الخميس 24 شوّال 1445 . 2 مايو 2024

الحلقة (93) - سورة آل عمران 77-82

الحمد لله ربَّ العالمين وأُصَلِّى وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

 وبعد فيقول الله  -تبارك وتعالى-  {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77].

بعد أنْ بيَّن الله  -تبارك وتعالى- ما عليه أهل الكتاب وأخبر الله -سبحانه وتعالى- بأنَّ منهم ناس أهل أمانة، فلو أَمَّنْتَهُ على قنطار مِن الذهب لرده إليك مخافة وتقوى مِن الله -تبارك وتعالى- ومراعاة لحقوق الناس وأنَّ منهم أهل خيانة، لو استأمنته على دينار وهو شيء حقير لا يطمع فيه إلا أنه يخونك فيه, أخبر  -سبحانه وتعالى- أنَّ السبب في هذا أنهم نسبوا إباحة الخيانة لهم في مال الغير لله -تبارك وتعالى- وقالوا {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}, أي لا يحاسبنا الله -عزَّ وجلَّ- على ما نسرقه أو نخونه في مال الأميين العرب وأنه لا سبيل لله -عزَّ وجلَّ- أنْ يؤاخذنا في ذلك لأنه أباح لنا هذا الأمر, قال -جلَّ وعَلا- : {..... َويَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:75], أخبر - سبحانه وتعالى - بأن أمره وعهده إلى رسله هو بأنْ يوفى العبد المؤمن على ما عاهد عليه وما اشترط عليه.

قال -جلَّ وعَلا- : {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران:76], كل ما عاهدت عليه ولو كان مع كافر ينبغي أنْ تكون عند عهدك موفيًا، فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يأمر بالوفاء بالعهود والوعود، ثم بيَّن -سبحانه وتعالى- عقوبة هذا الأمر لأنَّ هذا أمر كبير جدًا حتى يكون ليس في شأن اليهود فقط بل هذا للجميع، حُكْمٌ عام مِن أحكام الرَّب -تبارك وتعالى-.

قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا........} [آل عمران:77], يشترى بعهد الله ثمنًا قليلًا، يعاهد بالله ثم يستأمنه مَن يعاهده ويخونه فكأنه بعد أنْ أعطى عهده بالله -عزَّ وجلَّ- وأعطى العهد خان وأخذ هذا ومهما أخذ فهو ثمنٌ قليلٌ كذلك أيمانهم يحلف بالله أنَّ هذا المال له وهو ليس له فيَستحِّل بيمينه الله -تبارك وتعالى- مال الغير ومهما كان هذا الذى أخذه مِن مال غيره فهو ثمن قليل بالنسبة للآخرة، لو كانت الدنيا كلها حلف أنَّ هذه الدنيا كلها حلف بالله أنها وأُعْطِيَهَا لكانت ثمنًا قليلًا.

