الخميس 24 شوّال 1445 . 2 مايو 2024

الحلقة (92) - سورة آل عمران 65-76

الحمد لله ربِّ العالمين وأُصلِّى وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله  -تبارك وتعالى- : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64], {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [آل عمران:65], {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [آل عمران:66], {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67].

بعد ما أقام الله -سبحانه وتعالى-  الحجة على أهل الكتاب في بيان حقيقة عيسى بن مريم -عليه السلام- ثم في أمره -صلى الله عليه وسلم- لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- أنْ يدعوا أهل الكتاب المجادلين في حقيقة عيسى إلى المباهلة. قال -جلَّ وعَلا- : {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[آل عمران:61].

ثم إنه لمَّا دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- وفد نجران الذين مكثوا يناقشون طويلاً في شأن المسيح عيسى بن مريم -عليه السلام- ثم لمَّا دعاهم إلى المباهلة في النهاية خافوا وجبنوا وقال بعضهم لبعض إنْ باهلتموه أفناكم الله  -تبارك وتعالى-  فرجعوا عن هذا، قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ أي في شأن عيسى, {........وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران:62], {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ}[آل عمران:63].

ثم دعاهم الله  -تبارك وتعالى- على لسان نبيه -صلوات الله والسلام عليه- هنا لا يأتي المنزلة مِن عند الله  -تبارك وتعالى -  أمر الله -جلَّ وعَلا- رسوله أنْ يقول لهم : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ........} [آل عمران:64], وهذه دعوة إلى الحق وأنْ يكون الجميع تحتها سواء فلا إله إلا الله  -سبحانه وتعالى-  حقًا وصدقًا، ليس هناك مِن إله إلا الله ثم : {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}, كما الحال عند اليهود والنصارى فإنهم تركوا التشريع بيد الأحبار والرهبان فهم سادتهم يشرِّعون لهم ويحلون لهم الحرام فيتبعونهم ويحرمون عليهم الحلال فيتبعونهم، أنْ نجعل التشريع كله لله  -تبارك وتعالى-,  {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}.

قال -جلَّ وعَلا- : {........ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64], أعلنوا إسلامكم لله  -تبارك وتعالى-,  ثم قال -جلَّ وعَلا- : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [آل عمران:65], وذلك أنَّ اليهود قد كانوا يشرفون ويدَّعون أنهم على ملة أبيهم إبراهيم وأن إبراهيم الذى باركه الرب وجعل النبوة في ذريته أنهم أبناؤه وأنهم على دينه وعلى ملته وأنهم أولى الناس به، بل إنهم جعلوا إبراهيم يهوديًا على دينهم وكذلك فعل النصارى فإبراهيم النبي المُعَظَّم عند الله  -تبارك وتعالى-  كذلك نسب النصارى أنفسهم إليه وأنهم على دينه وعلى ملته وأنهم أبناؤه وأنَّ إبراهيم قد كان كذلك نصرانيًا يَتَّبعُ الإنجيل، فبين الله  -تبارك وتعالى- سخافة عقولهم وأنهم نسبوا إبراهيم إلى اليهودية والنصرانية والحال أنَّ اليهودية والنصرانية لم تكن إلا مِن بعده فإنَّ بين موسى وبين إبراهيم زمنًا طويلًا ثم بين عيسى وبين موسى زمنًا طويلًا, قال -جلَّ وعَلا- : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ........} [آل عمران:65], يزعم كلٌ أنه على ملته وعلى دينه، {........وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [آل عمران:65], ألا عقل لكم فتنسبوا هذا المُقَدَّم إبراهيم -عليه السلام- إلى دين جاء متأخرًا عنه والشريعة جاءت متأخرة عنه، ألا عقل لكم, {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أساس مِن العلم أما هذا الأمر فإنه مناقض للعقل ولا يستند إلى عقل ولا إلى أثر, {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ........} [آل عمران:66]،  أي وتجادلون, {........فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[آل عمران:66]، {ما كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا}, لم تكن شريعة إبراهيم هي شريعة التوراة ولا شريعة إبراهيم هي شريعة الإنجيل فلم يكن يهوديًا ولا نصرانيًا, {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا}, الحنيف هو المائل عن كل طرق الشرك، فقد مال إبراهيم عن كل طرق الشرك واتجه إلى صراط الله  -تبارك وتعالى -  المستقيم مُوَحِّدًا عابدًا لله وحده  -سبحانه وتعالى-  {مُسْلِمًا}, أي منقادًا ومزعنًا لله  -تبارك وتعالى-  بمعنى الإسلام العام الذى هو دين الرسل جميعًا ودين الأنبياء جميعًا، الإسلام لله - تبارك وتعالى -  {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[آل عمران:67]، لم يكن على شرك وفى هذا تعريض على ذلك بما عليه اليهود مِن الشرك وما عليه النصارى مِن الشرك في عبادة عيسى بن مريم -عليه السلام- فلم يكن إبراهيم على شيء مِن هذا الشرك الذى هم عليه بل كان حنيفًا مسلمًا.

