الأربعاء 23 شوّال 1445 . 1 مايو 2024

الحلقة (97) - سورة آل عمران 97-102

 الحمد لله ربِّ العالمين, وأُصَلِّى وأُسَلِّم على عبد الله الرسول الأمين, وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

 وبعد أيها الإخوة الكرام يقول الله - تبارك وتعالى - : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}[آل عمران:96], {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97], {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ}[آل عمران:98], {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[آل عمران:99].

هذه الآيات مِن سورة آل عمران جاءت في معرض احتجاج الله - تبارك وتعالى-  على أهل الكتاب ودعوتهم إلى الدخول في دين الإسلام، الدين الذى بُعِثَ به النبى الخاتم -صلى الله عليه وسلم- مخبرًا أنَّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قد بعثه الله - تبارك وتعالى-  مِن نسل إسماعيل بن إبراهيم فهو أبوهم في النهاية ثم إنَّ الله - تبارك وتعالى-  اختار له هذا الموقع مكة المكرمة وفيها بَنَى إبراهيم -عليه السلام- أو بيت وُضِعَ للناس في هذه الأرض، قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ........} [آل عمران:96], ثم وصف الله - تبارك وتعالى - هذا البيت قال : {مُبَارَكًا}، فيه كل أنواع البركات مِن الهداية والاجتماع على قِبلةٍ واحدةٍ وكعبةٍ واحدةٍ ثم الكثرة العظيمة التي أَمَّت هذا البيت وحجته منذ وضعه وبناه إبراهيم -عليه السلام-، {وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}، هداية للناس أجمعين.

في هذا البيت {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌعلامات واضحات على أنه بين فيه هذه المواصفات، بيت مبارك أولًا مقام إبراهيم وهى موضع قدميه في الصخر، الحجر الذى كان يقوم عليه لبناء الكعبة، حفظ الله - تبارك وتعالى-  هذا الحجر وبقى مصونًا محفوظًا حتى يكون كأنه علامة وآية أنَّ هذا يتوارثه الناس جيلًا بعد جيل وأنَّ هذا موضع قدمي إبراهيم -عليه السلام-، ثم : {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}، مَن دخل هذا البيت كان آمنًا وقد جعل الله - تبارك وتعالى-  هذا البيت آمِن دون سائر بقاع الأرض، فإنَّ بقاع الأرض كلها كانت تموج بالغزو والقتل والفتن وحفظ الله - تبارك وتعالى-  هذا البيت حتى في أوقات الكفر والجاهلية والبُعد عن دين السماء كما كان حال العرب لما بُدِّلَ دينهم بقيت في قلوبهم تعظيم هذا البيت وإجلاله، العرب كل العرب كان العربى يرى قاتل أبيه وقاتل أخيه في المسجد الحرام فلا يقربه ولا يأخذ بثأره منه إلا إذا خرج إلى أرض الحِل فجعل الله - تبارك وتعالى-  تعظيمه وحرمته في قلوب الجميع، {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}.

قال -جلَّ وعَلا- : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}, هذا تذكير لكل الناس بأنَّ الله - تبارك وتعالى-  قد فرض عليهم حَجَّ بيته, {وَلِلَّهِ}, أي حقه – سبحانه وتعالى – {عَلَى النَّاسِ}, كل الناس، {حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}, قيل أنَّ السبيل هو أنْ يملك زادًا ويملك راحلة توصله مِن مكانه البعيد إلى البيت، {وَمَنْ كَفَرَ}, هنا جاء العصيان والامتناع بالكفر، {........وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:97], أي مَن كفر فلم يحج مِن العالمين لا يُقْبَلُ الحج إلا بالإسلام ومَن دخل الإسلام فالحج واجب عليه فَمَن جحده بعد دخوله في الإسلام فهو كافر بالله - تبارك وتعالى-  يموت على الكفر ومَن أهمله وتعمَّد تركه فقعد فقد قالت طائفة مِن سَلَفِ هذه الأُمة إنه يكفر بتركه للحج أي إذا كان قادرًا ولم يأتِ هذا الحج, وأما إنْ جحده ولم يأتِ الحج فهذا لا شك في كفره، أما إنْ كان معترفًا بالفَرَضِيَّة ولم يأتِه تكاسلًا فهذا قال فيه بعض السلف أنه يكفر كفر ناقل عن مِلة وقال بعضهم هذا يكون كفر دون كفر ناقل عن المِلَّة، {........وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}[آل عمران:97].

