الأربعاء 23 شوّال 1445 . 1 مايو 2024

الحلقة (95) - سورة آل عمران 86-92

الحمد لله ربَّ العالمين, وأُصَلِّى وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

يقول الله - تبارك وتعالى- : {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85], {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[آل عمران:86], {أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}[آل عمران:87], {خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ}[آل عمران:88], {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[آل عمران:89].

بعد أنْ بيَّن الله - تبارك وتعالى-  لبنى إسرائيل وللنصارى ولأهل الكتاب البيِّنات, وأوضح لهم السبيل, وبيَّن أنَّ الدين عنده هو الإسلام، قال : {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}, في الآخرة فلا ينفعه إيمانه ببعض رسل الله - تبارك وتعالى-,  لا ينفع اليهودى إيمانه بموسى وبَذْلَه في سبيل اليهودية ما يبذل إنْ كفر بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ولا ينفع النصرانى إيمانه بالله وإيمانه بعيسى وبالإنجيل وإنْ بذل في سبيل الله ما بذل مع كفره بمحمد -صلوات الله والسلام عليه-, فإنَّ الكفر برسول واحد كُفر برسل الله جميعًا، بل كُفر بالنبي الأساس الذى ينتمى إليه ويؤمن به, وذلك الدين عند الله الإسلام، الإسلام بكل معناه الاستسلام الكامل لله - تبارك وتعالى-, الإيمان بكل ما أخبر به، الإيمان بكل رسله, طاعته سبحانه وتعالى-  في كل ما يأمر به، فمن يبتغى غير الإسلام دينًا إذعان وخضوع واستسلام لله, {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، ثم بيَّن الله - تبارك وتعالى-  استبعاد هدايته -جلَّ وعَلا- على هؤلاء المجرمين، قال : {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ........}[آل عمران:86], هذه جريمة أنه بعد أنْ آمنوا بالله  -تبارك وتعالى-  وعرفوا الحق كفروا به، جحدوه، {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ........}[آل عمران:86], خَبَرُ هذا النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- وعلموا أنه رسول الله حقًا وصدقًا، {وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}, الأدلة المتوالية بأنَّ هذا هو نبي الله حقًا وصدقاً، وقال الله -جلَّ وعَلا- : {........ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[آل عمران:86]. هذا ليس مِن سُنَّتِهِ أنْ يهدى الظالم أي يمتن بالهداية على مَن يكفر ويجحد على هذا النحو ليس هذا مِن سُنَّةِ الله - تبارك وتعالى-,  بل الذى مِن سُنَّتِهِ قال : {أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}[آل عمران:87], فالمجرم الذى عرف الحق وجحده وعرف أنَّ هذا الحق مِن عند الله - تبارك وتعالى-  هذا رسول الله ثم يعاند ويسير، لا، الله -تبارك وتعالى-  يعاقبه على هذا العناد وعلى هذا الجحود وعلى هذا الكفر, {أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ}، اللعنة هي الطرد مِن رحمة الله - تبارك وتعالى-, ومِن أثر هذه اللعنة الإلقاء في النار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة يلعنونهم, {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}, يلعنونهم، مؤمنهم وكافرهم، يلعن كافرهم، {خَالِدِينَ فِيهَا}، خالدين في هذه اللعنة, {........لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ}[آل عمران:88]، النار هذه أثر لعنة الله - تبارك وتعالى- لهم وعقوبة الله - تبارك وتعالى-  بما لعنهم فإنَّ طردهم ليكونوا في النار خالدين فيها في لعنته، في ناره، في عقوبته، {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ}، أي يوم القيامة, {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ}، يمهلون، الإنذار هو الإمهال أي إذا جاءهم الوعد الذى كتبه الله وسجَّله الله - تبارك وتعالى-  لدخولهم النار ولهلاكهم في هذه الدنيا فإنهم لا يؤخرون ولا ثانية واحدة, {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ}.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[آل عمران:89], {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}, عن هذا الجحود وعن هذا الكفر, رجعوا عن هذا الأمر، فلابد أنْ يرجعوا حتى يوفقهم الله - تبارك وتعالى-  ويتوب عليهم، أما طالما هم معاندون مُصِرُّونَ على كفرهم, سائرون في هذا الطريق الذى يعلمون أنه غير طريق الرَّب - سبحانه وتعالى- فإنَّ الله لا يهديهم، قال : {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}، أي عن الكفر بالله - تبارك وتعالى-, {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} ، مِن بعد هذا التكذيب وهذا الجحود، {وَأَصْلَحُوا}, فيما سلفناه، كل الأقوال الباطلة التي قالوها بدأوا بإصلاحها، كانوا قد أعلنوا أنَّ هذا الرسول ليس هو رسول الله, هذا رسول الأميي, وهذا ليس هو محمد بن عبد الله نشروا هذا الباطل عمدًا، لابد إذن مِن الإصلاح وأنْ يصلحوا ما أفسدوه هذه واحدة, ثم كذلك أصلحوا في قيامهم بالعمل الصالح بأنْ أذعنوا لله  -تبارك وتعالى- وانقادوا له وأدوا ما أوجبه الله - تبارك وتعالى- لهم.

