الخميس 24 شوّال 1445 . 2 مايو 2024

الحلقة (94) - سورة آل عمران 82-86

الحمد لله ربَّ العالمين, وأُصَلِّى وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله الأمين وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله - تبارك وتعالى- : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}[آل عمران:81], {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[آل عمران:82].

يُخْبِرُ - سبحانه وتعالى-  عباده المؤمنين أنه قد أخذ الميثاق على جميع الأنبياء الذين أرسلهم قبل أنْ يُرْسِلَهُم -سبحانه وتعالى-,  { لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ}, أنه إذا جاءهم محمد - صلى الله عليه وسلم -  هذا الرسول الذى يأتي مصدقاً لما معهم, فعليهم أن يؤمنوا به وأن يصدقوه وأن يكونوا تبعاً له وفى نصرته صلى الله عليه وسلم {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ}، واذكر إذا أخذ الله ميثاق النبيين، ميثاقهم، عهدهم المؤكد، {لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ}, أي بما آتاهم الله - سبحانه وتعالى- مِن الكتاب والحكمة أي بما تفضل الله - عز وجل - عليهم من الكتاب المنزل عليهم والحكمة والعلم، الكلام الذى يعطيه الله  -سبحانه وتعالى-  للأنبياء فهم حكماء يضعون كل أمر في نصابه، {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ }, جاءكم رسول يصدق ما معكم بمعنى أنه يأتي بالصدق وبالحق الذى يكون مصدق لهذا فيدعوا إلى ما دعوتم إليه ويبين أنَّ ما جئتم به إنما هو الصدق مِن الله  -تبارك وتعالى-,  وما عنده هو ما عندكم مِن الدعوة إلى عبادة الله الواحد الأحد - سبحانه وتعالى-  هذا الرسول هو محمد -صلوات الله والسلام عليه-, {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ}، أي والله لتؤمنن به هذا عهد الله إليهم, {وَلَتَنْصُرُنَّهُ}, ولتقومن في نصرته، فهذا مما أُخِذَ على كل الأنبياء قبل محمد -صلى الله عليه وسلم- أنْ يؤمنوا بمحمد إنْ بُعِثَ وهم أحياء أنْ يؤمنوا به -صلوات الله والسلام عليه-, ثم إنْ لما يكن بعث فيؤمنوا به ويؤمنوا بأنَّ هذا النبى هو النبى الذى قد أُمِرَ الجميع بأنْ يكونوا في إمرته وطوعه وأنْ يقوموا بنصره, ومعنى أنهم أنْ يقوموا بنصره لابد أنْ يكونوا مِن رعاياه ومِن جنوده فهو قائدهم وهو إمامهم -صلى الله عليه وسلم-، { وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي}، الإقرار بمعنى أنهم أقَرُّوا بهذا أي شهدوا به وألزموا أنفسهم الإيمان بهذا, والعمل بمقتضى هذا الإيمان، {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي}، أي عهدي المُؤَكَّد، {قَالُوا أَقْرَرْنَا}، فهذه مِن شهادة كل نبي أنه مُقِرٌ بهذا، مُقِرٌ بأنَّ النبى محمد -صلوات الله والسلام عليه- أنْ يؤمن به, وأنه إمام جميع الأنبياء والمرسلين, وأنه إنْ بُعِثَ وهو حى أنْ يُسْلِم القيادة له, وأنْ يكون في طوعه وفى إمرته وأنْ يقوم بنصره، {........قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81].

