلا الله ضرورة عقلية يصل إليها كل ذي عقل وكل ذي لُب, {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}, هذا خبر منه -سبحانه وتعالى- وكذلك بضرورة العقل يصل كل ذي عقل إلى هذا، {إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ}, الغالب، فالذي خلق هذا الكون لا يمكن أنْ يكون هناك مِن يغلبه، الذى وضع الشمس في محلها والقمر في مكانه ووضع الأرض في مكانها وهذه المجرات في مكانها وصنع هذا الكون، هذه الصنعة الباهرة العظيمة لا يمكن أنْ يغلبه أحد، مَن يستطيع أنْ يغلب هذا الإله الخالق هو العزيز الغالب الذى لا يغلبه أحد، ثم : {الْحَكِيمُ}, الذى يضع كل أمر في نصابه، يوجد شيء خارج نصابه؟ انظر هكذا ظفرك هل هذا موضوع خطأ، هذا الغضروف الموجود في آخر الإصبع ليقوِّى هذا الإصبع لو لم يكن موجوداً تفقد اليد قدرتها التي هي فيها، لا يوجد ظفر، شعرة، ذرة، لا توجد في غير مكانها، كل أمر موجود في مكانه خَلْق مُحْكَم، {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ}[السجدة:7], فكل خلق الله  -تبارك وتعالى- حسن وفى غاية الإحكام وهو في مكانه الصحيح تماماً، وأي تحويل لشيء مِن مكانه إلى مكان آخر يكون تشويه.

لو كان للإنسان منا هذه العينين التي فيه هي عين واحدة فقط لكان منظره سيئ جدًا، ولو كانت العين في أعلى الرأس لكان شيئًا في منتهى السوء أو له عين في الأمام وعين في الخلف، كل أمر في نصابه، كل أمر أحكمه الله  -تبارك وتعالى- فهو الحكيم، حكمته في الخلف وحكمته في الفعل وفى التصريف كل أمره -سبحانه وتعالى- إلى حكمة فهو العزيز، فقول الله تعقيبًا على هذا ما قصَّه الله في شأن عيسى {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ........} [آل عمران:62] الغالب الذى لا يغلبه أحد, {الْحَكِيمُ}, الذى يضع كل أمر في نصابه  -سبحانه وتعالى-.

بعد هذا، بعد وضوح الحجة والبيان، قال -جلَّ وعَلا- : {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} [آل عمران:63], إنْ تولوا عن الحق وعن قبوله بعد هذا البيان تولى هؤلاء الكفار المعاندون, {فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ}، فعيل بمعنى فاعل بمعنى أي عالِم وهذه صيغة مبالغة مِن العِلم ومعنى أنه عليم علماً محيطاً كاملاً بالمفسدين وهو لا مفسدون لأنَّ الشرك بالله  -تبارك وتعالى-  أعظم فساد، القول على عبد الله أنه هو الله أعظم فساد، أعظم فساد أنْ يُنْسَب إلى الله  -تبارك وتعالى-  الولد وبالتالي أنه إذا نُسِبَ إليه الولد معناه أنه إله خالق رازق كما تقول النصارى هو إلهٌ حق مِن إلهٍ حق، يخلق ويرزق, يحيى ويميت يُدِينُ الأحياء والأموات يتصرف فهو كالأب تمامًا بل هو يقول أقنون مع الأب أعظم فساد، نسبة المخلوق ليكون هو الخالق وهو عبد ذليل لله مطيع له ليس بيده نفع ولا ضر ثم هذا العبد يُعْطَى حق الله  -تبارك وتعالى-  فيُعْبَد، يُقَدَّس، يُنْزَلُ منزلة خالق السماوات والأرض وخالق الخلق أعظم فساد، هذا فساد عظيم، ثم ما يتلوا هذا بعد ذلك مِن الفساد مِن الكذب عليه أنْ يقال أنه قال لبطرس ابنى كنيستك على هذه الصخرة وما تحله في الأرض يحله الله في السماء وما تربطه في الأرض يربطه الله في السماء.

إذن مُشَرِّع، إذن كن مشرع، أَحِل ما تشاء، وحَرِّم ما تشاء، فيجعل التحليل والتحريم والتشريع للبشر للخلق وكأنَّ الله ليست مهمته إلا التوقيع على ما يُشَرِّعه عباده وهو عليه أنْ يوقع بالرضا سواء هذا وافق أمره أم لم يوافق أمر في منتهى الشناعة، هذا إفساد مِن أعظم الإفساد، {فَإِنْ تَوَلَّوْا}, أي عن قبول هذا الحق الذى جاءك مِن الله  -تبارك وتعالى-  {........فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} [آل عمران:63], ثم وجه الله  -تبارك وتعالى-  إليهم الدعوة بعد ذلك الدعوة إلى الدخول في الصراط.