قال -جل َّوعَلا- : {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، هذا مِن صفته - سبحانه وتعالى-  {غَفُورٌ}, مسامح - سبحانه وتعالى- يغفر هذا الذنب عن أنه يغطيه ويستره -سبحانه وتعالى- ولا يحاسبهم به، ما يخرج لهم هذه كما يقال الملفات القديمة وإجرامهم السابق ويحاسبهم عليه الله - تبارك وتعالى-,  فهو  {غَفُورٌ}, ساتر للذنب, {رَحِيمٌ}، بعباده ومِن رحمته بعباده ألَّا يؤاخذهم بما سلف مِن هذا الإجرام وهذا الكفر منهم ولو آخذهم بهذا وأخذ يزن حسناتهم وسيئاتهم هذه في الكفر يكون عقوبتهم شديدة، بل إنَّ الله - تبارك وتعالى-  يزيل كل هذه الجرائم كأن لم تكن وكأنهم يبدؤون أي يبدأ المؤمن بتوبته إلى الله - تبارك وتعالى-  حياةً جديدةً كأنه ولد اليوم، كأنه ولد منذ هذه الساعة كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه - : « يا عمرو ألم تعلم أنَّ الإسلام يَجُبُّ ما قبله, وأنَّ الهجرة تَجُبُّ ما قبلها, وأنَّ الحَج يَجُبُّ ما قبله»، هذا قاله النبي لعمرو بن العاص لما قال له أُمدد يدك يا رسول الله أُبايعك عن الإسلام، فلما مد رسول الله يده قبض عمرو بن العاص يده ,فقال له: مالك يا عمرو فقال اشترط يا رسول الله قال أشترط ماذا؟ قال اشترط أنْ يُغْفَر لي وذلك أنه عندما يتذكر إجرامه السابق وجنايته السابقة للإسلام وكفره السابق يرى ماضي طويل مِن هذا، فقال اشترط أنْ يُغْفَر لي، فقال له النبي : « يا عمرو ألم تعلم أنَّ الإسلام يَجُبُّ ما قبله, وأنَّ الهجرة تَجُبُّ ما قبلها, وأنَّ الحَجُّ يَجُبُّ ما قبله»، والجَب هو القطع مِن الأساس، فهذا مِن رحمته  -سبحانه وتعالى-  أنَّه مِن رحمة الله -عزَّ وجلَّ - أنه رحيم بعباده لا يحاسبهم بجرائمهم السابقة، ثم إنه يقبل توبة التائب إليه - سبحانه وتعالى-  هذا مِن رحمته أنه غفور رحيم.