قال -جلَّ وعَلا- : {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[آل عمران:82], {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ}, مِن أي أحد, {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}, الخارجون عن طاعة الله - تبارك وتعالى-, والمعنى أنه إذا كان الأنبياء والسابقون كموسى وعيسى ونوح وإبراهيم كل هؤلاء قد أُخِذَ عليهم الميثاق أنْ يؤمنوا بالنبي وأنْ يكونوا تبعًا له, فكيف بأتباع هؤلاء، لا شك أنَّ أتباع هؤلاء الأنبياء ما دام أنه قد بُعِثَ محمد -صلى الله عليه وسلم- وهم موجودون كالنصارى واليهود فواجب عليهم أنْ يُسلموا ويُزعنوا لأمر الله  -تبارك وتعالى-  ويتبعوا هذا النبي الخاتم -صلوات الله والسلام عليه-, الذى لو كان نبيهم الذى ينتمون إليه موجودًا لكان هو أول الناس في اتِّباع محمد -صلى الله عليه وسلم- وفى الإقرار له, وفى نصره وفى القيام بنصره, فَمَن تولى بعد ذلك مِن هذه الأمم الذين ينسبون إلى الأنبياء اليهود والنصارى وتركوا نصرة محمد -صلوات الله والسلام عليه-، والحال أنَّ الميثاق قد أُخِذَ على أنبيائهم الذين ينتمون إليهم، الذين يتبعون النبي, {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:82]، {بَعْدَ ذَلِكَ}, بعد هذا الميثاق والعهد المؤَكَّد وكذلك بعد بيان الله  - تبارك وتعالى -, {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83], سؤال للإنكار الشديد،{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ}, أي هل يريد هؤلاء دينًا لهم غير دين الله؟ والعجب أي والحال أنَّ الله  -تبارك وتعالى-  قد {أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}, أي والرَّب الإله قد أسلم له؛ انقاد وأذعن وخضع له كل مَن في السماوات مِن ملائكة وأى عالم خلق الله  -تبارك وتعالى-  والأرض إنسهم وجِنُّهُم, عاقلهم وغير عاقلهم كلهم قد أسلموا لله  -تبارك وتعالى-  {طَوْعًا}, هذا إسلام أهل الإيمان, {وَكَرْهًا}, أي إسلام كل الخلائق بمعنى أنها منقادة ومزعنة لأمر الله - تبارك وتعالى-  الكوني القَدَرِي فمشيئة الله  -تبارك وتعالى-  نافذة في الجميع, وأمره الكوني القَدَرِي كن فيكون نافذ في الجميع, وتصريفه هو تصريفه للجميع مِن إحياء وإماتة, مِن عِزّ وإزلال, مِن هداية وإضلال، كل هذه الأمور فيما يعتبر العبد غِنَى وفقير, مرض وصحة, وجود وعدم كله بيد الله  -تبارك وتعالى-, {وَلَهُ أَسْلَمَ}, أي إنقاد وأَزْعَن لله - تبارك وتعالى – {طَوْعًا}, طواعية مِن نفسه, إسلام أهل الإيمان فإنهم يؤمنون بالله  -تبارك وتعالى-  طواعية بمعنى أنهم يتوجهون إلى الله  -تبارك وتعالى-  ويؤمنون به بقلوبهم ويعملون بجوارحهم ما يأمرهم به إلههم وخالقهم  -سبحانه وتعالى-, {وَكَرْهًا}, هذا للكفار فالكافر مسلم لله -عزَّ وجل- رغم أنفه يولد بمشيئة الله وأمره, ويموت بمشيئة الله وأمره, ويحيى بمشيئة الله وأمره, وفى كل حركاته وسكناته هو في إطار مشيئة الله - تبارك وتعالى- وأمره الكوني القَدَرِي لا يخرج أحد عن أمر الله - تبارك وتعالى- الكوني القَدَرِي أبدًا, {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}، أي مرجع كل العباد ومرجع الخلف في النهاية إلى الله  - تبارك وتعالى-, فالإله هذا شأنه أنه فهم كل شيء وذَلَّ له كل شيء وأسلم له كل شيء، كيف يبتغى عاقل أنْ يتخذ له دينًا غير دين هذا الرب - سبحانه وتعالى - وطريقًا غير طريق هذا الرب، فلا شك أن من إتخذ له ديناً أخذ بإختياره دين غير دين الرب - تبارك وتعالى - وغير الإذعان له يكون هنا لا عقل له ولا فهم له ولا فقه له.