ثم بيَّن - سبحانه وتعالى- أن أولى الناس أنْ ينسب إلى إبراهيم وأنْ يكون على دينه هذا النبي محمد -صلوات الله والسلام- عليه نسبًا ودينًا، قال : {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران:68], {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ}, أنْ ينسب إلى إبراهيم وأنْ يَشْرُف بانتمائه إليه, {لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}, مِن بنيه فالذين اتبعوه مِن أولاده على الحق كإسماعيل بِكْرُهُ وإسحاق ابنه ويعقوب مِن بعد ذلك هؤلاء الذين كانوا على دينه واتبعوه كما قال - تبارك وتعالى - في كلمة التوحيد : {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الزخرف:28], فالذين كانوا على ملة إبراهيم الحنيفية مِن بنيه ومَن اتبعهم هؤلاء هم أولى الناس به وهذا النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، فإنه أولى الناس بإبراهيم أنْ ينسب إليه فإنَّ دينه دينه ثم إنه مِن بنيه, مِن أولاده هذا أمرٌ آخر والذين آمنوا الذين هم أتباع محمد -صلوات الله والسلام عليه-, الذين آمنوا بهذا النبي الخاتم والذين هم على ملة ونهج إبراهيم -عليه السلام-.

 {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}، بيان مِن الله -تبارك وتعالى- أنه ناصر ومؤيد لهؤلاء المؤمنين الذين هم أتباع إبراهيم على الحقيقة، ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- مكر وكفر أهل الكتاب هؤلاء الذين يدعون الهداية والاستقامة وأنهم على دين إبراهيم أنهم ضُلَّال، كفار، صادين عن سبيل الله.

قال -جلَّ وعَلا- : {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [آل عمران:69], {وَدَّتْ}، أحبت, {طَائِفَةٌ}, جماعة, {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}, مِن اليهود، {لَوْ يُضِلُّونَكُمْ}, أي معشر المسلمين, المخاطَب هنا هم أهل الإيمان من أتباع محمد -صلوات الله وسلامه عليه- وهم المسلمون, قال -جلَّ وعَلا- : {........وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [آل عمران:69]. أي أنهم باتخاذهم الضلال حرفة ودين وأسلوب ووسيلة ليضلوا غيرهم، إنما هم يضلون بأنفسهم لأنَّ مَن أراد أنْ يجعل غيره في الضلال والله عاصم هذا الغير بأمره -سبحانه وتعالى- فهذا هو الضال، فهذا هو الضال على الحقيقة هو الذى يريد أنْ يضل غيره عن طريق الإسلام، قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ}، لأنهم جعلوا الضلال حرفةً ووسيلةً لهم ورغبةً في أنْ يصدوا أهل الإيمان عن الإيمان، قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا يَشْعُرُونَ}، فلا يكون الإنسان إذا حب لغيره الضلال، كيف إذا حب لغيره الضلال يكون هو قد ضل، ولذلك قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا يَشْعُرُونَ} أنَّ فعلهم هذا هو الضلال بعينه، ثم هذه صورة مِن صور الإضلال.