قال -جلَّ وعَلا- : {........أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77], وهذا الذى يشترى بعهد الله ويمينه ثمنًا قليلًا هذا وقد جاءت الأحاديث الكثيرة في أنَّ مَن حلف بالله سواءً كان في خصومة أو كان في بيع هو نفس الأمر كما جاء في الحديث الصحيح أنَّ رجلان تخاصما إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه- مِن أهل اليمن جاء أحدهما فقال يا رسول الله هذه أرضى، الأرض هذه لي, اختصما في أرض فقال لرسول الله أرضى أنا أي كانت لي, فقال النبي له بَيِّنَتُك، أي هات البينة على أنها لك فقال:  ما عندي بينة فقال له النبي : إذن يحلف لك الذى هو خصمك فقال : يا رسول الله إنه رجل فاجر لا يتورع مِن شيء إنْ حلف أخذ أرضى، أي لا يتورع بأنْ يحلف بالله كاذبًا، فقال -صلى الله عليه وسلم- : «مَن حلف على يمين صَبرْ يأخذ بها حق أخيه لقى الله يوم القيامة وهو عليه غضبان», فهذا أمر عظيم وقال -صلى الله عليه وسلم- : « مَن اقتطع حق امرئٍ مُسْلِمٍ بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرَّم عليه الجنة», فقالوا وإنْ كان شأنًا يسيرًا يا رسول الله إذا حلف على شيء يسير فقال : « وإن كان عودَا مِن أراك»,  لو حلف على عود مِن أراك أي سواك أنَّ هذا ماله فقال والله هذا مالي وهو ليس ماله وإنما حلف باليمين بالله أنَّ هذا ماله وليس له يقول النبي: «فقد أوجب الله له النار وحرَّم عليه الجنة», فهذا في هذا اليمين فيها إذن يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : « مَن حلف على يمين صبر يقتطع بها حق امرئِ مُسْلِمٍ فقد أوجب الله له النار وحرَّم عليه الجنة», ومعنى يمين صبر  يمين يُحْبَسُ عليها أمام الحاكم، أما القاضي ليقال له احلف أنَّ هذا مالك، كذلك في البيع فقد قال -صلوات الله والسلام عليه- :  « ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم», قالوا مَن يا رسول الله، قال: «المنَّان والمُسْبِلُ إزاره والمُنَفِّقُ سلعته بالحلف الكاذب»، الذى يُنَفِّقُ سلعته بالحلف الكاذب وجاء ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ذكر منهم النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل بايع رجلًا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لقد اشتراها بكذا وكذا وهو على غير ذلك، فمَن حلف لأخيه هو يبيعه وقال له والله هذه السلعة وقفت عليا بكذا وكذا وهو كاذبُ في هذا الحلف فها داخل في هذا، {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ} أي وأقسامهم, {ثَمَنًا قَلِيلًا}, {ثَمَنًا قَلِيلًا}, أي ثمنًا مِن الدنيا، يحلف ويكون نتيجة هذا الحلف أنْ يأكل مِن مال أخيه دينارًا أو عشرة دنانير أو مائة دينار كل هذا مهما كان ولو حلف على الأرض كلها وأخذها بهذا اليمين الكاذب فهو ثمنٌ قليلٌ، {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ........} [آل عمران:77], الخَلَاق أي النصيب والحظ أي لا حظَّ لهم في الآخرة، ولا حظ في الجنة حظ مِن الله ونصيب مِن الجنة ولا نصيب لهم في الآخرة، {لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ}, إهانة لهم، يهينهم الله -تبارك وتعالى- فلا يسمعون مِن الرَّب -تبارك وتعالى- كلمة سلام وكلمة رحمة وكلمة عتاب بل يمهلهم الله -تبارك وتعالى- ويزدريهم ولا يكلمهم -سبحانه وتعالى- {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}, نظر رحمة، كل المخلوقات تحت سمع الله -تبارك وتعالى- وتحت بصره لا يغيب عن الله -تبارك وتعالى- شيء بل الله –تبارك وتعالى- ناظرٌ لخلقه أبدًا, سميعٌ بخلقه أَزَلًا وأبدًا لا يغيب عنه –سبحانه وتعالى- شيء, {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[يونس:61], عن علمه وعن سمعه و بصره -سبحانه وتعالى- لكن هنا {ولا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ}, نظر عطف ونظر رحمة -سبحانه وتعالى- {وَلا يُزَكِّيهِمْ}, التزكية الطهارة أي لا يطهرهم لأنَّ هذه نجاسة قلب لأنَّ هذا الذى استخدم اسم الله يحلف بالله يقول والله أو الله على ما أقول كفيل يقول في عهده هذا أو في قَسَمِهِ والله اسم الرب الأعظم، ليأكل به دينار ودينارين وعشرة ومائة وألف، هذا جعل اسم الله ينتهى باسم الرَّب- تبارك وتعالى- في أكله وفى خيانته فجمع بين الخيانة وبين امتهان اسم الرَّب - جلَّ وعَلا- وإنه يستشهد بالله -تبارك وتعالى- ويحلف به وهو كاذب في هذا أو يريد بهذا الخيانة وأخذ مال الغير، قال -جلَّ وعَلا- : {وَلا يُزَكِّيهِمْ}، فلما كان فيهم نجاسة القلب في أنْ لم يراعِ حرمة الله -تبارك وتعالى- وحرمة القَسَم بالله وهو قَسَم عظيم الذى يقسم به فكانت هذه نتيجة ولهم عذاب أليم في الآخرة عياذاً بالله.