{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83], نَعْى شديد على هؤلاء المكذبين مِن اليهود والنصارى الذين أرادوا أنْ يتخذوا لهم دينًا مِن عند أنفسهم لم يأمر به الله - تبارك وتعالى-,  ولم يشرعه الله  -تبارك وتعالى- لهم، نَكَلُوا أنْ يتبعوا النبي الخاتم الذى أرسله الله  - تبارك وتعالى- وتمسكوا في زعمهم بدينهم الذى حَرَّفُوهُ وغَيَّروهُ مِن اليهودية والنصرانية وظنوا أنهم على دين الله - تبارك وتعالى-, والحال أنَّ هذا ليس دين الله - تبارك وتعالى- دين الله هو الإسلام الذى بعث به النبي محمد - صلوات الله والسلام عليه-، وأما عيس لو وُجِدَ وموسى لو وُجِدَ لما كان له سبيل إلا أنْ يتبع النبي - صلوات الله والسلام عليه- كما قال - صلى الله عليه وسلم- :  «والله والذى نفس محمد بيده لو أنَّ موسى حيًا لما وَسِعَهُ إلا أنْ يتبعني»، لما وسعه في الدين إلا أنْ يتبع النبي محمد - صلى الله عليه وسلم- وما يكون تابعًا له, فهؤلاء يقول الله لهم : {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}[آل عمران:83], ثم قال – تعالى- معلمًا عباده المؤمنين أنْ يقولوا هذا القول الذى هو مقتضى الإسلام بالله والإذعان له -سبحانه وتعالى-.

قال -جلَّ وعَلا- : {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[آل عمران:84], {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ}، قل يا محمد -صلى الله عليه وسلم- : {آمَنَّا بِاللَّهِ}، هذا إعلان للجميع أنَّ هذا هو الدين الذى يريده الله - تبارك وتعالى- مِن عباده، {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ}، {آمَنَّا}, صدَّقنا، أقررنا في قلوبنا، الإيمان ليس التصديق فقط ولكن العمل بمقتضى التصديق, فَمَن صدَّق بأنَّ الله هو الله الذي لا إله إلا هو الملك الحق المبين الرحمن الرحيم الجبار المتكبر الذى يؤاخذ بالذنب ويعاقب به الرؤوف الرحيم, لا شك أنه عامل بمقتضى هذا التصديق, بمعنى عظم هذا الرَّب خالق السماوات والأرض، خافه لأنه يؤاخذ بالذنب واتقاه واتقى عقوبته وطمع في إحسانه وفضله وبِرِّه - سبحانه وتعالى-  أطاع هذا الرَّب - سبحانه وتعالى- وسار على الطريق الذى يريد.

{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا}, نؤمن بالله والذى أنزل علينا, أُنْزِلَ بالبناء لما لم يُسمَّ فاعله والذى ينزله هو الله - تبارك وتعالى-  أي وما أنزله الله - تبارك وتعالى-  علينا مِن الكتاب, {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ}, كذلك نؤمن بما أنزله الله على إبراهيم مِن الكتاب والحِكمة, {وَإِسْمَاعِيلَ}, بِكْرُ إبراهيم نبي الله - تبارك وتعالى- ورسوله إلى العرب, {وَإِسْحَاقَ}, وهو الولد الثاني لإبراهيم مِن زوجته سارة, {َوَيَعْقُوب}, ابن إسحاق وهو إسرائيل عليهم جميعًا سلام الله, {وَالأَسْبَاطِ}, أولاد يعقوب, {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى}, والذى أتاه الله - تبارك وتعالى- لموسى وعيسى, وقد أوتى موسى وعيسى أمورًا عظيمة فموسى أُوتى التوراة, وكذلك أوتى هذه الآيات العظيمة التي أجراها الله - عزَّ وجلَّ- على يديه، وعيسى أوتى الإنجيل, وكذلك ما أجراه الله - تبارك وتعالى - على يديه مِن الآيات البيِّنات, {وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ}، كل النبيون، وهنا بين هؤلاء المذكورين أنبياء كثيرون بضع عشر ألف نبي أرسلهم الله - تبارك وتعالى-  إلى أهل الأرض,{مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ}، نؤمن بهؤلاء جميعًا, ولا نفرق بين أحد منهم, فنؤمن بالبعض ونكفر بالبعض كما الشأن عند اليهود فإنهم آمنوا ببعض هؤلاء الأنبياء, وكفروا بعيسى - عليه السلام- وكفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم- وكما الشأن في النصارى فإنهم كذلك كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم-.

{لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}, منقادون مذعنون، خاضعون لأمر الله - تبارك وتعالى-,  فما يأمرنا الله - تبارك وتعالى- نحن مطيعون لذلك, فهذا هو الدين الذى يريده الله - تبارك وتعالى- مِن كل أَحد، هذا هو الدين الذى ارتضاه - تبارك وتعالى- خالق السماوات والأرض لعباده، أهل الإيمان أنْ يؤمنوا بكل الرسل الذى أرسلهم؛ لأنَّ مَن كفر برسول واحد مِن هؤلاء فقد كفر بالله - تبارك وتعالى-  لأنه هو الذى أرسله وهذا النبي هو الذى نَبَّأَهُ الله - تبارك وتعالى-  وأرسله وأقامه لهذه الدعوة فإذا آمن أحد بجميع الأنبياء ولكن هذا النبي أو هذا الرسول قال أنا لا أؤمن به إذن الكفر هنا قد كفر بالله؛ لأنه كفر بالذى أرسله - سبحانه وتعالى-  فالكفر برسول واحد كفر بالله - تبارك وتعالى-,  وكفر بالجميع هو في النهاية كفر بالجميع، فلا يفيد هذا الذى آمن ببعض رسل الله - تبارك وتعالى-  لا يفيده عند الله -عزَّ وجلَّ- لأنه في الواقع كافر بالله - تبارك وتعالى-؛  لأنَّ الله هو الذى أرسل هذا النبي.

ثم قال - جلَّ وعَلا- : {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[آل عمران:85], {وَمَنْ يَبْتَغِ}، يريد، يطمع، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا}، الإسلام هو هذا الإسلام بهذا المعنى الذى قاله الله - تبارك وتعالى-,  {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}, أي الانقياد لله - تبارك وتعالى-  في كل ما يأمر به وتصديق الله - تبارك وتعالى-  في كل ما أخبر به, ومعنى تصديق الله - تبارك وتعالى-  في كل ما أخبر به تصديق كل الأنبياء أنْ نُصَدِّقَ جميع الأنبياء  وأنْ يؤمن بجميع الأنبياء،

{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا}، طريقًا ومنهجًا وسُنَّة له فلن يقبل منه إيمانه ما آمن به مِن بعض الأنبياء, {وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}, يظهر خسارته في الآخرة، هو في الدنيا يظن أنه مِن أهل الكسب, وأنه مِن الذين كَسَبُوا الحق والخير ولكن الحال أنه خاسر والخسران إنما يقع على خسران النَّفْس, {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}, فهنا ما يخسر شيء خارج عنه كماله أو بعض ولده شيئًا مِن نفسه يخسر عينه أو يده، لا، هذا يخسر نفسه كلها، فهذا الخسران المبين وذلك أنهم يورد النار - عياذًا- بالله فيُعذب كل عضو منه وكل عَصَب منه وكل مساحة مِن جلده في النار عياذاً بالله, فخسر نفسه وبالتالي خسر ماله، لا يبقى له مال ولا يبقى له أهل, وإنْ كان أهله في النار فقد خسرهم, وإنْ كانوا في الجنة كذلك فقد خسرهم, فالذي خسر نفسه هذا هو الخاسر على الحقيقة وهم في الآخرة من الخاسرين، تظهر خسارته في الآخرة وإنْ كان هو في الدنيا خاسر كذلك باتخاذه غير طريق الله لكن هذا ظهوره، ظهور هذه الخسارة للعين يكون في الآخرة, {وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}, وهذا بيان كذلك أنه طَمَعهم أنْ يكونوا في الآخرة هم أبناء الله وأحبائهم وأنهم داخلون الجنة وأنهم وأنهم، يتبدى لهم بعد ذلك أنَّ هذا كله قد كان كذبًا وزورًا، هؤلاء الذين بيَّن الله - تبارك وتعالى-  لهم الطريق على هذا النحو وأوضحه وأقام عليه الدلائل العظيمة، هنا يبيَّن الله - تبارك وتعالى-  بُعْدَهُم الشديد عن الهداية وأنهم لا يستحقون عناية الرَّب وهدايته - سبحانه وتعالى -.

