الخميس 24 شوّال 1445 . 2 مايو 2024

الحلقة (96) - سورة آل عمران 93-97

الحمد لله ربِّ العالمين، وأُصَلِّى وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله الأمين، وعلى أصحابه ومَن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

يقول -تبارك وتعالى- : {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[آل عمران:93], {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[آل عمران:94], {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[آل عمران:95].

يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- أنَّ الطعام كله كان حلًا لبنى إسرائيل, إسرائيل هو يعقوب -عليه السلام- وأولاده اثنى عشر تناسلوا وأرسل الله - تبارك وتعالى-  فيهم الأنبياء والرسل, فقبل مجيئ موسى -عليه - وإنزال شريعة التوراة فإنَّ هذا القِسْم مِن بنى إسرائيل كان كل الطعام حلًا لهم، لم يحرم الله - تبارك وتعالى - عليهم شيئًا مِن الأطعمة.

قال -جلَّ وعَلا- : { إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ}, وذلك أنَّ إسرائيل قيل أنه حَرَّمَ على نَفْسِهِ لحم الإبل وألبانها قد كان يحبها حبًا عظيمًا وأنه تركها تعبدًا لله - سبحانه وتعالى-,  {عَلَى نَفْسِهِ}, هو وليست شريعة مما أنزله الله - تبارك وتعالى-  وألزم به بنى إسرائيل، وهذا كان قبل نزول التوراة، ثم لما نزلت التوراة فإنَّ الله - تبارك وتعالى-  قد جَعَل لهم شريعة في التوراة ومِن هذه الشرائع أنَّ الله - تبارك وتعالى-  قد حرَّم عليهم بعض الطيبات التي أُحِلَّت لهم وكان هذا التحريم عقوبة منه - سبحانه وتعالى-  على فعلهم.

قال -جلَّ وعَلا- : {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا}[النساء:160], {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ........}[النساء:161], فحرم الله - تبارك وتعالى-  عليهم بعض هذه الطيبات كما ذكر في قول الله - تبارك وتعالى- : {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأنعام:145], {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام:146].

فأخبر الله - سبحانه وتعالى-  أنه حرَّم عليهم بعض هذه الأطعمة وهى مِن الطيبات وليست مِن الخبائث لكن حرَّم الله - تبارك وتعالى-  عليهم هذه الطيبات قال : {بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}, فيما أخبر الله - تبارك وتعالى-  بهم عن هذا التشريع وكذلك فيما عاقبه الله - تبارك وتعالى-  ربه على هذه الجرائم التي ارتكبوها, قبل أنْ يُحرِّم الله - تبارك وتعالى-  عنهم هذه الطيبات كل الطعام الطيب كان حلالًا لهم منذ إسرائيل -عليه السلام-، هذا يقوله الله - تبارك وتعالى-,  وذلك أنَّ هؤلاء يقولون لا نسخ أي قالوا للنبي -صلوات الله والسلام عليه-  إنَّ دينك هذا الذى جئت به تنسخ شريعة التوراة كيف تنسخ شريعة التوراة والنسخ لا يكون في دين الله لأنهم زعموا أنَّ النسخ يكونوا بَدَاء، وكأنَّ الله بدا له شيء وظهر له شيء لم يكن معلومًا عنده قبل لك فَمِن أجل ذلك يبدل الأمر، فأخبرهم - سبحانه وتعالى-  أنَّ نسبة في التشريع، النسخ في الشرائع ليس بدا وإنما النسخ الذى ممتنع على الله - تبارك وتعالى-  والذى هو نسخ الأخبار فإنَّ نسخ الخبر كذب أما الشريعة فإنَّ الله - تبارك وتعالى-  يَشْرَعُ لعباده مِن التحليل والتحريم بحسب الحال.