هذا في التعقيب على أهل الكتاب هؤلاء الذين يزعمون بأنَّ الله -تبارك وتعالى- قال لهم أبحت لكم مال الأميين فاسرقوه وخونوا وخذوا منهم ما تشاؤون ولا أحاسبكم على هذا, وقد يحلفون لهم بالأيمان المغلظة ويوقعون العهود معهم ثم بعد ذلك يخونون وينسبون هذا إلى الله -تبارك وتعالى-, هذا أمر عظيم والله -تبارك وتعالى- أتى بهذه الآية العامة لتكون ليس لأهل الكتاب وحدهم، يكون نَصّ عام لأهل الكتاب وكذلك لأهل القرآن لِمَن أنزل الله -تبارك وتعالى- عليهم القرآن نَصّ عام, {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77], ثم خيانات أخرى لهؤلاء اليهود، يقول الله -تبارك وتعالى- : {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:78].

{وَإِنَّ مِنْهُمْ}, فريق منهم، مِن أهل الكتاب, {لَفَرِيقًا}, أي جماعة, {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ}, لَيّ اللسان به مِن باب تنغيمه وتحسينه ولكن ليس مِن باب التحسين لَيّ به فيلويه ربما أيضًا يخرج الكلمة فيها تحريف لفظي، فيحرف لفظ الكلمة, {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ}, لتحسبوا هذا الكلام الذى يقولونه إنه مِن الكتاب لأنه يقرأه على نسق قراءة الكتاب المنزل مِن الله -تبارك وتعالى- بتنغيم وتحسين، قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ}، وما هذا الذى يقرؤونه ليلًا وتحريفًا بألسنتهم مِن الكتاب المنزل عليهم، انظر مبلغ الافتراء والكذب والتدليس، عملية نصب مُرَكَّبَة، اختيار نصهم يحرفونه وتنميق هذا النص بتنغيم وتجميل وتحسين إيهام الآخرين بأن هذا مِن الكتاب المنزل عليهم, {وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ}, المنزل عليهم فهو جريمة مُرَكَّبة مع العلم بها وسبق الإصرار عليها فليس الأمر قضية عفوية، خطأ باللسان، يظن أنَّ هذا مِن الكتاب وهو ليس مِن الكتاب بل لا هو يفترى هذا، أي هذا الكلام ويُلْبِسُهُ لباس الكتاب المنزل مِن الله -تبارك وتعالى- ثم أكثر مِن هذا, {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}, أيضًا تأكيد أنَّ هذا الكلام الذى قرأوه على هذا النحو هو مِن عند الله, قال -جلَّ وعَلا- : {........ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:78], أنهم يكذبون، هذه قساوة قلب وإجرام ما بعده إجرام، ما إجرام أكبر مِن هذا أنَّ إنسان يفترى على الله -تبارك وتعالى- فيزعم بأنَّ هذا كلامه وليس هو كلام الرَّب -تبارك وتعالى-.

قال -جلَّ وعَلا- : {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79], هنا مناقشة لهم في أصل المعتقد وهو أنَّ هؤلاء مشركون يدَّعون بأنَّ هؤلاء الذين يعبدونهم أنهم مأمورون بعبادتهم مِن الله -تبارك وتعالى-, قال -جلَّ وعَلا- : {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ........} [آل عمران:79], أي أنَّ هذا لا يمكن يستحيل أنْ يكون بشر، الله ينعم عليه ويتفضل عليه فيؤتيه الكتاب, يُنَزِّلُ عليه كتابه, {وَالْحُكْمَ}, كذلك يُعَلِّمَهُ الحكم، العقل الوافي والعلم الوافي حتى يكون عنده علِمْ يضع الأمور في نصابها, {وَالنُّبُوَّةَ}, فضيلة عظيمة جدًا وهى أنْ يرسل الله -تبارك وتعالى- وحيه على هذا العبد وينبئه بهذه الأخبار العظيمة ثم بعد هذا الفضل مِن الله -تبارك وتعالى- إنزال الكتاب والنبوة والحِكمة والعلم هذا الوافر, {يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ},