قال -جلَّ وعَلا- : {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[آل عمران:86], هذا كأنه جواب لِمَن استعظم كُفْر هؤلاء الذين عندهم الكتاب وعندهم التوراة وعندهم الإنجيل، عندهم العلم بالنبي -صلى الله عليه وسلم-, لما لم يهتدى هؤلاء ويأخذوا الطريق؟ أَوْلَى الناس باتباع محمد -صلوات الله والسلام عليه- واتخذوا الطريق إلى الله - تبارك وتعالى-  ولماذا يتعب الإنسان نفسه في دين لا ينفعه؟ يتعب نفسه في إيمانه بموسى والتوراة والعمل بها والجهاد في سبيلها، ثم يكفر بمحمد فلا ينفعه ذلك علمًا قد يفنى حياته، يفنى ماله في هذا الطريق, وكذلك هذا النصرانى الذى يبذل مُهجته ونَفْسه وماله في سبيل الدين, وفى سبيل الإيمان بالمسيح والإيمان بالإنجيل ويتعب ويكد ويجتهد, ثم تكون الخسارة والدمار في النهاية كأنَّ قائل يقول لما لم يهدها الله - تبارك وتعالى-  هؤلاء الناس الذين يبذلون ويؤمنون وهم أتباع هذه الرسالات! لما لم يهدهم الرَّب - تبارك وتعالى-  إلى طريقه! قال -جلَّ وعَلا- : {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ........} [آل عمران:86], فهؤلاء الناس بعد أنْ آمنوا بالله - تبارك وتعالى-  كفروا إمَّا بعد إيمانهم الذى كانوا عليه بالتوراة والإنجيل جاءهم النبي الذى يعرفونه فكفروا به فإذن حصل الكفر، حصل كفر كذلك لما عندهم مِن الكتاب, مِن التوراة والإنجيل، {وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ}، أدلوا بهذه الشهادة إما أنهم شهدوها وأَدْلُوا بها، وإما اعتقدوها وأيقنوا بها, فتصبح كالشهادة، علموا هذا مما عندهم في الكتاب فقد خبروا النبى -صلى الله عليه وسلم-, وقد قلبوا أمره وعلموا أنه رسول الله حقًا وصدقًا.

فهذا هِرقل الذى كان رئيس ورأس الكنيسة الشرقية في وقته ومَلك الروم لما عُرِضَ عليه أمر النبي وفتش حاله قال : هو رسول الله المؤيد، هذا أنا أعلم أنه خارج, وقال لأبى سفيان الذى كان يناقشه في هذا الوقت قال :  (لو كنت عنده لغسلت عن قدميه, ولودت أنى أَخْلُصُ إليه), لوددت أني أخلص إليه, أي مِن ملكي , ومِمَن حولي يمكنوني مِن أنْ أهرب إليه, (ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه) وقال له: لإنْ كان ما تقوله حقًا فسيملك موضع قدمي هاتين، ولقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظنه منكم، ما كنت أظنه مِن العرب، ولكن بعد أنَّ تحقق عَلِمَ بأنه هو هو, قال له : هو قال نعم هو هو، وهذا حييى بن الأخطب رأس اليهود يسأله أخوه أهو هو, أي أهو النبي الذى أُمِرنا باتباعه وتصديقه فيقول إى والله هو هو، فيقول ما صنيعك معه؟ قال: (عداوته والله ما بقيت)، فهؤلاء رؤوس اليهود ورؤوس النصارى شهدوا أنَّ النبى حق، وشهدوا فيما بينهم وفيما يدلون به أنَّ هذا هو رسول الله حقًا وصدقًا.