 ثم دعا الله - تبارك وتعالى-  أهل الكتاب إلى الكف عن كفرهم والدخول فيما دخل فيه أهل الإسلام, قال الله - تبارك وتعالى- لنبيه : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران:98], {قُلْ}, هو أمرٌ مِن الله  -تبارك وتعالى-  لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أنْ يدعوا أهل الكتاب إلى الإيمان والكف عن الكفر، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}، وعندما يناديهم الله - تبارك وتعالى-  بأنهم أهل كتاب فهذا إلزام لهم بالحجة وذلك إنَّ كتابهم يأمرهم بأنْ يتبعوا النبى الخاتم الذى يُرْسَلُ فيهم -صلوات الله والسلام عليه-، ثم هو حضّ على الامتثال فإنَّ مَن يحمل الكتاب ومَن يؤمن بالكتاب فإنه يجب أنْ يمتثل هذا الأمر وهذا تشريف أنَّ يُسمَّى وأنْ يُنْسَب إلى الكتاب السماوي المُنْزَل مِن الله - تبارك وتعالى-، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ}[آل عمران:98], سؤال يراد به التوبيخ والتقريع،{ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}، آياته هذه المنزلة على عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه- والتي يدعوكم الله - تبارك وتعالى-  بها إلى الإيمان به -جلَّ وعَلا-، {........لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ}[آل عمران:98], إخبار وهم لا شك أنهم يعلمون هذا لأنهم معلوم من الدين بالضرورة أنهم يعلمون بأنَّ الله شهيد على كل أعمالهم ومعنى أنه شهيد أنه عالِمٌ حاضرٌ - سبحانه وتعالى-  لا يغيب عنه شيء مِن أعمال خَلْقِهِ بل كل أعمال الخلق تحت سمعه وبصره - سبحانه وتعالى-  لا يغيب عنه شيء, {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ}، تذكير لهم بأنَّ الله مُطَّلِع عليهم - سبحانه وتعالى-  وتأنيب لهم بأنه كيف يتأتى منهم الكفر بالله - تبارك وتعالى-  مع علمهم بأنَّ الله - تبارك وتعالى-  شهيد على أعمالهم، كيف يتأتى منهم أنْ يأتوا بأكبر الذنوب والمعاصي وهي الكفر بآيات الله - تبارك وتعالى -.

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[آل عمران:99], هذا تقريع إثر تقريع، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}, أيضًا أَمْرٌ مِن الله - تبارك وتعالى - لرسوله أنْ ينادى أهل الكتاب ثم يقول لهم الله -عزَّ وجلَّ- : {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ}, سؤال للتوبيخ والتقريع، أي كفرتم بأنفسكم في الآية السابقة, أخبرهم بأنهم كفروا مع عِلْمِهِم بأنَّ الله مُطَّلِعٌ على أعمالهم وفى هذه الآية يقول لهم ما اكتفيتم بكفركم أنتم، بل بدأتم تصدون غيركم عن الإيمان بالله - تبارك وتعالى-  والصد هو المنع، أي تمنعون غيركم وتدفعونهم أنْ يؤمنوا بالله - تبارك وتعالى -.

{لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ}، أي الذين آمنوا تصدونهم عن سبيل الله وكان صدهم عن سبيل الله بطرق كثيرة جدًا منها أولًا: ادعاؤهم بأنَّ محمدًا ليس رسولًا، تشكيكهم في نبوة النبي ويقولون ليس هو هذا النبي الذى أُخبرنا به وبَشرنا به، مَن كان منهم يتقدم خطوة ويقول هو نبي إلى الأميين فقط ثم ما أثاروه مِن الشُّبَه والشكوك والتشكيك, كإثارتهم حول القبلة وأنَّ النبي هذا ليس على بينة مِن أمره, وشُبَه عظيمة يلقونها إلى أوليائهم مِن المنافقين ليصدوا الناس عن سبيل الله، {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ}، وللأسف هذا الفعل أصبح هو أكبر عملهم في دينهم فإنَّ النصارى في نهاية المطاف واليهود في نهاية المطاف أصبح همهم مِن الدعوة إلى دينهم دعوتهم في أوساط المسلمين خاصة أنْ يصدوا أهل الإسلام عن الإسلام حتى ولو لم يدخلوا دينًا فهدفهم الأول والأخير أنْ يصدوهم عن الإيمان وذلك بما يلقونه مِن الشُّبُهات والشكوك حول كل شيء في الإسلام عقائده وشرائعه وآدابه وأخلاقه ورجاله، فهم وراء كل هذه الشُّبُهات عبر التاريخ التي يريدون بها صدّ الناس عن سبيل الله.

{لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ},أي مِن الذين آمنوا, {تَبْغُونَهَا عِوَجًا}، {تَبْغُونَهَا}, بمعنى تريدونها، {عِوَجًا}،أي معوجًا، تريدون أنْ يكون سبيل الله عوجاء لا يدخل فيها الناي ولا تريدون أنْ يكون صراط الله - تبارك وتعالى-  مستقيمًا واضحًا ظاهرًا للناس فينخرطوا فيه ويسلكوه، لا، هم يريدون أنْ يكون طريق الله - تبارك وتعالى-  معوجًا للسالكين.

{........ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[آل عمران:99], {وأَنْتُمْ شُهَدَاءُ}, والحال أنكم شهداء أولًا, أي تفعلون هذا عن عِلْمٍ وعن بصيرةٍ ثم كذلك  {وأَنْتُمْ شُهَدَاءُ}, المفروض أنْ تكونوا شهداء بما أعطاكم الله - تبارك وتعالى-  مِن حمل الكتاب والعلم فيه فإنَّ مَن أمنه على مَن حوله، شهيدًا يشهد بالإيمان لأهل الحق ويشهد على الكافر بالكفر، {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}، أي أنتم شهداء والمفروض أنْ تشهدوا بالحق وأنْ تقوموا به أما أنْ تشهدوا بالزور والباطل فتشهدوا بأنَّ هذا النبي ليس بنبي وأنتم موقنون بأنه نبي الله حقًا وصدقًا شهادة زور، {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ نَفْس الخاتمة التي جاءت في الآية السابقة وكل هذا تذكير مِن الرَّب الإله - سبحانه وتعالى - أنه ليس بغافل عن أعمالهم، تخويف لهم وهذا أعظم أمر يخوَّف به من يخاف فمن ذَكَرَ بأنَّ الله - تبارك وتعالى-  مُطَّلِع على كل عمله إنْ كان ذا قلب خاف مِن الله - تبارك وتعالى-  لأنَّ الله هو الرَّب الإله العظيم - سبحانه وتعالى - الذى يؤاخذ بالذنب ويعاقب به فمن اعتقد بأنَّ الله - تبارك وتعالى-  مُطَّلِع عليه وعليم بكل أعماله وكان له قلب ارتدع، وأما الجاحد الغافل لهذا فإنه لا يفيده هذا التذكير، هذا أعظم تذكير في القرآن، التذكير بأنَّ الله - تبارك وتعالى - مُطَّلِع على العمل، {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ثم وجَّه الله - تبارك وتعالى-  بعد هذه الجولة الطويلة مِن دحض الشُّبهات وتشكيك أهل الكتاب في النبي -صلوات الله والسلام عليه- وفى هذا الدين وبعد أنْ أقام الله - تبارك وتعالى-  الحُجَّة بكل سبيل وجَّه الله - تبارك وتعالى-  هنا ندائه وحديثه إلى أهل الإيمان ليتقوا ويَحْذَرُوا مِن هذه الفئة الضالة المضلة مِن أهل الكتاب.