أما القسم الآخر الذى استمر على هذا الأمر على هذا الكفر حتى مات, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} [آل عمران:90], {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ}, يُخْبِرُ - سبحانه وتعالى- أنَّ الذين كفروا بعد إيمانهم تبيَّن لهم الإيمان وظَهَرَ لهم هذا مِن كل أحد، مِن اليهود ومِن النصارى والمنافقين الذين عرفوا الحق وعرفوا أنَّ هذا الرسول حق, {كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا}, كلما يمضى الوقت يزدادون كفر بل كلما تنزل لهم آية مِن الله - تبارك وتعالى-  يجحدونها فيزدادون كفرًا بذلك، قال -جلَّ وعَلا- : {لنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}، أي لن يقبل الله - تبارك وتعالى- منهم رجوعهم إلى الحق إما في هؤلاء خاصة الذين جحدوا هذا الجحود, وتمادوا هذا التمادي وكفروا هذا الكفر, وازدادوا كُفر على هذا النحو، أخبر - تبارك وتعالى-  أنه لن يقبل توبتهم, {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}.

لعل هذه الآية خاصة في هؤلاء النَّفَر الذين نزلت فيهم هذه الآيات مِن الجاحدين مِن اليهود والنصارى الذين جحدوا هذا الجحود فإنَّ الله - تبارك وتعالى-  لن يقيل عثرتهم وسيبقون في هذا الكفر حتى يموتوا عياذًا بالله، وإلا فإنَّ الله - تبارك وتعالى-  يَغفر للعبد مالم يُغَرْغِر كما قال النبي: «يغفر لأحدكم ما لم يُغَرْغِر», وقد قال - تبارك وتعالى- :  {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53], فالله يغفر الذنوب جميعًا ويغفرها للعبد مالم يغرغر إلا إذا وصلت الروح الحلقوم قبل هذا {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ........}, قبل الموت، {يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}, قبل الموت فإذا تابوا قبل الموت قبل الله - تبارك وتعالى-  توبتهم وأقال عثرتهم، أما هؤلاء الذين قال الله - تبارك وتعالى-  : {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}, إما أنه لن تقبل توبتهم لأنهم ازدادوا كفرًا كلما تمر عليهم الأيام ويأتيهم الهَدْى يزدادون كفراً بعد كفر، فهؤلاء إما أن الله - تبارك وتعالى-  لن يقبل توبتهم فيما لو تابوا فيكون هذا لهم خاصة وإما أنه لن يوفقهم - سبحانه وتعالى- للتوبة فيتوبوا حتى يقبلها الله - تبارك وتعالى-  منهم, {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}، وقول الله : {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}, أي أنهم يستمرون على هذا الضلال عياذًا بالله حتى يموتوا، فلذلك لن تقبل توبتهم هنا بمعنى أنه ما ليس لهم أصلًا رجوع إلى الله - تبارك وتعالى-  حتى يقبل الله -عز وجل- هذه التوبة, {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}، الحقيقة أي الذين ضلوا طريق الرَّب  - سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}[آل عمران:91], هذا مَن يموت على الكفر، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}, بالله، بالرسول، بأي أصل أو قضية مِن قضايا الإيمان، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ}، استمروا على هذا الكفر عياذًا بالله حتى ماتوا عليه, فلم يفيقوا إلى الإيمان ويفروا إلى الإيمان قبل الموت بل استمروا على هذا حتى الموت، قال -جلَّ وعَلا- : {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ هذا غاية ما يُظَنّ مِن سبيل للنجاة مِن النار، غاية ما يظنه مَن يظن أنه يمكن أنْ يفر مِن النار فرض لن يكون, ولكن لو كان فإنه كذلك لا يقبل هذا الفرض هو أنْ يكون كل واحد فيهم يملك مثل الأرض ذهبًا، قَدْر الأرض بكاملها ذهب ثم يقدمه ليكون فدية له مِن النار فهذا مستحيل ينبني على مستحيل حتى يكون هذا المستحيل الأول بعد مستحيل آخر.