فإنَّ مثلًا الزواج بالأخت قد كان في أولاد آدم ليس في الأرض غيرهم فللك كان يتزوج الأخ مِن أخته فقط بفارق البطن؛ أي يتزوج الأخ الذى يكون في هذا البطن مِن أخته التي كانت في بطن أخرى بالنسبة للتوائم، هذا بحسب الحال, أُمم مِن الأُمم  لا يكلفهم الله - تبارك وتعالى-  بالقتال, ثم يكلفهم بالقتال, لا يكلفهم بالقتال لضعفهم في ذلك الوقت ثم بعد ذلك يشرع الله - تبارك وتعالى-  القتال، الله - تبارك وتعالى-  في تشريع الطعام بالنسبة لبنى إسرائيل فالأمر كان في الأول حِلّ لهم، وجاء موسى بدين الله - تبارك وتعالى-  ثم إنَّ هؤلاء التووا وعاندوا فأخذهم الله - تبارك وتعالى-  بالشدة بأنْ حرَّم عليهم بعض هذه الطيبات ويكون هذا نوع مِن العقوبة لهم, فهي عقوبة بحسب حال هؤلاء, نوع مِن التقويم لهم، ثم إنه لما جاءهم عيسى رفع الله - تبارك وتعالى-  عنهم بعض هذه العقوبات, فهذا النسخ في الشريعة إنما هو بحسب الأوامر والنواهي إنما هو بحسب الحالة.

لله - تبارك وتعالى-  حِكَم عظيمة في النسخ فقد يكون النسخ مِن الأمر الشديد إلى الأمر المخفف تخفيفًا منه, وقد يكون مِن الأمر الخفيف إلى الأمر الشديد، هذا أخذًا بالعزيمة لأنَّ الأُمة تحتاج إلى هذا, وفى الشريعة الواحدة شريعة محمد -صلوات الله والسلام عليه- كان النسخ، ففي أول الإسلام مثلًا مُنِعَ المسلمون أنْ يردوا الإساءة بالإساءة، إساءة الكفار، بل يجب أنْ يصبروا عليه، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ........} [النساء:77], {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ}, أي عن القتال حتى وإنْ قاتلوكم وإنْ عذبوكم وشردوكم فاصبروا على الأذى الذى يكون حتى يأتي الله - تبارك وتعالى-  بأمر مِن عنده وفرج مِن عنده ثم كان، فنُسِخَ هذا العفو عن الكفار وعدم رد سيئتهم بسيئة، نسخ بحد السيف، قيل لأهل الإسلام بعد ذلك : {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[الحج:39]، {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ........} [الحج:40],  وأخذهم الله - تبارك وتعالى-  في بادئ الأمر أهل الإسلام بالشدة، يجب على المسلم أنْ يصيب عشرة مِن الكفار ولا يَفِرّ منهم، يقاتلهم ولا يفر منهم وإنْ فَرَّ يكن متولى منه الضهر.

ثم خفف الله - تبارك وتعالى-  هذا الحُكم بعد ذلك فقال : {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ........}[الأنفال:66]، إذن الواحد باثنين, فلا يحل لمسلم أنْ يفر مِن اثنين وهكذا فهذا نسخ لحكمة، كذلك بالنسبة للخمر مثلًا لما كانت مستشرية في المجتمع الجاهلي يشربها الصغير والكبير والرجل والمرأة يتصبحون بها وهي غُبُوقهم في المساء, فهي صبوحهم, هي غُبُوقهم, هي مُنتشاهم وشربهم عند تجمعهم, هي نشوتهم, هي غناؤهم, هي شعرهم, لما كانت مستشرية على هذا النحو لما يحرمها الله - تبارك وتعالى-  دفعة واحدة, وإنما تدرج معهم - سبحانه وتعالى-  في تحريمها، فالنسخ له حِكْمته، ثم إنَّ كل رسول يأتي قد ينسخ بعض ما جاء في الشريعة السابقة، فإنَّ عيسى نَسَخَ أشياء مما جاء في شريعة موسى مِن أنه أحل لهم بعض ما حُرِّم عليهم مِن أنه أمرهم كما جاء في الإنجيل، قد سمعتم أنه قيل عين بعين وسِن بسِن, وأما أنا فأقول لا تقاوموا الشر، بل مِن لَطَمَكَ على خدك الأيمن فأَدِر له الآخر أيضًا، ومَن نازعك ثوبك فأترك له الرداء أيضًا، ومَن سخَّركَ ميلًا فاذهب معه اثنين، هذا مِن باب لا تقابلوا السيئة بالسيئة، ولكن قابلوا السيئة بالحسنة, فهذا تشريعه إلى أنْ يأتي النبي الذى يبعثه الله - تبارك وتعالى-  بالسيف، محمد -صلوات الله والسلام عليه-، فعيسى لم يُرْسَل بالسيف وإنما أُرْسِلَ لرد الإساءة بالإحسان ولم يحمل سيفًا، وينزل في آخر الزمان بالسيف كما قال النبي : «والذى نفس محمد بيده لينزلن فيكم عيسى بن مريم حكمًا عدلاً مُقسطاً, فيكسر الصليب, ويقتل الخنزير, ويضع الجذية»، أي لا يقبلها بمعنى لا يقبل الإسلام أو القتل, «ويؤذن للصلاة», فشريعته عندما ينزل غير شريعته عندما بعث في أول رسالته -عليه السلام-.