تعالوا اعبدوني واتركوا عبادة الرَّب -جلَّ وعَلا- هذا الذى يدعوا الناس إلى عبادة نفسه دون الله -تبارك وتعالى- يكون مجرم وطاغوت، وهذا يستحيل أنْ يجتمع هذا وهذا, يستحيل أنْ تجتمع  منة الله -تبارك وتعالى- وفضله على نبي ويكون هذا النبي طاغوت يدعو الناس إلى عبادة نَفْسِهِ وهو نسبوا هذا إلى الأنبياء، زعموا أنَّ عيسى عبد الله -تبارك وتعالى- ورسوله الذى أكرمه الله -تبارك وتعالى-  بأنْ علمه التوراة وأنزل عليه الإنجيل، علمه آياته، أجرى عليه ما أجرى مِن المعجزات الباهرة كإحياء الموتى ويصنع مِن الطين كهيئة الطير, ينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله كله بإذن الله، هل يكون هذا العبد الذى أنعم الله عليه بهذه النعم وهو بَشَر مولود مِن امرأة، بَشرٌ كالبشر يأكل ويشرب وضرورة الأكل والشرب تضره إلى هذه الضرورة وبعد ذلك يقول للناس تعالوا اعبدوني، وأنا إله مع الله، كيف يكون هذ!.

تحول إلى طاغوت مِن الطواغيت فهم زعموا في رسولهم، زعموا في هذا النبي، زعموا فيه أنه طاغوت يدعوا الناس إلى عبادة نفسه دون الله -تبارك وتعالى- ها لا يتأتى بتاتًا ولا يكون أنْ يمنن الله -تبارك وتعالى- على عبد مِن عباده بالرسالة والنبوة والتعليم ثم يتحول إلى طاغوت يقول للناس تعالوا اعبدوني مِن دون الله، لا، بل هذا العبد يعلم هذه المنة ويعلم أنَّ الرسل ما جاءوا إلا ليدلوا الناس على عبادة الرَّب الواحد الإله الذى لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، أما أنْ يتحول إلى طاغوت مِن الطواغيت كاملوك والجبابرة الذين يعبدون الناس لهم، نحن آلهه، أنا ابن الشمس، أنا ابن الرَّب، {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي},  كيف يكون عيسى هو فرعون؟ هذا الذى يقول : {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}, فرعون ومع على شاكلته مِن النمرود والطواغيت، هؤلاء أضلهم الله -تبارك وتعالى- وأخذاهم ولعنهم، فنسبة أنْ يكون عيسى يدعوا إلى عبادة نفسه هذا أكبر نسبة الشر إليه وحاشاه وحاشا جميع الأنبياء أنْ يكون أحد منهم قد دعا الناس إلى أنْ يعبدوه مع الله  -تبارك وتعالى- أو أنْ يعبدوه دون الله تبارك وتعالى.

قال -جلَّ وعَلا- : {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}[آل عمران:79], هذه دعوة الرسل أتباعهم إلى هذا، {كُونُوا} أيها المؤمنون بالله -تبارك وتعالى- ربانيين، علماء، مربيين، أو ربانيين منسوبين إلى الرَّب -سبحانه وتعالى- {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}, {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}، كونوا علماء مربيين ربانيين، العالم الرَّباني المربى الذى يربى بكلام الله -تبارك وتعالى- يربى العباد على كلام الله -تبارك وتعالى- وعلى طاعته, {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}, إما ربانيين مِن التربية وإما ربانيين نسبة إلى الرب -سبحانه وتعالى- ربانيين منسوبين إلى ربكم وإلهكم -سبحانه وتعالى- {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}،أي لما كنتم تعلمون الكتاب وتدرسونه تُعَلِّمُونَ الناس الهُدى، وظيفة عظيمة جدًا، عمل عظيم وهى مِن أعمال الرب -سبحانه وتعالى-  فمَن قام بهذا العمل فإنه يقوم بالعمل الذى يحبه الله  -تبارك وتعالى-  وهو التربية، {الرَّحْمَنُ}[الرحمن:1], {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}[الرحمن:2], {خَلَقَ الإِنسَانَ}[الرحمن:3], {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}[الرحمن:4], فهذا فعل الرب -سبحانه وتعالى- للعبد.