فالله - تبارك وتعالى-  يُخْبِرُ بأنَّ مَن مات على الكفر كان مِن أهل النار, ثم لو كان له أيضًا هذا الأمر وهو أمر مستحيل يبنى الله - تبارك وتعالى-  المستحيل هذا على مستحيل, وهذا المستحيل هو أنْ لو كان لكل كافر يملك ملئ الأرض ذهب, وهذا مستحيل أنْ يكون لكل كافر ملئ الأرض ذهب بل ما بلغ الكافر مِن الملك مِن الذين كفروا، فرعون مثلًا كانت له كنوز، قارون، الله -تبارك وتعالى-  أخبر عن كنوزه قال : {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}, له كنوز مِن الذهب لنفرض هذه الكنوز آلاف الأطنان مِن الذهب، أطنان بالنسبة لحجم الأرض هو شيءٌ قليل كأنها صخرة أمام هذه الجبال المترامية، فلو فُرض مثل قارون مثل فرعون رجل يملك مثل الأرض ذهبًا وجاء مات كافرًا، حقَّت عليه كلمة العذاب ولابد أنْ يدخل النار، وأراد أنْ يقدم هذا المال فيما لو ملكه حتى يفر مِن النار فإنه لن يقبل منه، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى........}[آل عمران:91], لو سمحت نفسه وقال أنا أتنازل عن هذا المال كله أو أدفعه كله في سبيلك وأدفعه ثمن فدية لخروجى مِن النار, فلا يقبل منه، يقول الله - تبارك وتعالى- للكافر يوم القيامة : (أرأيت لو كان لك مثل الأرض ذهبًا أكنت تفتدى به عندما يرى عذاب النار، يقول إى وربى أفتدى به يارب فيقال كذبت، قد أمرتك ألا تشرك بى شيئًا فأبيت إلا أنْ تشرك بي شيئًا)، أي جاءك الأمر الإلهي أنْ تعبد الله وحده لا شريك له وأنْ تسلم لله - تبارك وتعالى-  فأبيت إلا الشرك، أصررت إصرار أنْ تسير في الشرك بالله - تبارك وتعالى-، كان هذا في الدنيا أهون كثيرًا مِن أنْ يطلب منك ملئ الأرض ذهب.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ........}[آل عمران:91], هذا تهديد ووعيد مِن الله - تبارك وتعالى-, { أُوْلَئِكَ} أي الذين هذه هم صفتهم إشارة إلى هؤلاء الذين ماتوا وهم كفار, {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}, لهم عذاب مؤلم في النار عياذاً بالله، فراشه الدائم نار وهذا السجن الذى يسجن فيه هو جهنم جدرانه نار, وغطاؤه نار, ويأتيه الموت مِن كل مكان وما هو بميت مِن هذه النار التي هو فيها من الماء الحميم الذى يشربه فيشوى وجهه بل تقع فروة رأسه فيه, والنار الشديدة التي تنزع فروة الرأس، {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى}[المعارج:15],{نَزَّاعَةً لِلشَّوَى}[المعارج:16]، {نَزَّاعَةً}, بمعنى تنزع, الشوى هذه هي الغلاف الذى يغطى الجمجمة تنزعه نزعًا عن رأس صاحبه عياذًا بالله، {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى}[المعارج:16]، {تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى}[المعارج:17], {وَجَمَعَ فَأَوْعَى}[المعارج:18], فيأتيه الموت مِن هذه النار مِن الحميم, مِن العقارب التي تلدغ, مِن الحيَّات, مِن ضرب المقامع على رأسه, {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:21],{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}[الحج:22], فهو عذاب مؤلم بكل معانى الإيلام، هذا الإيلام البدني، الجسدي وكذلك الإيلام النفسي، التقريع، الاستهزاء بهم، السخرية بهم، إخبارهم بلعن الله ومَقت الله -عزَّ وجلَّ- عليهم، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ}, اسمعوا, {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ},  أي مقت الله لكم, وكراهيته لكم أكبر مِن مقتكم أنفسكم, الله مَلِك السماوات والأرض - سبحانه وتعالى-، لم يخبر بهذا, فهذا تقريع على تقريع ثم هؤلاء يلعنون هؤلاء، وهؤلاء يلعنون هؤلاء فيبقى في غم مستمر, {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}[الحج:22], فلهم عذاب أليم.

قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}، ليس هناك مَن ينصرهم مِن الله - تبارك وتعالى-  يخرجهم مِن النار، يطلب لهم التخفيف، يعينهم في هذا الأمر، يساعدهم، يعطف عليهم، ليس لهم ناصر في كل الوجود، الله - تبارك وتعالى - تخلَّى عنهم وتركهم, وكل خَلْقِ الله - تبارك وتعالى - يلعنونهم ويُبَكِّتُونَهُم فليس لهم ناصر دون الله - تبارك وتعالى -, ثم قال - تبارك وتعالى- : {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران:92].

