الخميس 24 شوّال 1445 . 2 مايو 2024

الحلقة (99) - سورة آل عمران 109-112

الحمد لله ربَّ العالمين, وأُصَلِّى وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

 وبعد فيقول الله - تبارك وتعالى- : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}[آل عمران:110], {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} [آل عمران:111], {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}[آل عمران:112].

 بعد الفاصل الذي سبق في هذه السورة آل عمران, وكان الفاصل في تحذير الرَّب - تبارك وتعالى-  لأهل الإيمان مِن أنْ يطيعوا فريقًا مِن الذين أوتوا الكتاب لأنهم يريدون ردهم عن الإيمان إلى الكفر، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}[آل عمران:100]، ثم أتى وعظ الله - تبارك وتعالى-  للمؤمنين في هذا الأمر، قال : {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[آل عمران:101], ثم أمرهم الله - تبارك وتعالى-  بأنْ يتقوه حق تقواه، وذَكَّرَهُم الله - تبارك وتعالى-  بنعمته وأنهم قد كانوا قبل إيمانهم أعداء يقتل بعضهم بعضًا, ثم إنَّ الله - تبارك وتعالى-  ألَّف بينهم بهذا الدين وببعثة النبى الكريم - صلى الله عليه وسلم- ,وحذرهم مِن أنْ يفترقوا ويختلفوا بعدما جاءهم البينات كما افترقت اليهود والنصارى قبل ذلك, وأنه ثمة عقوبة تنتظر هؤلاء المختلفين إلا مَن التزم الحق وبقى عليه، قال : {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}[آل عمران:106], {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[آل عمران:107].

 ثم يبين الله - تبارك وتعالى-  أن يتلو على نبيه هذه الآيات بالحق، {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعالَمِينَ}[آل عمران:108]، ثم أخبرهم الله - تبارك وتعالى- أنَّ كل هذا الملك له - سبحانه وتعالى- وأنَّ مرد العباد كلهم إليه، قال : {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ}[آل عمران:109]، أقول بعد هذا الفاصل مِن السورة التي حذَّر الله - تبارك وتعالى-  فيها المؤمنين مِن اتباع سبيل الكافرين الذين يريدون تفريقهم وتمزيقهم فيفشلوا في هذه الدنيا, ويكون هذا مآلهم يوم القيامة، أقول بعد هذا ذَكَّرَهُم الله - تبارك وتعالى-  بنعمته العظمى عليهم وأنهم أفضل أُمم الهداية على الإطلاق منذ أنْ أَرْسَلَ الله - تبارك وتعالى-  الرسل.

قال - جلَّ وعَلا- مخاطبًا عباده المؤمنين : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ........}[آل عمران:110], {كُنْتُمْ}، الخطاب هنا لأهل الإيمان، النبى محمد - صلوات الله والسلام عليه- والذين آمنوا معه, {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}, وكان تأتى للاستمرار والثبات في الأمر, {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}, أنَّ هذا صفته - سبحانه وتعالى-  كنتم في الحال والمآل والحقيقة, {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، خير أمة مِن أُمم الهداية لأنَّ أُمم الضلال أو الضالين هذه لا مقارنة بين هؤلاء وهؤلاء، لكن أُمم الهداية أي نوح - عليه السلام- أول رسول لله في الأرض ومَن معه, وإبراهيم والذين كانوا معه, وموسى والذين كانوا معه, وهود والذين أنجاهم الله معه, وصالح والذين آمنوا به, وعيسى ومَن معه, هذه أُمم الهداية كل هذه أُمة، {........وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ}[فاطر:24]، هذا النذير هو رسول الله - تبارك وتعالى-  والذين آمنوا معه، كما قال النبي : «عُرِضَت عليَّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرجل, والنبي ومعه الرجلان, والنبي وليس معه أحد, ثم عُرِضَ لي سواد عظيم فقلت هذه أمتى فإذا موسى وقومه, ثم عُرِضَ لي سواد أعظم فقلت هذه أمتى فإذا عيسى وقومه, ثم جئتم أنتم، ألا ترضون أنْ تكونوا ثلث أهل الجنة», فَكَبَّر الصحابة, إلى أنْ قال: «والذى نفسى بيده إني لأطمع أنْ تكونوا شطر أهل الجنة»، فهذه أُمة محمد - صلى الله عليه وسلم- أُمته الذين استجابوا له, وذلك أنه إذا أُطْلِق أُمة محمد فإنها تعنى معنين.