قال -جلَّ وعَلا- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}[آل عمران:100], الخطاب هنا تحول وأصبح إلى أهل الإيمان، خطاب الله - تبارك وتعالى-  هنا لأهل الإيمان أولًا يناديهم بمسمى الإيمان الذى هو أفضل الأسماء وأحسنها وأحبها عند الله - تبارك وتعالى-  وهذا فيه حض عندما يقول لهم يا أهل الإيمان افعلوا كذا وكذا وافعلوا كذا ولا تفعلوا كذا ولا تفعلوا كذا يكون تهييج للفعل كما يقال يا ابن الأكرمين افعل كذا وكذا، أيضًا فيه إلزام، يا أيها المؤمن يا مَن آمنت التزم لأنه هذا مِن مقتضيات إيمانك أنْ تفعل كذا وكذا لأنَّ هذا مِن لوازم ومقتضيات هذا الإيمان، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}[آل عمران:100], هذا تعليمٌ وتعريفٌ مِن الله - تبارك وتعالى-  لعباده المؤمنين أنهم إنْ أطاعوا {فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، اليهود والنصارى قال : {يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}، هذا هو هدفهم وهو غايتهم أنْ يردوكم مرةً ثانيةً {بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} أي يردوكم عن الإيمان, يرجعونكم بعد إيمانكم بالله - تبارك وتعالى-  كافرين ترجعوا إلى الكفر مرة ثانية،  وهنا قال : {فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، نزلت هذه الآية قيل بسبب أنَّ رجل مِن اليهود في المدينة يسمى "شاث بن قيس" جاء إلى مجلس مِن الأوس والخزرج وقد جلسوا في مجلسٍ واحدٍ ومعهم المهاجرون إخوة متحابين متآلفين فغاظه هذا الأمر غيظًا شديدًا, وقد كان الأوس والخزرج بينهم عداوات شديدة علمًا أنهم في الأساس أولاد عمومة وكان اليهود يؤججون هذه الحرب بين الأوس والخزرج ويستفيدوا مِن هذا أولًا تفريقهم وكذلك هم تجار السلاح يبيعون لهؤلاء ويبيعون لهؤلاء ويستفيدون بقيام الحرب بين هؤلاء، غاظ اليهود هذا الأمر بعد أنْ جَمَعَ الله - تبارك وتعالى-  الأوس والخزرج على النبى -صلوات الله والسلام عليه- على الإيمان بالله - تبارك وتعالى-  وأصبحوا إخوة متحابين في الله كذلك جاءهم مهاجرون مِن كل مكان مِن الجزيرة وتآخى الجميع في الله, فلما دخل اليهودى هذا المجلس مغتاظًا مِن هذا الأمر بدأ  يُلقى الفتنة فجلس يُذَكِّر بعض الأوس بما قالوه مِن الشِّعر القديم في أيامهم وحروبهم السابقة مع الخزرج, فرد هؤلاء بكلمة هنا وهؤلاء بكلمة هنا فرجعت ذِكرى العداوات والثارات القديمة وقاموا يَسْتبُّونَ ويضربوا بعضهم بعضًا في المجلس، فجاء النبى -صلى الله عليه وسلم- وأصلح بينهم وهدأهم ونزلت هذه الآيات : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}[آل عمران:100], هذا الفعل وهذه الغاية ليست هي غاية اليهود الذين كانوا في المدينة فقط وإنما ها فعلٌ عام وهدفٌ عام لأهل الكتاب في كل وقت وزمان.

قال -جلَّ وعَلا- مخاطبًا أهل الإيمان : {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[آل عمران:101], هذا أيضًا سؤال لأهل الإيمان يُراد به كذلك تأنيبهم وتوبيخهم، {كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ}, كيف يتأتى منكم كُفْر بالله - تبارك وتعالى-  والحال أنه تتنزل فيكم آيات الله صباحًا ومساءًا, {وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ}, ومعنى تُتْلَى أي تُقْرَأ وتُتْلَى هنا بالفعل المضارع معناها أنَّ هذا أمر مستمر وواقع في الحال والاستقبال, {وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ}, حَيّ موجود فيكم رسول الله ترونه, تسمعونه, تخالطونه، آية الله القائمة، النبي أعظم آيات الله - تبارك وتعالى-  القائمة فيما بينكم وقلنا آية لِما عليه مِن دلالات صِدْق وأنه رسول الله حقًا وصدقًا فهو مُبَارَك يضع يده في الماء فينبع الماء مِن أصابعه, الطعام القليل يصبح كثيرًا، يُخْبِرُ بغيوب مستقبلية فتكون كما هي، يُخبر بغيوب ماضية فتكون كما هي، يُخْبِر بغيوب إضافية في المكان الفلانى كذا أو في المكان الفلانى كذا فيكون الأمر كما هو، حياته, أخلاقه, شمائله, وصفاته كل تصرفاته تُنْبِئْك أنه رسول الله حقًا وصدقًا ففيكم رسول الله قائم، كيف يتأتى كفر والحال أنَّ آيات الحال والاستقبال صباح مساء, {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ}, آيةٌ عظيمةٌ مِن آيات الله - تبارك وتعالى-  بين ظهرانيكم.

قال -جلَّ وعَلا- : {........ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[آل عمران:101], هنا أشار الله - تبارك وتعالى- أنَّ العصمة مِن الضلال إنما هي في الاعتصام بالله – تبارك وتعالى-  قال: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ}، الاعتصام هو الاستمساك, {بِاللَّهِ}, والاعتصام بالله هو الاعتصام بدينه وبصراطه المستقيم, بكتابه, باللجوء إليه -سبحانه وتعالى-, اعتصم بالله بمعنى أنه التجأ إليه ودعاه وطَلَبَ الهداية وطَلَبَ التثبيت على دينه، قال -جلَّ وعَلا- : {فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، فقد هُدى هذا الذى اعتصم بالله - تبارك وتعالى-  واستمسك به ودعاه والتجأ إليه, {هُدِيَ}, هداه الله - تبارك وتعالى-,  {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، والصراط هو الطريق الواضح البيِّن العظيم المستقيم الذى لا عوج فيه، فيُعْرَف أوله هنا وآخره في الجنة فهو صراط مستقيم واصل إلى جنة الله - تبارك وتعالى-  ورضوانه، ثم تذكير بعد تذكير ونداء بعد نداء : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران:102], نداءٌ مِن الله - تبارك وتعالى-  يقول لهم الله -عزَّ وجلَّ- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، حض على الفعل وإلزام بالأمر، {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}, أي خافوا وأصل التقوى هي أخذ الحماية والوقاية، واتقاء الله إنما يكون بالإيمان به ومخافته وفِعل ما يأمر به والانتهاء عما يُنْهَى عنه لا يتقى سخط الله - تبارك وتعالى-  إلا بهذا الإيمان لأنَّ الدين سمع وطاعة، أنْ يؤمن به العبد, أنْ يسمع لله - تبارك وتعالى-  افعل فيفعل ولا تفعل فينتهى، فبهذا تُتَّقَى عقوبة الله - سبحانه وتعالى-,  {اتَّقُوا اللَّهَ }, أي خافوه واجعلوا حماية لكم من عذاب الله ووقاية لكم مِن عذاب الله - تبارك وتعالى-,  {حَقَّ تُقَاتِهِ}, أي كما ينبغي أنْ يُتَّقَى وهذا غاية الأمر وهو أمرٌ لا شك أنه على الحقيقة ليس بمستطاع فإنه لا يستطيع أحد أنْ يتقى الله - تبارك وتعالى-  كما ينبغي لله - جلَّ وعَلا- فإنَّ الله هو الرَّب, العظيم, الإله, خالق السماوات والأرض الذى لا يغيب عنه صغير ولا كبير مِن أعمال خَلْقِهِ - سبحانه وتعالى-.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المجادلة:7], ثم إنَّ الله يؤاخذ بالذنب ويُعَاقِب عليه وعقوبة الله ليست كعقوبة أحد مِن الخلق، {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}[الفجر:25],{وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر:26], مَن أراد أنْ يعرف عقوبة الرَّب فلينظر إلى الحدود الشرعية على الجرائم، انظر كيف شرع الله - تبارك وتعالى-  حدود في الدنيا هذه عقوبات دنيوية والعقوبات الأخرى وهى أعظم مِن هذا ولينظر كذلك إلى عقوبة الرَّب للكفار في الدنيا كيف أخذهم, كيف عاقب قوم فرعون، انظر العقوبة الإلهية بأنْ أغرقهم جميعًا, {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا}[نوح:25]، انظر عقوبته لثمود ولعاد ولقوم فرعون وللمؤتفكات قُرَى لوط، قال -جلَّ وعلا- : {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}[هود:102], فانظر كيف أهلك الله  -تبارك وتعالى-  هذه القرى بكفرها، هذه عقوبة وهذه عقوبة مُعَجَّلَة، هذه عقوبة في الدنيا وعقوبته في الآخرة أشد.

قال الله - تبارك وتعالى-  في قوم فرعون : {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}[غافر:46], وقال عنهم : {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ}, فلعنة يوم القيامة لا شك أنها أكبر مِن لعنات الله - تبارك وتعالى-  لِمَن يلعنهم مِن الكفار في الدنيا فإنَّ في الآخرة نار مستمرة عياذًا بالله - تبارك وتعالى-  من عذابه ومِن عقوبته كما قال - تبارك وتعالى - : {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}[الأعراف:40], {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}[الأعراف:41],   {وَكَذَلِكَ}, أي وكهذا الجزاء, {نَجْزِي الظَّالِمِينَ}، هذا جزاء الله  تبارك وتعالى-  فراش مِن النار وغطاء مِن النار في سجن مِن النار فعقوبة الله شديدة، فالله هو أهل التقوى كما أنه أهل المغفرة - سبحانه وتعالى-  فقول الله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}, أي كما تنبغي التقوى له, هذا أمر عظيم جدًا ويعلم أهل العلِم وقد قالوا بأنه لا يمكن لأحد مِن البشر أنْ يتقى الله كما ينبغي لله - سبحانه وتعالى-  وقد طلب الله - تبارك وتعالى - هذا حسب الاستطاعة.

قال : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ........} [التغابن:16], إلى آخر ما عندكم مِن الاستطاعة، فُسِّرَ أيضًا هنا {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}, التقوى الواجبة لله - تبارك وتعالى-  التي أوجبها عليكم والتقوى التي أوجبها الله – تبارك وتعالى – على عباده أن يتقوه بحسب الإستطاعة، بحسب إستطاعتهم بأن يخافوه ويراقبوه على كل أمر في أمره يفعل, في نهيه ينتهى, فهذه هي التقوى الواجبة المستطاعة للإنسان، قال جل وعلا: {........ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. وهذا لا يتأتى إلا بالاستمساك بالإسلام حتى يأتي الإنسان الموت وهو على ذلك، لأنَّ الإنسان لا يعرف الموت، أي {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ليس معناه انتظروا إذا جاءكم الموت فتكونوا مسلمين أو احرصوا أنه إذا جاءكم الموت تكونوا مسلمين، بل إنه لا يمكن أنْ يأتي الموت إلا والمسلم على إسلامه إلا بأنْ يتمسك بالإسلام حتى إذا أدركه الموت كان مسلمًا، {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي تمسكوا بالإسلام حتى يأتيكم الموت وأنتم على ذلك.

قال -جلَّ وعَلا- : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران:103], {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ}, حبل الله دينه، صراطه المستقيم، كتابه الذى أنزله، رسوله محمد –صلى الله عليه وسلم-, كل هذا مِن معانى حبل الله - تبارك وتعالى-  والآية هنا تصوير بلاغى وبيان للأمر المعقول بمثل الأمر المحسوس، فإنَّ مَن كان في مَهْلَكَة وتمسك بحبل معين تمسكًا حقيقيًا فإنه يُنْقَذُ بهذا الحبل، ففي هذه الدنيا العباد في فتن عظيمة، ما المخرج مِن الفتن ومِن هذه الابتلاءات هو التمسك بحبل الله - تبارك وتعالى-  التمسك بكتاب الله، التمسك باتباع النبى محمد -صلى الله عليه وسلم-، التمسك بدين الله - تبارك وتعالى-  فهذا عصمة منِ الوقوع في المهالك والفتن، والاعتصام هو التمسك، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}، كلكم, {وَلا تَفَرَّقُوا}  ولا تتفرقوا أي عن دين الله - تبارك وتعالى -.

أدركنا الوقت, لهذه الآية إنْ شاء الله مزيد مِن المعيشة في ظلالها وفي معانيها في الحلقة الآتية  إنْ شاء الله, استغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب , وصلى الله على عبده ورسوله محمد.