قال -جلَّ وعَلا- : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [آل عمران:70], نداء مِن الرَّب  -تبارك وتعالى-  إلى أهل الكتاب ويقول لهم الله  -تبارك وتعالى- مُبَكِّتًا ومنكرًا عليهم، يقول : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}, وفى مناداة الله  -تبارك وتعالى- لهم بأنهم أهل الكتاب هذا تذكير لهم بالكتاب الذى المنزل عليهم والذى يزعمون التمسك به وينبغي أنْ يقيموه، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ........}[آل عمران:70], المنزلة سواء أكانت آيات الله المنزلة عندهم في التوراة والإنجيل بعدم إيمانهم بالنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- فإنَّ صفته وإنَّ الله أمرهم في هذه الكتب بأنْ يؤمنوا بالنبي أو بآيات الله -تبارك وتعالى- المنزلة على عبده ورسوله محمد والتي يناديهم الله -تبارك وتعالى- ويخاطبهم أنْ يؤمنوا به وبنبيه الخاتم -صلوات الله والسلام عليه-، {........لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}[آل عمران:70], {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}, هذه شهادة حضور وعِلْم بما في هذه الكتب فتعلمون هذا وتشهدون به شهادة وتعلمونه، أي حال كونكم تشهدون هذا وتعلمونه تكفرون بالله  -تبارك وتعالى- فليس كفرهم عن جهل وعن عدم عِلْم بل عن شهود وحضور ومعرفة بفعلهم هذا، {........لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}[آل عمران:70], {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ........} [آل عمران:71], هذه صور كذلك مِن صور مكرهم وضلالهم يخاطبهم الله -تبارك وتعالى- فيها لعلهم أنْ ينزعوا عن هذا الإثم والفجور الذى هم فيه، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ........} [آل عمران:71]، {تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} تخلطون الحق بالباطل، يختلط هذا بهذا فيختلط الأمر فيصبح الباطل أو الحق قد لَبِسَ لباس الباطل {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، وكتمانهم للحق كبير مما أُخِذَ عليهم مِن العهد والميثاق ومما عندهم مِن صفة النبي مِن وجوب إيمانهم بالله  -تبارك وتعالى-  مِن قولهم بأنَّ هذا النبي محمد ليس هو رسول الله، هو رسول الله للعرب فقط إنما هو رسول الله للأميين  وليس لهم، كل هذا مِن كتمان الحق وهم يعلمون أنَّ ما يقولونه إنما هو زور وباطل فيكتموا الحق، قال جلَّ وعَلا: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، أنكم كاتمين للحق، فأنتم تعلمون الحق الحقيقي، الحق على الحقيقة ولكنكم تزورون وتُلَبِّسُونَ الحق ثوب الباطل.

قال -جلَّ وعَلا- : {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72], صورة مِن صور المكر والخبث ومحاولة لصد أهل الإيمان عن الإيمان، {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}، {طَائِفَةٌ} ، جماعة منهم مِن أهل الكتاب مِن اليهود, {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ}،أي ادخلوا في الإسلام في أول النهار وأعلِنوا أنكم مسلمون وجه النهار أولاً، {وَاكْفُرُوا آخِرَهُ}، وفى آخر النهار أعلِنوا لهم أنَّ هذا الدين قد خبرناه ودخلنا فيه فرأينا أنه ليس بدين حق وإنما هو دين باطل وارجعوا إلى دينكم مرة ثانية ويفعلون هذا الفعل وذلك ليصدوا أهل الإيمان عن الإيمان فيكسروا قلوبهم أولاً يوهموهم بأنهم عندما يدخلوا في الإسلام هؤلاء هم أهل العلم وأهل التوراة وأهل الكتاب القديم وقد استحسنوا الإسلام  ودخلوا فيه فإذا خرجوا عنه بعد ذلك يقولون لا إنَّ هؤلاء قد خَبَرُوا هذا الإسلام وخَبَرُوا هذا الدين وعلموا أنه دين باطل، إذن هنا يتزلزل صف أهل الإيمان وقد ينصرفون عن الدين.