قال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64], {قُلْ}، أمرٌ مِن الله  -تبارك وتعالى-  لرسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه- أنْ يُعلن في هذا القرآن وأنْ يقول ويدعوا أهل الكتاب، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}، نداء إلى أهل الكتاب إلى النصارى، إلى اليهود، سُمُّوا أهل كتاب لأنهم في زعمهم متمسكون بكتاب مِن عند الله، التوراة والإنجيل، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}، يا مَن تدَّعون تمسككم بهذا الكتاب علمًا بأنَّ هذا الكتاب يدعوهم إلى قبول الحق مِن كل رسول يرسله الله  -تبارك وتعالى -.

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}, {تَعَالَوْا}, أقدموا والعرب تقول تعالى مِن باب تكريم مَن تدعوه تعالى مِن العلو، ارتفع وتعالى، {تَعَالَوْا}, أقدموا, {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}, كلمة نتفق عليها أنا وأنتم تحتها يقبل بها الجميع، تجرى علىّ وعليكم هذه الكلمة سنكون تحتها سواء أنا وأنتم {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}, {بَيْنَنَا}, نحن أهل الإسلام, {وَبَيْنَكُمْ}, أنتم يا أهل الكتاب, {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا}, هذه الكلمة، {تَعَالَوْا}, نتفق على عبادة الإله الواحد  -سبحانه وتعالى-  هل في ذلك ريب؟ هل في ذلك شك؟ هل في هذا منقصة؟ هل في هذا انحراف؟ وهو ألا يُعبد إلا الله، هل الله لا يستحق العبادة؟ الله خالق السماوات والأرض، مرسل الرسل، منزل الكتب، مُجْرِى السحاب، كل هذا الكون هو صنعته وخلقه، ألا يستحق العبادة؟ ألا نعبد إلا الله ألا نَذِلَّ إلا لله  -سبحانه وتعالى-  فالعبادة ذُل وخضوع وطاعة اسم جامع بكل ما يريده الله -عزَّ وجلّ- مِن خلقه أنْ يدخلوه فيه، {وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا}, ولا نشرك به شيئاً، لا نشرك شيئاً بالله  -تبارك وتعالى-  شرك، إما بمعنى نسبة هذا المخلوق نعطيه ونخلع عليه صفات الرب -جلَّ وعَلا- أو نعطيه حق الرَّب -جلَّ وعَلا- فنعبده مع الله  -تبارك وتعالى-  هذا نوع مِن الشرك، أو نقول إنَّ الله  -تبارك وتعالى-  حل في مخلوق مِن هذه المخلوقات فنرفع هذا المخلوق إلى منزلة الرَّب  -تبارك وتعالى-  وكل هذه مِن أنواع الشرك, {وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا}, لأنَّ الله هو واحد أحد -سبحانه وتعالى- لا يقبل الشريك ولا يقبل التجزيء، الله لا جزء له، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1], {اللَّهُ الصَّمَدُ}[الإخلاص:2], {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}[الإخلاص:3], {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4].

قال -جلَّ وعَلا- : {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف:15], الله لا جزء له  -سبحانه وتعالى-  {وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}, {لا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}, لا يوجد رب لنا ربنا الله الواحد  -سبحانه وتعالى – الذى هو السيد المطاع، كلنا نكون عبيد طائعون لله -تبارك وتعالى-  فليس لنا رب إلا الله، {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}, كما الشأن في النصارى الذين حرَّفوا دينهم واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً مِن دون الله، وجعلوا المسيح كذلك، والمسيح بن مريم جعلوه ربًا مِن دون الله، فالله  -سبحانه وتعالى-  لا شريك له, أما اتخاذهم الأحبار والرهبان أرباب أنهم جعلوهم مُشَرِّعيَن يشرعون لهم فيحلون لهم الحرام ويحرمون لهم الحلال فيتبعونهم وهذا التشريع حق لله  -تبارك وتعالى-، أي الذى يحق له أنْ يقول أنَّ هذا حلال وهذا حرام الرَّب الإله وحده  -سبحانه وتعالى-  أما المخلوق فلا، المخلوق ليس مِن حقه أنْ يقول هذا حلال وهذا حرام إنما الخالق فقط، الخالق الذى خلق هو الذى يقول هذا حلال وهذا حرام، هذا افعلوه وهذا لا تفعلوه، أما المخلوق ليس مِن حقه أنْ يفعل ما يشاء وأنْ يحل وأنْ يحرم كما يشاء، لا، يكون هذا افتراء على الله -عزَّ وجلَّ- ويكون هذا قد وضع نفسه موضع الرَّب الإله  -سبحانه وتعالى-  {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}, بمعنى كما شرعوا، كما كتبوا هم ونصُّوا ووضعوا مِن الأصول عندهم في الإنجيل أنَّ عيسى نفسه قال أنَّ عيسى نفسه قال لبطرس ابنى كنيستك على هذه الصخرة وما تحله في الأرض يحله الله في السماء، وما تربطه في الأرض يربطه الله في السماء.