فالنسخ واقع في الشريعة، ثم جاء محمد -صلى الله عليه وسلم- بشريعة مستقلة -صلوات الله والسلام عليه-، فهذا رد على اليهود الذين قالوا لا الله ينسخ شريعته’ وإنما النسخ هذا بدأ فلبسوا للناس بين النسخ في الأحكام والشرائع, والنسخ في الأخبار، الخبر لا ينسخ إذا أخبر الله - تبارك وتعالى-  أن ثمة جنة، ثمة نار إنه مِن الإله الذى صفته كذا وكذا أنَّ ملائكته كذا وكذا، هذا لا يدخله نسخ، يقول الله - تبارك وتعالى-  بعد ذلك لا تكون هناك قيامة أو لن تكون هناك جنة أو لن تكون هناك نار أو الأمر لن يكون هكذا لا، بل الأخبار لا يدخلها نسخ, وإنما يدخل النسخ في الشرائع, فأخبرهم - سبحانه وتعالى- أنَّ هذا التشريع الذى مِن تحريم الطيبات عليهم إنما لم يكن على بنى إسرائيل الأوائل, قال - جلَّ وعَلا- : {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}, أحله الله لهم, {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاة}، هذا تَعَبُّد خاص به ولم يكن دينًا مشروعًا مِن الله - تبارك وتعالى-.  وإنما هذا تعبد أراد أنْ يعبد الله - تبارك وتعالى- به,  أنْ يترك ما يشتهي وما يحب قُربى إلى الله - تبارك وتعالي- , وهذا يجوز حتى في شريعتنا يجوز إذا كان الإنسان مثلًا يحب شيئًا وتركه مِن أجل الله - تبارك وتعالى-  لا تحريمًا له, وإنما قربى إلى الله - عَّز وجل-  كان يترك بعض الطيبات وهو قادر عليها مِن باب التقرب إلى الله - تبارك وتعالى-  بها يتصدق بثمنها, يفعل هذا ويتركها لله، فهذا خير, {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ}, قال -جلَّ وعَلا-  {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ}, إنْ زعمتم بأنَّ هذه تحريم هذه الطيبات كان محرمًا على بنى إسرائيل مِن البداية.

{........قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[آل عمران:93], {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [آل عمران:94], {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ}, افتراؤه أي خلقه، يختلق كذب وينسبوه إلى الله - تبارك وتعالى-,  {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}، أي مِن بعد هذا البيان والإيضاح, {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، ظلام لأنه يضع الأمر في غير نصابه متعدى إذا يختلق كذب ماله أساس ولا له حقيقة ثم ينسبه إلى الرَّب الإله - سبحانه وتعالى-,  قال -جلَّ وعَلا- : {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ}، قل لهم صَدَقَ الله في كل ما يُخْبِر به - سبحانه وتعالى-  وكل ما يُنْزِلُهُ -جلَّ وعَلا-, {........فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[آل عمران:95], تعالوا وهذا إبراهيم الذى تفخرون بأنكم تنسبون إليه, وتؤمنون بأنه الأب الذى باركه الله، أبوكم الذى تؤمنون به، أباكم الذى باركه الله – تبارك وتعالى – وأعطاه هذه البركة وأنَّ ما نالكم من بركات ومِن خير إنما هو مِن طريقه.