هذا فتح المجال للإحسان, وأنَّ هذه ذكرت صور الإجرام والظلمة والبعد عن الله - تبارك وتعالى-,  ظلمة مَن عَرِفَ الحق وتبيَّن له تمامًا فجحده وأنكره وسار في هذا الطريق، تأتى بعد ذلك الصورة المشرقة، صورة العبد المؤمن البار الذى يسعى في طريق الرَّب - سبحانه وتعالى-  فيبيِّن الله - تبارك وتعالى-  طريق الإحسان للوصول إلى أعلى الدرجات، قال -جلَّ وعَّلا- : {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ}، أي حقيقة الخير، البِّر اسم جامع لكل معانى الخير فكل ما أمر الله - تبارك وتعالى-  به داخل في معنى البر، فالصلاة والصيام والزكاة والحج مِن البر، صلة الوالدين, الإحسان إلى الوالدين، صلة الأرحام والصدق، كل هذا مِن البِرّ، البِرّ هو كل الخير و{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ}، أي حقيقة الخير وهذه جَمْع شُعَب الإيمان كلها وأنْ يكون المؤمن بعد ذلك يوصف بأنه البار, فاعل الخير، قال : {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، أعلى وأسمى درجات الإحسان والبِرّ إلا إذا أنفقت مما تحب.

المال شقيق الروح كما يقولون، فشقيق النَّفْس، والإنسان يحب المال ومفتور على هذا، فإذا كان ينفق ما يُحب مِن المال سواء أكان هذا المال ذهبه وفضته, لباسه الذى يحبه ويحرص عليه، طعامه الشهى الذى يشتهيه، بستانه الجميل الذى يحبه ويأنس به، أنعامه العزيزة عنده، خيله، فرسه، هذا كله مال، فإذا كان الإنسان يخرج أعز ما عنده وأحسن ما عنده وأغلى ما عنده ويخرجه لله فهذا الذى ينال حقيقة البِرّ وَصَلَ إلى أعلى منازل الخير، منزلة الإسلام العليا، {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ}، أي درجاته العليا وحقيقته على الحقيقة حتى يُسمَّى العبد بارَا, {حَتَّى تُنْفِقُوا}, أي في سبيل الله, {مِمَّا تُحِبُّونَ}،  ما قال الله ما تحبون لأنَّ هذا يكون شاق جدًا، معناه أنه لابد أنَّ كل ما يحبه العبد لابد أنْ ينفقه، لكن قال الله -عزَّ وجلَّ- : {مِمَّا تُحِبُّونَ}،  مِن الذى تحبون, أي إذا أنفقتم مِن الذى تحبون لله - تبارك وتعالى-؛ بلغتم حقيقة البِرّ، ثم بيَّن - سبحانه وتعالى-  بأن حظًا لعباده على هذا الأمر والذى هو يحتاج إلى قوة إيمانية ونفسية كبيرة.

قال -جلَّ وعَلا- : {........ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}[آل عمران:92], أي شيء تنفقونه مِن هذا الذى تحبون فاعلموا أنَّ الله به عليم,  {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ} أي شيء، مِن لتأكيد النَّفس, أي شيئَا ما, {فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}, ومعنى أنه عليم به يكافئكم ويجازيكم ويشكر لكم فهذا حظ عظيم للمؤمن أنْ ينفق في سبيل الله - تبارك وتعالى - .