فالحل والعقل هو بيدي بطرس وبيدي مِن بعده فلذلك البابا الذى هو رأس الكنيسة يُحِلُّ كما يشاء ويُحَرِّمُ كما يشاء وعلى الناس أنْ يتبعوه فله سلطة تفويضية مِن الرَّب ويحكم باسم الإله، تفويضًا مِن الرَّب قد فوضه في التشريع، تعالى الله عن ذلك ولما قرأ النبي {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ........} [التوبة:31] وكان قد دخل عليه عدى بن حاتم الطائي وطيء قد تنصرت في الجاهلية وقد علَّق صليب الذهب في رقبته وجاء إلى النبي وقال له : يا رسول الله ما عبدناهم، قال له يا عدى ألم يحلوا لكم الحرام فتتبعوهم ويحرِّموا عليكم الحلال فتتبعوهم، قال: قلت بلى، قال: فتلك عبادتكم إياهم، هذه هي العبادة, {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه}, هذه هي اتخاذهم أرباب مِن دون الله مُشرِّعين وكذلك اتخذوا المسيح رب بل قالوا إنه هو الله ذاته، صفاته، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا, {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}, فهذه دعوة إلى عبادة الله الواحد  -سبحانه وتعالى-  وأنْ نكون جميعًا سواسية في هذا الأمر، ليس هناك سيد يُشَرِّعُ ويضع نفسه موضع الرب  -سبحانه وتعالى -.

هل هناك دعوة مستقيمة كهذه الدعوة؟ دعوة كلها استقامة على أمر الله  -تبارك وتعالى-  كلها ظاهرة واضحة للعيان أنها دعوة حق لا لَبْسَ فيها، لا غموض فيها، لا باطل فيها, قال -جلَّ وعَلا- : {........ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران:64], هذه مفاصلة، دعوة إلى الحق وإنْ تولوا عن هذا ، {تَوَلَّوْا} بمعنى أعرضوا وتركوا هذا الحق, {فَقُولُوا}, أيها المؤمنون, {اشْهَدُوا}, للجميع, {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}، أي منقادون لله  -تبارك وتعالى-  مطيعون له، فلا نعبد إلا إلهنا ربنا الإله الواحد  -سبحانه وتعالى-  ولا نُعْطِى أحداً صفة الربوبية إلا لله، سواءً الربوبية في الخلق والرزق أو في التحليل والتحريم والحكم، هذا لا نعطيه إلا لله  -تبارك وتعالى-  فالله هو ربنا وحده -سبحانه وتعالى-  {فَقُولُوا اشْهَدُوا}، أي يا أهل الكتاب, {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}, لله  -تبارك وتعالى-  نعبد الله وحده، مسلمون بهذه الكلمة, {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}.

ثم جاء السياق بعد ذلك ليدخل مع هؤلاء اليهود والنصارى في نقاشهم, في دعواهم التي يدعونها ومِن أعظم دعواهم أنَّ إبراهيم كان على دينهم، إبراهيم متفق عليه؛ على أنه رسول الله المبارك المؤيد بوحى مِن الله  -تبارك وتعالى-  واليهود يريدون أنْ يَجرُّوا إبراهيم إليهم، والنصارى كذلك يَجرُّون إبراهيم إليهم وكلٌ يقول نحن على ملة إبراهيم وإبراهيم كان على ديننا، فيجعلون إبراهيم على دينهم، فهم قلبوا الأمر، ما يجعلون أنفسهم اليهودية هي دين إبراهيم لا بل يجعلون إبراهيم نفسه يهودي، وإبراهيم نفسه نصراني، وكل هذا للخصومة في شأن إبراهيم لينسبوا أنفسهم إلى هذا الأب العظيم والنبي الكريم الذي كأنَّ مَن حاز إبراهيم فقد حاز السبق وكذلك حاز الهداية إلى الصراط المستقيم.

ندخل إنْ شاء الله في هذه الآية في قول الله : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[آل عمران:65], في الحلقة الآتية إنْ شاء الله, أقول قولي هذا, واستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب, واُصلي وأُسلم على عبد الله ورسوله محمد.