خيركم مَن تَعَلَّمَ القرآن وعَلَّمَهُ، فإذا قام العبد بتعليم القرآن فإنما يقوم بعمل الرَّب -سبحانه وتعالى- الذى نسبه إلى نَفْسِهِ وهو التعليم، {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}, أي أيها العباد, {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}, { الْكِتَابَ },أي بدراستكم للكتاب وبتعليمكم للكتاب كنتم خير الناس كما قال النبي : «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، فتعلم القرآن وتعليم القرآن هذا يجعل الإنسان في مصاف عالي مِن أهل الإيمان وذلك أنه معلم منسوب إلى الرَّب -تبارك وتعالى- يعمل العمل الذى يحبه الله - تبارك وتعالى- والذى هو عمل الرَّب الذى يحبه الله -تبارك وتعالى- والذى هو عمل الرَّب الذى نسبه لنفسه فالرحمن علم القرآن، هو المعلم -سبحانه وتعالى- على الحقيقة فعندما تقوم بهذا العمل فأنت تنسب إلى الرَّب -جلَّ وعَلا-، {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} تدرسونه.

قال -جلَّ وعَلا- : {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80] أي أنَّ الله -تبارك وتعالى- لا يمكن أن يرسل نبي يعطيه الكتاب والحكم والنبوة ثم إنَّ النبي هذا يقول تعالوا اعبدوني مع الله أو اعبدوني مِن دون الله، لا يمكن هذا، كذلك في أتباع الأنبياء لا يأتيهم أم من الله – تبارك وتعالى – أن يعبدوا الملائكة وأن يعبدوا النبيين، يستحيل هذا، كيف يأمر الله -تبارك وتعالى- عباده بالشرك، إنما يأمرهم بالتوحيد، قال -جلَّ وعَلا- : {وَلا يَأْمُرَكُمْ}، أي أنَّ الله -تبارك وتعالى- لا يأمركم أنْ تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً، ليس هناك أمر مِن الله -تبارك وتعالى- لعباده أنْ يعبدوا الملائكة، نعم، أنْ يؤمنوا بهم بأنهم عباد الله - تبارك وتعالى- نعم، أما أنْ يتخذوهم أربابًا يسألوا منهم ويطلبوا منهم الشفاعة ويجعلونهم شفاعة لهم مع الله وشركاء مع الله، هذا كفر بالله -تبارك وتعالى- وشرك به وكذلك النبي يأمره الله - تبارك وتعالى- بتعظيمه وتوقيره ومحبته وطاعته، هذا واجب المؤمنين نحو الله أما أنْ يأمرنا بعبادته أنْ نعبد هذا النبي، نسجد له، نصلى له، نطلب منه جلب النفع، دفع الضر، هذا شأن الله  -تبارك وتعالى-  هذه العبادة التي لا تكون إلا لله.

فالله يقول : {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80], هذا سؤال للإنكار، أي كيف يأمر الله  -تبارك وتعالى-  عباده بالكفر فيشرع لهم ويأمرهم أنْ يعبدوا ملائكته وأنْ يعبدوا أنبيائه – سبحان الله -  تعالى الله عن ذلك، بل يأمر الله - تبارك وتعالى- عباده جميعًا بأنْ يعبدوه وحده -جلَّ وعَلا-، وقد أخبر العباد أنَّ ملائكته عبادًا له ورسله وأنبيائه عبادًا له قال في الملائكة : {{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}[الأنبياء:26], {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}[الأنبياء:27], {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء:28], {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:29],  كذلك الأنبياء كل هؤلاء الأنبياء ما أحد منهم دعا إلى عبادة نَفْسِهِ وإنما كلهم دعوا إلى عبادة الله الواحد  -سبحانه وتعالى-  {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80], أي بعد أنْ تكونوا مسلمين ومنقادين لله يأمركم أن تكونوا كفاراً مشركين به -سبحانه وتعالى .

قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81], يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- عباده جميعًا عن فضل هذا النبي الخاتم محمد -صلوات الله والسلام عليه- وأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قد أخذ الميثاق، العهد المؤكد على كل الأنبياء الذين أرسلهم، قال لهم الله – تبارك وتعالى –أذكروا {لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ}، بما آتيتكم مِن هذا الكتاب والحكم فضل الله  -تبارك وتعالى- عليكم وإيتائه جل وعلا لكم الكتاب، الكتب المنزلة عليكم والحكمة التي علمكم الله  -تبارك وتعالى-  إياها {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ}, إذا جاءكم رسول مصدق لما معكم وهو محمد -صلوات الله وسلامه عليه-, {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ}، بالأمر، لتؤمنن بهذا النبي {وَلَتَنْصُرُنَّهُ}, ولتقومن في نصرته، {قَالَ أَأَقْرَرْتُم}، أي هل أقررتم على هذا العهد والميثاق الذى أخذه عليكم، {قَالَ أَأَقْرَرْتُم}، والإقرار هو الشهادة على النَّفْسِ أي أشهد على نفسي أني سمعت عهد الله وميثاقه هذا وأَقِرّ به وأعترف بأنى سأنفذه، {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي}، الإصر هو العهد المؤكد.

{........قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}[آل عمران:81], اشهدوا على هذا العهد والميثاق، هذا بيان لفضل النبي الخاتم -صلوات الله والسلام عليه-، أخذ الله  -تبارك وتعالى- الميثاق على كل نبي قبل أنْ يبعثه بأنه إنْ بُعِثَ محمد وأنت موجود يجب أنْ تؤمن به وأنْ تُسْلِمَ له انقياد وأنْ تنصره، معنى تنصره أنْ تكون في جنده، الذين ينصرونه تكون معه، تُقِرُّ بهذا، هذا عند إرساله تقر بهذا أو تشهد به فكل الرسل الذين أرسلهم الله  -تبارك وتعالى-  كلهم أقروا بها، هذا فضل النبي الخاتم على سائر الأنبياء والمرسلين -صلوات الله والسلام عليه- أنَّ كل الأنبياء يعودون إليه وأنهم مِن أتباعه -صلى الله عليه وسلم- ومِن المؤمنين به, وإنْ كانوا قد سبقوه في الزمان إلا أنهم تبعٌ له -صلى الله عليه وسلم- وهم مؤمنون به مقرون بنصره -صلى الله عليه وسلم- ولذلك عندما ينزل عيسى بن مريم وهو نبي قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس بين محمد وبين عيسى نبي، عندما ينزل في آخر الزمان يكون ناصرًا لدين النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- مؤمن به فقد بَشَّرَ به قبل مجيئه في حياته الذى هو عيسى وعندما رُفِعَ إلى السماء وينزله الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك في آخر الدنيا ويكون في نصرة هذا النبي الكريم -صلوات الله وسلام عليه-, كمال قال -صلى الله عليه وسلم- : «والذى نفس محمد بيده لينزلن فيكم عيسى بن مريم حكمًا عدلًا مقسطًا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويؤذن للصلاة»، بل يصلى عند نزوله خلف رجل مِن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-, فمجيئ المسيح لنصرة هذا الدين الخاتم دين الله  -تبارك وتعالى- الإسلام ورسوله الخاتم الذي بُعِثَ للعالمين -صلوات الله والسلام عليه-.

نكتفي اليوم بهذا, وصلى الله وسلم علي عبده ورسوله محمد. والحمد لله رب العالمين.