{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}[آل عمران:92], انظر صور تطبيق الصحابة للقرآن، أبو طلحة الأنصاري -رضى الله تعالى عنه- لما نزلت هذه الآية قال: الله يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}، يحب أنْ يكون بارًا، فنظر في ماله ووجد أنَّ أفضل مال عنده بستان له يسمى بَيْرُوحَاء وهذا بستان كان قريبًا مِن مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان فيه ماء عذب حلو، بستان عظيم وكان النبي أحيانًا يأتي إلى هذا البستان للتبرد فيه, فأتى النبي --صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله إنَّ الله - تبارك وتعالى-  يقول : {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وإنَّ أحب مالي إليّ هو بَيْرُوحَاء، قال له ما عندي مال أحبه أي فرسه, ذهبه, فضته, منزله, ملابسه, أي شيء، يقول ما عندي مال أعتز به وأحبه أفضل مِن هذا البستان بَيْرُوحَاء وإني أُشْهِدك يا رسول الله أني قد جعلتها لله, فانظر يا رسول الله فيمن تضعه، قد وَكَّلَ النبي في أن هو الذى يتصرف فيها وينفقها في الوجه الذى يراه وهذا أيضَا مِن كمال فقهه أنه لم ينفقه مِن عنده, وإنما أراد أنْ يُشْهِد النبي وأنْ ينفقها النبي حيث يرى أنه الوجه الأكمل والأفضل، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- : مال رابح، أي هذا الذى فعلته هذا مال رابح أنْ تخرج عن أطيب وأفضل ما عندك مِن المال لله - تبارك وتعالى-  ثم قال له النبي : وقد سمعت ما قلت، أي الذى قلته مِن أنك قد وكَّلْتَنِي في هذا الأمر وفوضتني في هذا الأمر وقد سمعت ما قلت وأرى تطبيق لوكالتك هذه أنْ تجعلها في الأٌقربين، قال اجعلها في قرابتك, وزعها في قرابتك، فوزعها أي يُقَسِّمَها أبو طلحة رضى الله عنه في بعض أقاربه أعطى حسان وبعض أقاربه أجزاء من هذا البستان، هذه الصورة من صور السباق وتسابق هؤلاء الصحابة وفقههم لنص القرآن وكيف عندما ينزل, كيف يطبقونه على أنفسهم ولا يأخذونه لمجرد الحفظ وإنما يأخذونه ليطبقوه, وهذه الصورة مِن صور التطبيق.

ثم بعد ذلك النقاش ما زال مع أهل الكتاب مِن اليهود والنصارى, وكان هذا أيضًا لَفْتَة وبيان لهؤلاء اليهود البخلاء الذين جعلوا الدنيا همهم, وباعوا الدين مِن أجلها وتكالبوا عليها أن ليس هذا الدين الذى أنتم عليه من محبة هذه الدنيا والتكالب عليها، هذا ليس هو البر ولن تكونوا بارين بهذا، وإنما البار عند الله - تبارك وتعالى-  مَن يجعل أفضل مال عنده ينفقه في سبيل الله، فهذا الذى يَبْلُغ البر ويَبْلُغ الخير وكأنه توجيه مِن الله - تبارك وتعالى-  لهم بأنْ يعودوا إلى حقيقة الدين وحقيقة البر، فيخرجوا عن مالهم لله، وكأنه العبد إذا أخرج المال هكذا لله - تبارك وتعالى- ابتغاء وجه الله هداه الله ووفقه وأعانه, وهؤلاء محتاجون إلى هذا، وذلك أنَّ هؤلاء مِن محبتهم للمال تركوا الدين مِن أجل هذا، تركوا الإيمان بالنبى محمد مِن أجل هذا، بل إنَّ عامة الكفار ليس اليهود وحدهم إنما كان تركهم للدين بسبب حرصهم على المال, كما قال كفار قريش للنبي -صلوات الله والسلام عليه-, قال -جلَّ وعَلا- عنهم : {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا........} [القصص:57], {ُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا}, يروح هذا، خشوا على أموالهم وعلى تجارتهم وعلى عملهم، فإذا اتبعوا هذا الدين وعادوا الناس ذهب حالهم وتخطفهم الأعداء مِن الأرض.

 قال -جلَّ وعَلا- : {........أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:57], بعد ذلك يعود السياق إلى الحديث مع بنى إسرائيل أيضًا ومناقشتهم في افتراءاتهم وكذبهم فيقول - جلَّ وعَلا- : {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[آل عمران:93].

نعيش مع هذه الآيات في الحلقة الآتية إنْ شاء الله, أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.