وهذا إبراهيم، تعالوا إلى طريقه إذن, {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ}، فاتبعوا معشر اليهود والنصارى, {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}, الذى كان حنيفًا، مائلًا عن كل طُرُق الشرك وسائرًا في طريق الله - تبارك وتعالى-, {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، لم يكن مِن المشركين بل كان موحدًا بالله - تبارك وتعالى-  لا يعبد إلا الله - تبارك وتعالى-,  والنبي جاء بدين إبراهيم الحنيفية السَّمحة, ملة إبراهيم, التوحيد الذى دعا إليه الخالص، فتعالوا انتسبوا إلى هذا الأب الذى تفخرون به, وتنتسبون إليه، لكن انتسابكم إليه زُور وبُهتان ولذلك أنكم تقولوا أنكم أبناء إبراهيم ولستم على مِلَّتِهِ كما جاء على لسان عيسى في الإنجيل أنتم لستم أبناء أبيكم إبراهيم بل أنتم أبناء الأفاعي، كان المسيح -عليه السلام- كما جاء في الإنجيل الموجود الآن يقول لليهود: يا أبناء الأفاعي، لستم أبناء أبيكم إبراهيم، ما أنتم أبناؤه  وذلك أنَّ ابنه الحقيقي مَن كان على دينه وكان على مِلته وإلا مَن كان مان نسله ثم انحرف إلى طريق الشيطان فإنه لا ينبغي أنْ يُنْسَب إلى إبراهيم، {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:95]. 

{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}[آل عمران:96], القبلة حُوِّلَت إلى مكة، مكة أشرف موقع في الأرض وإذا كان اليهود يقولون بيت المقدس فبيت المقدس نعم بناه إبراهيم لكن أي مسجد بَنى أولًا؟ بنى الكعبة أولًا قبل بيت المقدس، والكعبة أشرف منها وأعظم منها وهى الأصل الذى ينبغي أنْ يلتقى الجميع حوله، ليست هي كعبة العرب فقط، اخترعها العرب، بل بناها إبراهيم أبو الأنبياء -عليه السلام-، إن أول بيت وضع لعبادة الله - تبارك وتعالى-  في الأرض، {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ}، بكة هي مكة وقيل سُميت بكة لأنها تَبُك الناس, ومعنى تَبُكُّهُم بمعنى تضغطهم وذلك مِن اجتماع الناس فيها وإتيان الناس، فالله - تبارك وتعالى-  شاء أنْ تكون هذه ملتقى العالَم منذ إبراهيم -عليه السلام-,  فإنه قد أَذَّنَ في الناس للحج قال له الله - تبارك وتعالى-  : {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا........} [الحج:27]، أي ماشيين, {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}، أي مِن الحيوان, {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}، {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}, فمنذ دعا إبراهيم إلى حج بيته والبيت يحج ويأتيه الناس مِن كل مكان وقد حجه جميع الأنبياء بعد إبراهيم، كلهم حجوه وأتوه, وسعوا إليه, فالكل سَعَى إلى هذا البيت وجاء مِن الأنبياء بل كان يحج كذلك حتى في زمن الشِّرك لما أشرك العرب ووقعوا في الشِّرك والكفر ومع ذلك ظلوا معظمين لها البيت يأتونه مع شركهم, ومكة بلدٌ اختارها الله - تبارك وتعالى-  اختياره له لحِكْمَة في ذلك ليست بلدًا فسيحًا مبسوطًا أرضه, وإنما هي جبال وشِعاب بين هذه الجبال, وبالضرورة لابد إذا جاءت هذه الجموع لابد أنْ تتزاحم في شِعاب مكة فهذا مِن صفتها, وكذلك تزاحمهم حول البيت طوافًا, سعيًا بين الصفا والمروة, رميًا للجمار, حشرًا في مِنَى وفى جَمْع المزدلفة, ثم في المناسك لابد أنْ ينطلقون مِن منسك إلى منسك في أوقات مخصوصة معلومة فهي بكة، هذه نوع مِن صور العبادة التي اختارها الله - تبارك وتعالى-, ومع هذا العناء والجهد الذى يكون فيها تُغْفَر السيئات وتُغْفَر الذنوب كما جاء في الحديث : أنَّ الله - تبارك وتعالى-  يباهى الملائكة بيوم عرفة ويقول لملائكته : (انظروا عبادي أتونى شُعْثًا غُبرًا ضاحين)، ضاحين جمع ضاحي والضاحي هو الذى أضحى جاء مِن بلوغ الضحى، أضحى عليه النهار وهو يعمل ويكد ويشتغل فيكون هو الظامئ المتعب كأنه اشتغل طوال النهار إلى أنْ جاء وقت الضحى وهو في العناء والتعب، ضاحين، (أُشْهِدُكُم أنى قد غفرت لكم), فالشُّعثة والغُبرة والتعب الشديد بهذا، هذه عبادة وصورة مِن صور العبادة التي يحبها الله - تبارك وتعالى-  لأنَّ فيها خشوع وذُلّ لله - تبارك وتعالى-  وتَحِمُّل للمشاق في سبيل الله - تبارك وتعالى- لعل هذا مِن معانى بكة.