{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ........}[آل عمران:86]، {الرَّسُولَ}, محمد - صلى الله عليه وسلم- {حَقٌّ}، هو أرسله الله - تبارك وتعالى-  {وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}, جاءتهم الأدلة الواضحة مِن الله - تبارك وتعالى-  على صِدْقِ هذا النبي، فهذا النبى، هذا حاله في مكة -صلوات الله والسلام عليه- دلالة أكيدة على أنه رسول الله فحاله حال الرسل مِن البداية بالضعف مِن الإخبار بهذه الغيوب ويتحقق كل أمر فيه مِن الإخبار بالغيوب السابقة, ويتحقق تمامًا أنَّ هذه الغيوب التي أخبر بها سابقًا هي نفس الغيوب التي عندهم, مِن هذه المعجزات التي أجراها الله - تبارك وتعالى-  على يديه, أمر واضح ثم البينات بعد ذلك بعد أنْ هاجر النبى - صلوات الله والسلام عليه- وَقَعَت البينات بينة بعد بينة، معجزة بعد معجزة، أولها نصر الله - تبارك وتعالى-  لهو في بدر وإخباره بما يكون في هذا الشأن واحدة بواحدة, فقد أخبر المسلمين قبل أنْ يخرج بأنَّ الله - تبارك وتعالى-  أنَّ وعده إحدى الطائفتين وقد كان، ثم لما أتى موضع بدر سار في موقع المعركة قال : هنا يقتل فلان وهنا يقتل فلان وهنا يقتل فلان وهنا يقتل غلان ولم يجاوز أحد مِن المشركين مضجعه الذى نزل فيه.

بيِّنات عظيمة جدًا, ودلائل هائلة جدًا كلها تبينت أنَّ هذا رسول الله حقًا وصدقًا، فالله يقول : {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا}, هؤلاء اليهود والنصارى, {.......كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[آل عمران:86], هذا مِن سنته - سبحانه وتعالى-  أنَّ الظالم الذى وضع الأمر في نصابه, جعل الكفر محل الإيمان وجحد هذا الجحود, وجاءته البينات فأنكرها وجحدها، كيف يهديه الله - تبارك وتعالى- ؟ ليس مِن سنة الله - تبارك وتعالى -  أنْ يهدى إلا مَن يُصَدِّق, مَن يؤمن, مَن جاءه الخبر الصدق وعلم أنه صدق فيصدقه ويسير فيه, أما مَن يأتيه الصدق ويَعْلَم أنه صِدْق ثم يجحده وينكره فهذا يطمس الله - تبارك وتعالى-  بصيرته ولا يهديه الله، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}, مِن سنته - سبحانه وتعالى-  ما دام أنه على هذا الظلم والتعدي, وجاءته البينات ولم يؤمن بها فلاشك أنَّ الله - تبارك وتعالى-  لا يهديه.

قال - جلَّ وعَلا- : {أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}[آل عمران:87], {أُوْلَئِكَ}، هؤلاء الموصوفون بهذه الصفة جزاؤهم عند الله - تبارك وتعالى- {أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ}، فهذه عقوبتهم، هذا جزاؤهم عند الله - تبارك وتعالى-,  {عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ}، الله - تبارك وتعالى-  يجعل اللعنة عليهم, ومِن هذه اللعنة حرمانهم مِن الهُدى, وإبقاؤهم في الضلالة, وسيرهم في هذا الطريق الذى يؤدى بهم إلى الخسارة, {وَالْمَلائِكَةِ}, يلعنونهم كذلك بكفرهم وعنادهم ويلعنونهم بلعنة الله - تبارك وتعالى-, { وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}, يلعنونهم، يلعنهم أهل الإيمان بلعنة الله - تبارك وتعالى-, ثم يلعن بعضهم بعضًا, ثم هم يلعنون أنفسهم بعد ذلك ويمقتون أنفسهم بالآخرة، فتكون عليهم اللعنات مِن كل مكان وذلك لتلبسهم بهذه الجريمة الكبرى، فجريمتهم الكبرى أنهم كفروا بعد إيمانهم، عرفوا الحق وجحدوه، جاءتهم البينات فرفضوها، فشهدوا بأنَّ الرسول حق في مجالسهم وبينهم, وبعضهم بعضًا يشهدون في قرارة أنفسهم أنَّ هذا رسول الله حقًا وصدقًا ولم يتبعوه، لمَّا كان شأنهم على هذا النحو مِن الجحود فإنَّ الله - تبارك وتعالى-  جزاهم بهذا الجزاء،  {أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [آل عمران:87], {خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ}[آل عمران:88].

نقف عند هذا, واستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب.