الحمد لله ربِّ العالمين, وأُصَلِّى وأُسّلِّم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهديه, وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله - تبارك وتعالى- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران:102], {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران:103], قلنا في الحلقة الماضية بأنَّ هذه الآيات مِن سورة آل عمران كانت قد نزلت بسبب حادثة وقعت مع الصحابة, وهى أنَّ يهوديًا دخل في أوساطهم وقد غاظ اليهود ما آل إليه أمر الأوس والخزرج في المدينة مِن المحبة والاجتماع على هذا الإسلام, والاجتماع على النبي محمد - صلوات الله والسلام عليه-, ونسيان ما كان بينهم مِن العداوات السابقة, ومِن الحروب المتوالية وأرادوا أنْ يعيد الأمر وأنْ يؤجج الفتنة بين الأوس والخزرج, فدخل في مجلس مِن المجالس يُذَكِّرُ الأوس بما تقاولوه مِن الشِّعر في أيامهم وحروبهم السابقة, فردَّ الخزرج على الأوس وردَّ هذا وقام ونشبت الحرب بينهم ودعا كلًا منهم إلى السلاح فأدركهم النبي - صلى الله عليه وسلم- فخفضهم وهدأهم, ونزلت الآيات تذكير لهم بهذه الفتنة التي كادوا أنْ يقعوا فيها ويرتدوا إلى جاهليتهم وكفرهم وقتالهم على العصبية مرة ثانية.
ثم بيَّن الله - تبارك وتعالى- لهم ما يريده أهل الكتاب بهم وأنهم لا يريدون لهم خيرًا, ولا يريدون لهم الإيمان، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}[آل عمران:100], {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ........}[آل عمران:101], القرآن، {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ}, موجود, حاضر, أعظم آيات الله - تبارك وتعالى - في الأرض, كل أعماله وأقواله وما يجرى الله - تبارك وتعالى- على يديه مِن المعجزات آية مِن آياته, {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ}.
ثم قال - جلَّ وعَلا- : {........وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[آل عمران:101], {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ........} [آل عمران:102], خافوا الله كما ينبغي لله - تبارك وتعالى- فهم مطلع عليكم وهو يأخذ بالذنب - سبحانه وتعالى - ويعاقب به {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، تمسكوا على الإسلام حتى يأتيكم الموت وأنتم على ذلك، ثم : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ}، بدينه، بصلاته، بكتابه، بنبيه، هذا حبل الله - تبارك وتعالى-, هذا السبب الذى منَ أخذه نجا, {وَلا تَفَرَّقُوا} أي ترجعوا مرة ثانية إلى شأن الجاهلية الأوسية والخزرجية, والدعوة إلى العصبية ولا تتفرقوا بهذه العصبية القبلية أو بغيرها، بأي صورة مِن صور التفرق.
{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}, {اذْكُرُوا}، استحضِروا، اجعلوا هذا حاضر في العقل وفى الذهن، اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، مِنَّته وإحسانه - سبحانه وتعالى- عليكم، {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}، حال كنتم أعداء في الجاهلية يقتل بعضكم بعضًا, يسبى بعضكم بعضًا، {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}، تأليف، التوفيق والانسجام والمحبة, {بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}، والقلب هو الأساس ما كان تأليف بين الأبدان في الصورة الظاهرية بل تأليف حقيقي في القلوب, {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}, بنعمة هذا التأليف والمحبة والأخوة التي ألقاها في قلوبكم, أصبحتم بنعمة الله – تبارك وتعالى – هذه {إِخْوَانًا}, الإخوان صيغة مبالغة مِن الأخوة, أي عميقين في معنى الأخوة بالله - تبارك وتعالى-.
{إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ}، {َكُنْتُمْ}, كذلك في الجاهلية وقبل الإسلام, {عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ}, أي حَرف، آخر قدر مِن حافة الشيء، {حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ}, معنى أنه إذا لو مِتَّ في ذاك الوقت دخلت النار، {عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ}، فقد كنتم أهل شِرك وكُفْر وجاهلية، مَن مات منكم وقع في النار عياذاً بالله, {فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}, بالإسلام وبالدين، بمحمد - صلوات الله والسلام عليه-, لما آمنتم به كأنه أخذكم مِن هذه الحافة التي كدتم تسقطون فيها مِن النار, وأدخلكم في الأمن والإسلام والطريق الموصل إلى جنة الله - تبارك وتعالى -, فأنقذكم منها بفضله وكرمه - سبحانه وتعالى-، {كَذَلِكَ}, كهذا البيان والإيضاح, {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، أي بمثل هذا البيان والإيضاح والمواعظ العظيمة البليغة التي توجه بها الرَّب الإله خالق السماوات والأرض بنفسه - سبحانه وتعالى- إليكم، فهذا خطاب الرَّب لهم، خطاب مباشر مِن الله - تبارك وتعالى- يخاطبهم ويقول لهم : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, انظروا مقدار هذه النعمة أنْ يخاطبهم الرَّب - تبارك وتعالى - في هذا الشأن الذى وقع منهم خطابًا مباشرًا منه - جلَّ وعَلا- إليهم في كتابه الكريم يُنْزَلُ على النبي محمد - صلوات الله والسلام عليه -, { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ}, ويوضحها ويفصلها مَن الذى يوضحها؟ الله - سبحانه وتعالى - كلام مِن عنده مباشرًا إليكم, {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، لعل بِحَسَبِكُم, أي بحسب الإنسان تهتدون أي تأخذون بهذا السبب عندما يذكركم الله - تبارك وتعالى - بهذه النعم العظيمة فلعلكم تتعظوا بهذا وتأخذوا طريق الله - تبارك وتعالى- فتهتدوا إليه - جلَّ وعلا-.
ثم {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران:104], {وَلْتَكُنْ}, أمرٌ منه - سبحانه وتعالى - أنْ تكون منكم أمة منكم، مِن تأتى لابتداء الغاية وتأتى للتبعيض، فعلى المعنى الأول {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ}, أي لتكونوا أمة أي لتكونوا أنتم أمة, كما أقول ليكن منك رجل صالح, لتكن أنت رجلًا صالحًا فتكونوا كلكم أمة هكذا داعية للخير, {........يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران:104]، وعلى المعنى الثاني {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ }, أي ليكن منكم بعضكم أمة أي جماعة، فكأن هذه دعوة إلى أنْ يكون مِن المؤمنين جماعة تدعوا إلى الخير, وتأمر بالمعروف, وتنهى عن المنكر، قال - جلَّ وعَلا- : {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، والمعنى الأول هو الصحيح، لأنَّ هنا قول الله : {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، إنما الفلاح هو مطلب كل مؤمن, ومَن لم يكن مِن المفلحين كان مِن الخاسرين, وليس هنا دعوة مِن الله - تبارك وتعالى- لأنْ يكون بعض هذه الأمة مفلحًا وبعضها ليس بمفلح، لا، بل وقول الله : {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، هذا دعوة إلى الدخول في الفلاح والذى هو الفوز والنجاح للأمة كلها, ولذلك هنا المعنى الصحيح, {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ}, أي لتكونوا كلكم أيها المؤمنون.
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ}، هذا عملهم الدعوة إلى الخير, والخير كلمة جامعة تشمل كل ما فيه نفع بأي صورة مِن الصور فالخير ومسائل الإيمان كلها خير، ما أمر الله - تبارك وتعالى - به من الصلاة والصيام والزكاة والحج، كل شُعَب الإيمان كلها خير, إلى الكلمة الحسنة، صدق الحديث، البِر، أي نوع مِن الإحسان، أدنى شيء فيه هذا المعنى والنفع هو خير، {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ}، كل الخير بالألف واللام الاستغراقية, {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}، دعوة إلى الخير، الدعوة هو أمر، الدعوة أشمل مِن الأمر لأنَّ الدعوة إنما تكون كذلك لمجرد البيان والحض بدون الإلزام، أما الأمر فيه إلزام، {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}، المعروف لا شك كل ما أمر به الله - تبارك وتعالى- فهو مِن المعروف، وما نَهَى عنه فهو مِن المنكر, وسُمِّى بمعروف لأنَّ الله عرَّفه لنا - سبحانه وتعالى-، وكذلك مِن المعروف مما تعرفه أهل الفِطَر السليمة والقلوب المستقيمة, هذا كله معروف؛ لأنه كأنَّ هذا أمر مألوف، محبوب، معروف، وضده المنكر، والمنكر هو الذى ينكر؛ لأنه يستبعد ويستقبح والمنكر هو كل ما نهانا الله - تبارك وتعالى - عنه وكرَّهه لنا فهو منكر، {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}, هذا فيه شيء مِن الإلزام، أما الدعوة إلى الخير فإنها فيها حض وحث وإنْ لم يكن فيها إلزام فهو أعم منها، فالدعوة أعم مِن الأمر والنهى، {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}, وهذه دعوة هائلة واسعة تشمل كل ما هو خير وكذلك فيها نهى عن كل ما هو شر.
قال جل وعلا: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، {أُوْلَئِكَ}, أي الذين يقومون بهذا العمل مِن الدعوة إلى الخير. والأمر بالمعروف, والنهى عن المنكر, هم أهل الفلاح، أصل الفلاح هو النُّجح والفوز بالمطلوب الأكبر، نقول أفلح بمعنى أنه فاز بمطلوبه, كما قال النبي في ذلك العربي، قال : «أفلح إنْ صَدَق»، دخل الجنة إنْ صَدَق، فاز, فهؤلاء هم المفلحون الذين يكونون على هذا النحو مما وصفه الله - تبارك وتعالى -.
ثم قال - جلَّ وعَلا- : {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105], هذا تحذيرٌ مِن الرَّب - تبارك وتعالى- لأهل الإيمان أنْ يتشبهوا باليهود والنصارى الذين اختلفوا في دينهم ووقعت بينهم عداوات هائلة وحروب وسفك دم, بعد أنْ هداهم الله - تبارك وتعالى- إلى دينه وإلى صراطه, لكن قامت بينهم بعد ذلك الخلافات وقتل بعضهم بعضًا, وأعظم الأمم قتل بعضهم بعضًا وكانت بينهم حروب بسبب الدين هم النصارى، هذه أعظم أُمة وقع بين أبنائها وملتها حروب هائلة جدًا, وكان عقوبة الله - تبارك وتعالى- كما قال - جلَّ وعَلا- : {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}[المائدة:14], وكذلك اليهود قامت بينهم عداوات وحروب هائلة بل كان السبب زوال دولتهم الأولى بسبب الفرقة التي كانت بين هاتين الدولتين والحروب التي قامت بينهم.
قال - جلَّ وعَلا- : {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ........}[آل عمران:105], أي اختلفوا ليس لأنهم جهلوا الطريق، لا، بعد أنْ عرفوا الطريق وعرفوا الصراط وعرفوا الدين, وكان طريقهم واحد, لكنهم وقع بينهم الاختلاف وهذا له أسباب بسبب البغى بينهم والتنافس بينهم، قال - جلَّ وعَلا- : {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، وإخبار مِن الله - عز وجل- فيه تهديد بأنَّ أولئك المختلفين المتعادين لهم عند الله يوم القيامة عذاب عظيم, هذا وصف العذاب بأنه عظيم وذلك لشدته وهو له فإنَّ النار البقاء فيها والمكث فيها مكثًا لا انقطاع له ولا شك أنه مَن يدخل النار فقد عُذِّب عذابًا عظيمًا، لا عذاب أعظم مِن هذا بل مَن يدخل النار يأتيه الموت مِن كل مكان وما هو بميت يأتيه الموت مِن النار ومِن الجحيم ومِن المقامع ومِن الطعام الذى يأكله فيخرج نارًا, كما قال الله - تبارك وتعالى- : {كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ}, هذا الماء، وقال : {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}، فيأتيه العذاب من كل مكان ويأتيه الموت مِن كل مكان ولا يموت, ويبقى يستغيث ولا يغاث, بل لا يغاث إلا بعذاب، {........وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}[الكهف:29]، {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
ثم صورة مِن صور هذا العذاب وحال هؤلاء المختلفين, قال - جلَّ وعَلا- : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}، {يَوْمَ}, أي هذا العذاب كائن في يوم {تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}، ثم قال - جلَّ وعَلا- : هذه قسمة مِن نَفْسِ هؤلاء المختلفين {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}, أي هذا لف ونشر جاء اللف الأول, {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}، ثم جاء بعد ذلك النشر والتوضيح مَن هم هؤلاء الذين ابيضت وجوههم؟ ومَن هم هؤلاء الذين اسودت وجوههم؟ فبدأ الله - تبارك وتعالى- بالذين اسودت وجوههم في البيان وذلك لأنَّ هذا السياق، والسياق هو التحذير مِن الاختلاف, أما في القِسمة فإن الله ذَكَر أولًا أهل مَن تبيض وجوههم أولاً ثم مَن تسود وجوههم لأنَّ هؤلاء مقدمون، هذه في الخيرية, {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}، فقدم الله –تبارك وتعالى- ذِكر مَن تَبْيَضُّ وجوههم لأنهم هم الأعلى وهم الأفضل, ثم لما جاء إلى الإيضاح والبيان بدأ بالذين اسودت وجوههم وهذا لأنَّ المقام مقام تحذير فيقدم هنا, يُقَدَّم في البيان.
قال - جلَّ وعَلا- : {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، أي يقال لهم تبكيتًا وتقريعًا يوم القيامة وتوبيخًا لهم، {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، أي كيف كان ذلك! كيف تمَّ هذا! بعد أنْ تؤمن وترى الحق ويتضح لك السبيل, ترجع إلى الكفر وإلى الظلام, إلى طريق الهاوية والهلاك, أي مَن ضل وهو لا يعرف طريق الهداية قد يكون له عذر أنه ما عرف الطريق، أما مَن عرف طريق الهداية وعرف الصراط وعرف الهُدى مِن الضلال, كيف ينتقل مِن الهداية إلى الضلال مرة ثانية؟ فيقال لهم تبكيتًا وتوبيخًا لهم زيادة في غمهم وهمهم، {........أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}[آل عمران:106], هذا تقريع، {فَذُوقُوا الْعَذَابَ}، الذوق يُطْلَق على إحساس اللسان, ويُطْلَق على كل إحساس, سواء كان إحساس حِسى أو إحساس معنوي، فيذوق العذاب بجلده بتجرعه لغُصَصِهِ وكذلك يذوق يقال كذلك على الندم، الندم والحسرة، هذا ذوق كذلك، {فَذُوقُوا الْعَذَابَ}، بكل معانيه، العذاب الحسى البدني, والعذاب المعنوي مِن التقريع والتأنيب والمقت واللعن، {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}، بسبب كفركم، بسبب ما كفرتم فإنكم تذوقون العذاب جزاء لهذا الكفر، بعد ذلك يأتي نشر وإيضاح حقيقة ومَن هم هؤلاء الذين ابيضت وجوههم, قال - جلَّ وعَلا- : {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:107], {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ}، أي أشرقت بالنور وامتلأت بالضياء, {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ}, هم في رحمة الله ورحمة الله هي الجنة، أولاً رحمة الله البشرى لهم بدخول الجنة قبل دخولها, ثم بعد ذلك يدخل الجنة فيبقوا فيها خالدين, ثم بعد ذلك يدخل الجنة فيبقوا فيها خالدين ماكثين مكثًا لا انقطاع له, {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
قال ابن عباس ترجُمَان القرآن - رضى الله تعالى عنه-، ({يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}، قال : تَبْيَضُّ وجوه أهل السُّنة, وتَسْوَدُّ وجوه أهل البدعة)، فهنا الافتراق إنما هو ليس افتراق أهل الإيمان عن الكافر الأصلي، لا، هذا افتراق أهل الإيمان الذين دخلوا في الإيمان ثم افترقوا بعد ذلك فخرجت مجموعات إلى الكفر وبقيت طائفة على الحق كما قال - صلى الله عليه وسلم- : «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة, وافترقت النصارى على اثنين وسبعين فرقة, وستفترق الأُمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة», فأكفرتم بعد إيمانكم، هؤلاء المختلفين في الدين الذين كفروا, وهذه الفرق منهم فرق قد تُخَلَّد في النار خلود الكفار إذا كانت رِدَّتُهُم وبدعتهم مُكَفِّرَة كفر مُخْرِج عن المِلَّة, وبعضهم يكون كفر دون كفر, فيعذبون في النار أي ما شاء الله - تبارك وتعالى – أنْ يعذبوا وإنْ كانوا مِن أهل لا إله إلا الله كان مآلهم إلى الجنة بعد ذلك.
جاء هذا السياق في بيان وعظ الله - تبارك وتعالى- لأهل الإيمان مِن أنَّ أهل الكتاب يريدون بهم الشر ويريدون بهم الفتنة ويريدون أنْ يردوهم بعد إيمانهم كافرين, ثم أخبر الله عن هذا المصير، أي إنْ كنتم ستسيرون وتكفرون بالله - تبارك وتعالى- بعد الإيمان, فاعلموا أنَّ هذا المصير أنه {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}, هنا يوجد ناس مِن أهل الإيمان الذين كانوا مِن أهل الإيمان تسود وجوههم, وأنهم يبكتون هذا التبكيت، {........أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}[آل عمران:106].
ثم قال - تبارك وتعالى- : {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ........} [آل عمران:108], {تِلْكَ}, إشارة للبعيد لرفعة هذه الآيات وعَظَمَتِهَا، {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ}، هذه المنزلة على عبده ورسوله محمد صلوات الله والسلام عليه-، {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ}، نقرأها عليك، الله - تبارك وتعالى- هو الذى يقرأها وهذا عن طريق عبده ورسوله جبريل إلى محمد - صلوات الله والسلام عليه-، نَسَبَ الله - تبارك وتعالى- القراءة إلى نَفْسِهِ وذلك أنَّ جبريل الذى يقرأ هذا القرآن على النبي ويأتيه بالوحى إنما هو ينقل له مِن الله كلام الله - تبارك وتعالى- إلى النبي - صلوات الله والسلام عليه-، {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ}، أي بالحق تلاوتها حق, فإنزالها حق, وكذلك مضمونها حق، هذا المضمون والمحتوى الذى تحمله هذه الآيات حق، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا........}[الأنعام:115] ، فإخبار الله - تبارك وتعالى- بما يُخْبِرُ به هنا بأنَّ هذا هو الحق أنَّ أهل الكتاب الذين افترقوا كان هذا مآلهم, وأنَّ مَن يفترق في هذه الأمة ويكفر فهذا مآله، فكل هذا المضمون النازل هو نازل مِن الله - تبارك وتعالى- ما فيه تزيد ولا نية تقول، ما شاء الله - تبارك وتعالى- وإنما هو جاءت هذه الآيات تحمل الحق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم-.
{........نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ}[آل عمران:108], الله لا يريد أنْ يظلم أحد مِن عباده - سبحانه وتعالى-, وإنما هؤلاء نالوا ما نالوا مِن هذه العقوبة بكفرهم فقد نالها مَن نالها مِن هؤلاء إنما بكفرهم فإنَّ الله - تبارك وتعالى- قد أوضح لهم السبيل وبيَّن لهم الصراط ثم إنهم اختلفوا عن علم بعد ما جاءتهم البينات، تركوا طريق الحق والصراط المستقيم وخرجوا منه, إما على أعقابهم القهقرة وهذا خرج إلى هذا الطريق وهذا خرج إلى هذا الطريق, وهذا ابتدع بالدين, وهذا ابتدع بالدين وحصل بينهم الخلاف والقتال فهذا المآل، فهذا مآلهم عند الله - تبارك وتعالى-.
قال - جلَّ وعَلا- : {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ} [آل عمران:108]. الله لا يريد ظلمًا لأحد - سبحانه وتعالى-, وإنما يحاسب كل عبد بما يستحق، ثم قال - جلَّ وعَلا- : {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ}[آل عمران:109], أي حتى لا يكون هناك اعتراض أو شك على قضاء الله - تبارك وتعالى-, وقدره - سبحانه وتعالى -, وحكمته في الخلق، بين الله - سبحانه وتعالى- أنَّ ما في السماوات وما في الأرض هذا ملك له - سبحانه وتعالى- {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}, كل ما في السماوات مِن عالمين، ملائكته، الجنة وما فيها مِن الحور والولدان والقصور, وما أخبر الله - تبارك وتعالى – به, وما في الأرض مِن عالَم مِن الإنس والجن وكل العوالم الطير والحيوان كل هذا الملك هذا لله - تبارك وتعالى - لله ملكاً فهو مُبدعه، مُخْرِجهُ مِن العدم ، هو الذى بناه وفطره وأبدعه على هذا المثال البديع وهو يملك تصريفه - سبحانه وتعالى- لا يتصرف في هذا المُلْك غيره - سبحانه وتعالى -.
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران:26], {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[آل عمران:27], كل التصريف له - سبحانه وتعالى-, {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ}[آل عمران:109], {إِلَى اللَّهِ}, أي لا إلى غيره, تقديم المعمول هنا لبيان الحصر, أنه ما قال وترجع الأمور إلى الله؛ لأنَّ هذا قد لا يفيد الحصر، ترجع الأمور إلى الله وإلى غيره، لا، أما إذا قال إلى الله ترجع الأمور تقديم هذا معناه أنه إلى الله - سبحانه وتعالى- لا إلى غيره, {تُرْجَعُ الأُمُورُ}, أي شؤون الخلق كلها ويحكم فيها الرب - تبارك وتعالى-, فكل مرد العباد إليه - سبحانه وتعالى- وهو الذى يحكم في عباده بما شاء - سبحانه وتعالى- كيف شاء - جلَّ وعَلا- بمقتضى علمه التام في خلقه وبمقتضى عدله - سبحانه وتعالى- وعدم ظلمه لأحد مِن مقتضى رحمته وإحسانه لأهل طاعته وأهل الإيمان - سبحانه وتعالى -, {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ}، كل الأمور ترجع إلى الله - تبارك وتعالى-, وفى هذه الآية التي تبين أنَّ كل ما سوى الله ملك، لله - تبارك وتعالى-, وأنَّ أمور الخَلْق كلها راجعةٌ إليه فيها معانى إحاطة الرَّب, ونتيجة هذا هو التسليم والإذعان لله - تبارك وتعالى- والخوف مِن الله - تبارك وتعالى- الخوف أنَّ الإنسان يخرج عن صراطه وطريقه والنهاية أنت في ملكه، أنت راجع إليه، سيحاسبك على كل شيء, فهذا تحذير مِن الله - تبارك وتعالى- أنَّ العبد ينحرف عن طريق الرَّب أي انحراف, بل يعلم أنَّ الله - تبارك وتعالى- قد مَلَك كل شيء, أحاط بكل شيء، كل شيء راجع إليه - سبحانه وتعالى -.
نسأل الله - تبارك وتعالى- أن يُمَسِّكَنَا بالدين حتى نلقاه - سبحانه وتعالى-, ونعوذ بالله أنْ نَضِلَّ أو نُضَل أو نخرج عن صراطه المستقيم, اللهم مَسِكْنَا بصراطك وبطريقك حتى نلقاك, استغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.