{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}[آل عمران:96], بيت مبارك بكل أنواع البَركَة، مكان للهداية، مكان لحصول الأجر والثواب العظيم، فالحاج منذ أنْ ينوى نيته ويخرج مِن بيته بكل خطواته إلى أنْ يعود هذا فيه أجر ومثوبة مِن الله - تبارك وتعالى-,  ثم إذا حج فلم يَرْفُث ولم يَفْسُق رجع كيوم ولدته أمه، استأنف حياة جديدة كأنه وضع كل ما كان له مِن الذنب خلف ظهره واستأصله الله - تبارك وتعالى-  له، مَن حج ولم يَرْفُث ولم يَفْسُق رجع كيوم ولدته أمه، اجتماع المسلمين حول رمز واحد يقيمهم وعَلَم واحد وهو الكعبة, وتَوجُه الجميع إليها مِن كل مكان في الأرض يتوجهون إلى هذه البنية هذا تأليف للقلوب وجمع لها ومشاركة كلهم يشاركون، نشترك في عبادة ربّ واحد - سبحانه وتعالى-  في الصلاة إلى هذا العلم الواحد الذى يجمعنا، أُمَّة واحدة، كل معانى البَركَة جمعها الله - تبارك وتعالى-  في هذا البيت، { مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}، {وَهُدًى}, هداية بكل معانيها كذلك, هداية مِن البيان والإرشاد, وهداية مِن التوفيق إلى طاعة الرب – تبارك وتعالى-, فالله جعل هذا البيت للهداية، فكم مِن ضال عندما جاء البيت هداه الله - تبارك وتعالى-، كم مِن شخص لم يدخل الإيمان حقًا في قلبه لما حَجَّ حَجًا صحيحًا وأتى البيت وذَلَّ لله - تبارك وتعالى - فطاف بهذه البِنية وسَعَى بين الصفا والمروة سكب الله - تبارك وتعالى - في قلبه النور والتوفيق, {وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}, للناس أجمعين، هذه دعوة مِن الله - تبارك وتعالى-  لليهود والنصارى أنْ يأتوا إلى ملة إبراهيم, وإلى البيت الأول الذى بناه إبراهيم الذى رفع إبراهيم بنائه, ورفع الله - تبارك وتعالى-  منارته ليلتفوا ويكونوا مع هؤلاء المؤمنين حول هذه الكعبة التي أقامها الله - تبارك وتعالى-,  وفى هذا الطريق طريق الله - تبارك وتعالى-  الواحد المستقيم.

{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}[آل عمران:96], {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ}, الله جعل فيه آيات بينات على أنه بيته وأنه مبارك على هذا النحو, {فِيهِ}, في هذا البيت آيات بينات، أول شيء هو مقام إبراهيم ومقام إبراهيم بصمة موجودة، مقامه مكان قيامه وذلك أنَّ الله - تبارك وتعالى-  ترك أثر قدم إبراهيم مُعَلّمَة في الصخر، صخرة وقف عليها إبراهيم فعلَّمت وغاصت قدميه في هذا الصخر ووضَعَت العلامة، فهذه قدماه وتوارث أبناء إبراهيم مِن إسماعيل هذه الصخرة الموجودة وبقيت وحفظها الله - تبارك وتعالى -، {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ}, وهو مقام إبراهيم فهذه كأنها بصمة وعلامة موجودة هذا أثر أبيكم إبراهيم أيها اليهود؛ بنى إسرائيل جميعًا, فإن إسرائيل هو ابن إسحاق ابن إبراهيم وكذلك أنتم العرب فإنَّ العرب كلهم أبوهم إسماعيل -عليه السلام-، هذه أثر أبيكم جميعًا, {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ}, مقامه على هذا الصخر وقيل إنَّ هذا الحَجَر الذى علمت قدماً إبراهيم فيه كان هو الحَجَر الذى يرتفع به لبناء البيت, لما ارتفع للبناء كان الله – تبارك وتعالى - هيأ له هذا الحجر ليقوم به دون أنْ يكون هناك سِقالة وأعواد يقوم عليها كان يقف عليه فيرتفع ويدور حول البيت ليكمل بنائه، وقيل في معنى مقام إبراهيم أي مكان إقامته فإن إبراهيم أقام في هذا المكان, وقام فيه لله - تبارك وتعالى-  يعبد الله - تبارك وتعالى- , {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا........} }[آل عمران:97]، مَن دخل هذا البيت كان آمناً، هذه آية ربنا - سبحانه وتعالى - جعلها, وهى وضع المهابة والهيبة في مكة، المسجد الحرام بأنْ يهاب الناس العدوان فيه والحرب فيه, وعلى مدار التاريخ أي على مدار الزمان هؤلاء هم العرب مع كفرهم وشركهم بعد أنْ دخل لهم الشِّرك بعد ذلك، عمرو بن لُحَىّ الخزاعي هو الذى بدَّل دين العرب, وإلا فالعرب في البداية كانت أمة مؤمنة بعد إسماعيل -عليه السلام- على التوحيد, ثم لما غَلِبَت خُزاعة على البيت, وطردوا قريش وجاء أحد قادة خُزاعة وهو عمرو بن لُحَىّ الخزاعي, وكان قد حصل له مرض فذهب إلى الحمة في الشام ورأى الناس هناك يعبدون الأصنام فأعجبه هذا الأمر وحمل مِن أصنام الشام وأتى به إلى الكعبة وقال لهم أي لخزاعة وللناس وللعرب : أنى رأيت الناس يعبدون هذه الأصنام، ونصبت الأصنام مِن ذلك الوقت, ثم انتشرت في العرب حتى أصبحت لكل قبيلة صنم, بل وفى كل بيت صنمًا كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- : «أنَّ أول مَن بدَّل دين العرب هو عمرو بن لحى الخزاعي, ولقد رأيته يجر قُصْبَهُ في النار»، قُصْبه أي أمعائه في النار، فهؤلاء العرب بعد أنْ وقع الكفر فيهم والشرك فيهم إلا أنهم ظلوا كذلك معظمين للبيت, يهابونه, يخافونه, كل العرب كان العربي الجاهلي الكافر بالله, بمعنى الكفر بالبعث لكن إذا رأى قاتل أبيه أو أخيه مَن قتل أباه أو أخاه إذا رآه في مكة امتنع عن أن يأخذ ثأره منه حتى يخرج خارج الحرم فإذا خرج خارج الحرم عند ذلك يقاتله ويقتله، فالله جعل له أمن, وجعل له مهابة,  هذه مِن الآيات البينة لهذا البيت, قال الله : {مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} هذه مِن الآيات كذلك أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- فرض حَجَّهُ على الناس وكان الناس يحجونه كذلك حتى مع الكفر والشِّرك كان الناس يحجونه, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:97].

أدركنا الوقت في هذه الحلقة, والبقية في معاني هذه الآية نُكملها إنْ شاء الله في حلقة آتية , أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب , وصلى الله على عبده ورسوله محمد.