{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72], أي لعل أهل الإسلام يرجعون عن دينهم ويتركونه وهذا منتهى التدليس والكذب والصد عن سبيل الله، ثم مِن تتمة كلامهم : {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ........} [آل عمران:73], ولا تؤمنوا تصدقوا وتدخلوا في الدين, {إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ}, فقط فلا تؤمنوا، قالت اليهود لا تؤمنوا إلا مَن كان يهودياً على مِلَّتِكُم مِن بنى إسرائيل وكذلك النصارى، قالوا كذلك لا نؤمن إلا مَن كان على ديننا وعلى ملتنا.

قال -جلَّ وعَلا- : {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}, قل لهم مجيبًا لهم على هذا التلبيس وعلى هذا الفعل الخبيث الذى يفعلونه {قُلْ إِنَّ الْهُدَى}، بحصر الهُدى كل الهُدى، {هُدَى اللَّهِ فهو مُلْكُهُ وهو الذى يُقَدِّرُهُ وهو الذى يوفق له مَن يشاء  -سبحانه وتعالى-, {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}, فالتوفيق للطريق والهداية هنا تمسك بها إنما هو فعل الله  -تبارك وتعالى-.

ثم قال جلَّ وعَلا : {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ}، أي تفعلون هذا الإجرام وهذا الخبث وهذا اللف والدوران لصرف الناس عن الدين حتى لا يؤتى أحداً مثل ما أوتيتم، تظنون أنَّ عندكم الدين وعندكم الخير وأنتم شعب الله حباكم بهذا لا تريدون لأحد أنْ يهتدى ويدخل طريق الرَّب  -تبارك وتعالى- {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ}، فتفعلون هذا، هذا حسدٌ وبغى بل المؤمن على الحقيقة يجب أنْ يدخل الناس كلهم في الدين لو كان هذا الأمر ممكناً ومقدراً أنْ يهتدى الناس لأنَّ هذا طريق الرب فمَن أحب الله  -تبارك وتعالى- أحب أنْ يدخل الناس كل الناس في طريق الرَّب ليهتدوا، أما أنْ يقول هذه الهداية ينبغي أنْ تكون لي وأنَّ هذا الخير لا ينبغي أنْ يُدَلَّ أحدٌ عليه ولا أنْ يدخل أحدٌ فيه وينبغي أنْ يكون حكرًا لنا وحدنا لا ينازعنا فيه أحد.

قال -جلَّ وعَلا- : {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ}، أي كذلك يخافون أنْ يدخل أحد منهم إلى هذا الدين حتى لا يحاجوهم عند ربهم لأنهم مجرمون، لا يطبقون دين الله  -تبارك وتعالى- كما هو، لا يعملون بالتوراة والإنجيل كما أنزلهما الله -تبارك وتعالى- وإنما يُلَبِّسُون فعلوا شيئًا وأخفوا شيئًا، فإذا دخل الناس واهتدوا وعرفوا حقيقة الأمر وكانوا مهتدين وأنزل الله -تبارك وتعالى- على أهل هذه الرسالة الخاتمة ما عند اليهود ما يخفونه ما بدلوه، ما غيروه, أظهر لهم فضائحهم، عند ذلك يحاجوهم بهذا المنزل عند الله -تبارك وتعالى- هذا جهلٌ منهم، ألا يظنون أنَّ الله تعالى يعلم حقيقة أمرهم وهل هم متمسكون حقاً بالتوراة أم لا؟ {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ}.

قال جلَّ وعَلا : {........قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[آل عمران:73], {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ}، الفضل هو الإحسان والمَنّ والكرم، عطاء الله -تبارك وتعالى- بيد الله، فهو مُلْكُهُ -سبحانه وتعالى- يعطيه مَن يشاء -سبحانه وتعالى-بيد الله, {يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}   يعطيه مَن يشاء مَن عباده  -سبحانه وتعالى- والفضل هنا هو الدين، الدين والتوفيق إلى توحيد الله  -تبارك وتعالى- وعبادته، {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم}، واسع في عطائه -سبحانه وتعالى- ليس على عطائه حد، ليس لعطاء الله  -تبارك وتعالى- حد يمكن أنْ يقال عنه، ولا ينقص عطاء الله  -تبارك وتعالى- مهما أعطى الله  -جلَّ وعَلا-، فإنها لا تنقص ما عنده  -سبحانه وتعالى- فالفضل كله بيد الله الدنيا والآخرة كلها ملك الله  -تبارك وتعالى- والله يؤتى من فضله يؤتى فضله مَن يشاء -جلَّ وعَلا- {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم}، عليم بمن يستحق هذا الفضل فيسوقه إليه ويوفقه إليه -سبحانه وتعالى-, {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}، هذا الدين، رحمته هنا الدين يختص بها مَن يشاء، والاختصاص هنا اختيار واجتباء وانتقاء، فالله  -تبارك وتعالى-  ينتقى لدينه ويختص به مَن يشاء مِن عباده بحكمته ورحمته وعدله وإحسانه، يعطى هذا لِمَن يشاء -سبحانه وتعالى- .

وقد شاء الله -تبارك وتعالى- ألا تكون رحمته بالدين لكل أحد وإنما يخص بها مَن يشاء من عباده -سبحانه وتعالى-, {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، الله -جلَّ وعَلا- هو صاحب الفضل العظيم، العطاء الواسع، والفضل هنا فضله, عطائه ومنته وكرمه وأعظم عطائه الدين، مَن أعطاه الله - تبارك وتعالى- الدين فقد مَنَّ عليه بأعظم عطاء وأعظم مِنَّة لأنَّ كل الخير والفلاح يترتب على هذا، يقف عند هذا، وأما الدنيا فإنَّ الله -تبارك وتعالى-  يعطيها لِمَن يحب ولا يحب، فالعطاء العظيم والفضل العظيم حقيقة هو الدين، دين الله  -تبارك وتعالى -.

 ثم بعد هذا بدأ الرب  -تبارك وتعالى- يبين نفسيات وحقائق أهل الكتاب وأنهم ليسوا أيضاً سواء في أخلاقهم وتعاملهم, قال -جلَّ وعَلا- : {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:75], {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}, أي بعضًا, {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}، قنطار مِن الذهب وهذا ثروةٌ عظيمةٌ، لو أمنته على هذا ولم تأخذ عليه عهدًا ولا ميثاقًا ولا شهودًا {يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}، وذلك لأنه صاحب أمانة، يخاف الله يعاقبه فيؤدى إليك هذه الأمانة، أي أنَّ منهم أهل أمانة لا يجحدون حق الغير ويراعون الرَّب ويتقونه، {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا........} [آل عمران:75], ومنهم أهل خيانة, {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ}, وهذا شيءٌ قليلٌ لا يطمع إنسان كثيراً فيه، لكن لو كان دينار فإنه { لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}, خيانة, {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}، {إِلَّا مَا دُمْتَ}, على هذا الخائن قائمًا بالمطالبة والملاحقة حتى يعطيك ما استأمنته عليه.

بيَّن الله  -تبارك وتعالى-  أن هذا أيضاً الانحراف في فهم الدين الذى عندهم ولتبديلهم للدين، قال -جلَّ وعَلا- : {ذَلِكَ}, أي هذه الخيانة مِن أهلها, {بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}, أي أنَّ هؤلاء الخونة الذين يخونون الأمانة على هذا النحو ويأكلون حق الغير ولو كان دينار شيء يسير لا يُطْمَع فيه، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}, {الأُمِّيِّينَ}, العرب أو غير اليهود يقولون ما علينا فيهم سبيل، بالمطالبة والملاحقة مِن الله - سبحانه وتعالى - أي لا يحاسبنا الله -تبارك وتعالى- ولا سبيل لله على حسابنا في مال الأميين، فمهما خُنَّاهُم فإننا لا نحاسب عند الله  -تبارك وتعالى- بشأنهم فهم حلال فمال الأميين حلالٌ لنا بالنسبة ليهودي إذا سرق ماله إذا خان شخص من الأميين إذا انتهبه لا يحاسبنا الله  -تبارك وتعالى-  فيه.

وهذا القول ينسبونه إلى الله وينسبونه إلى التشريع وكأنهم يقولون نحن مؤمنون ونحن شعب الله المختار وأُمته والله لا يحاسبنا في الأمم الأخرى مهما أكلنا مِن أموالهم فإنه لا سبيل للرَّب  -جلَّ وعَلا- على حسابنا وعلى أخذ حقوق هؤلاء منا.

قال الله -جلَّ وعَلا- : {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}، هذا افتراء على الله افتروا هذا على الله -عز وجل- فإنَّ الله  -تبارك وتعالى- لم يبح لهم هذا، لم يبح لهم أموال الأميين أنْ يأخذوها وأنْ يخونوا على هذا النحو، قال -جلَّ وعَلا- : {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}، وهذا أمر عظيم أن يفترى الإنسان على الله  -تبارك وتعالى- الكذب وكأن الله هو الذى أمرهم -سبحانه وتعالى- بهذه الخيانة وأباح لهم هذه الخيانة، {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}، ليس فقط جهلاً منهم، بل وهم يعلمون أنهم يكذبون على الله, -قال جل َّوعَلا- مبينًا عهده إلى عهده في رسالاته قال : {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران:76], بلى ليس الأمر على هذا النحو أنَّ الله – تبارك وتعالى – أباح لليهود أن يأكل مال الغير وأنْ يخونه ولا يحاسب على ذلك ، {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ}، العهد ميثاق مؤكد كل مَن وافق وعاهد وأوفى  بعهده أي أدى العهد هذا وافيًا كما عَقَدَهُ واتقى ربه -سبحانه وتعالى- وخاف مِن الله  -تبارك وتعالى- أنْ يخون العهد وينقضه, {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}, الله -سبحانه وتعالى- يحب عباده المتقين الذين يخافونه  -سبحانه وتعالى- ويتورعون أنْ يأكلوا حرامًا فهذا دين الله وهذا أمره, أما هؤلاء المجرمون فإنهم ينسبون إلى الله -تبارك وتعالى- وإلى الدين أنه قال لهم أنه شرع لهم أنه ليس عليهم في الأميين سبيل، ثم تهددهم الله  -تبارك وتعالى- وتوعدهم, فقال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77], هذه الآية عامة لتكون حُكْم عام سواء كان في هؤلاء اليهود الذين يخونون وينسبون إباحة الخيانة إلى الله أو غيرهم، قال -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا........} [آل عمران:77], يشترى بعهد الله ثمنًا قليلًا، أي أنه يخون العهد، سماه عهد الله- تبارك وتعالى- لأنه يُعاهِد بالله فإنَّ الطرفين كل منهم يُشْهِد الله –تبارك وتعالى-  بعد أنْ يقول له عاهدتك على كذا وكذا والله على ما نقول شهيد فيعطى عهد الله وميثاقه على العَقد الذى عقده، أخبر -سبحانه وتعالى- أنَّ الذى يشترى إذا خان العهد يخونه مقابل هذه الخيانة التي أخذها إنْ كان قد أُعْطِىَ أمانة فيخونها فيقول ما أخذت شيء يجحدها فهنا ماذا أخذ؟ أخذ هذه الخيانة التي أخذها ثم باع آخرته، باع دينه بهذا الأمر، فاشترى بعهد الله بأنْ يلتزم عهد الله  -تبارك وتعالى  -وبالتالي الملتزم لعهد الله -تبارك وتعالى- له الأجر والثواب, وأما الخائن فإنه أخذ ثمن هذه الخيانة التي أخذها وبعد ذلك أخذ سخط الله -تبارك وتعالى- وغضبه، {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}, ولو خان في الدنيا كلها, {........أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77].

ومع هذه الآية إنْ شاء الله في الحلقة الآتية, استغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب, وصلى الله على عبده ورسوله محمد.