المعنى الأول مَن استجاب ومَن آمن بالنبى - صلى الله عليه وسلم- هؤلاء أُمته أُمة الهداية الذين نجوا وآمنوا, وأُمته والذين أُرْسِلَ إليهم, فأمة محمد التي أرسل إليها هي كل الأمم، كل الشعوب، كل مَن على الأرض منذ بعثته وإلى يوم القيامة، كل هؤلاء مِن أمته، أمة الدعوة، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}, فأولئك أمته أمة الأمة التي أُمِرَ النبى أنْ يدعوها، الذين استجابوا من هذه الأمم والشعوب المختلفة من أهل الأرض هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أمة الإيجاب، الله يخبر هذه الأمة الذين استجابوا للنبي وآمنوا به قال لهم : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ}، أي بالنسبة للنظر إلى الأمم السابقة أمم الهداية, {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}, أخرجها الله - تبارك وتعالى-  للناس هم خير الناس للناس لا يوجد أمة كان لها فضل على الناس كهذه الأمة فضلها على الناس، فإن هذه الأمة فضلها على الناس أنها حمَّلها الله - تبارك وتعالى-  أمانة الدعوة للعالمين، هم أمة الهداية، أمة محمد الذين اتبعوه, أصحابه في حياته ثم مَن أتى بعدهم للهداية، هم خير الناس للناس.

أولًا حمَّلَهُم الله - تبارك وتعالى-  أنْ يحملوا هذا الدين ويبلغوه في العالمين، ثم ليس حملًا بالكلمة فقط، بل بالكلمة والسيف التي يحرسها فقد بُعِثَ النبي بالسيف بين يدى الساعة, ولذلك دعوا الناس بالكلمة, ودعوا الناس كذلك بالجهاد في سبيل الله, ولذلك أَدْخَلُوا ناس الجنة بالسلاسل، أتوا بهم وهم كفار أسروهم وأخذوهم فلما تبين لهم هذا الإيمان والإسلام اهتدوا فدخلوا الجنة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم- : «أنتم خير الناس للناس تقودون هم إلى الجنة بالسلاسل», فيقودون الناس إلى الجنة بالسلاسل، دعوا إلى الله - تبارك وتعالى-,  حَمَلُوا رسالة الإسلام، جاهدوا في سبيله، حطَّمُوا كل الحواجز التي تقف أما هذا الحق حتى دخل الناس في دين الله - تبارك وتعالى-,  فهم خير الناس للناس، {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}, أخرجها الله - تبارك وتعالى-  مِن أجل أنْ تُبَلِّغ دينه إلى الناس جميعًا، صُوَر هذه الخيرية أو مناط هذه الخيرية كثير، أول هذا الذى ذَكَرَهُ الله - تبارك وتعالى - أنهم أخرجهم الله - تبارك وتعالى-  إلى الناس يدعون الناس جميعًا إلى دين الله - تبارك وتعالى -، تحملَّوا في سبيل ذلك ما تحمَّلوا، ثم تفضيلهم بأنْ كانوا هم الأُمة الخاتمة التي تأخذ رسالة الله - تبارك وتعالى-  منذ بعثة النبي فلا يوجد رسول آخَر, إلى آخِر الدنيا، إلى قيام الساعة، لا تأتى أُمة بعدهم فهى الأمة الخاتمة، أمة كذلك أكثر أهل أُمم الهداية عددًا فهم شطر أهل الجنة, وقد جاء أنهم ثلثى أهل الجنة, بمعنى أنَّ كل مَن يدخل الجنة يوم القيامة مِن كل الأُمم مِن أولاد آدم إلى آخر فرد أي مِن آدم إلى آخر رجل في الناس نصف مَن يدخل الجنة كلهم مِن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم-، فضلهم الله - تبارك وتعالى-  بأفضال عظيمة.

فضل النبي عائد عليهم فضل الله به نبيهم على سائر الرسل ويعود على هذه الأمة مما فُضِّل به حفظ دينهم، حفظ كتابهم، بقاء طائفة منهم على الحق إلى يوم القيامة، الأُمم الأخرى نُسِخَ الدين بعد مدة ينسخ الدين أو يموت أهل الصلاح حتى لا يبقى منهم أحد فيضمحل الهُدَى، يخفت يخفت ثم يضمحل ويتلاشى, لكن أُمة محمد لا، أمة محمد لا يتلاشى نور الله - تبارك وتعالى-  فيها بل تبقى حاملة نور الله - تبارك وتعالى-  إلى أن يقاتل آخرهم الدجال, كما قال النبى - صلوات الله والسلام عليه- : «لا تزال طائفة مِن أُمتى على حق ظاهرين يقاتلون على أمر الله حتى يقاتل آخرهم الدجال», فهذا أفضل ليس لأُمة مِن الأمم، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أُمَّةٍ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}, فهذا أسباب الفضل أنهم أمة قائمة بالأمر بالمعروف، المعروف كل ما عرَّفه الله لنا مِن شُعَبِ الخير، شُعَب الإيمان، { وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ }, كل ما كرَّهنا الله - تبارك وتعالى-  فيه ونهانا عنه وسُمَّى بالمنكر لأنه أيضًا تُنْكِره الفِطَر السليمة والعقول المستقيمة، {وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إخبار بأنَّ هذه الأمة مؤمنةٌ بالله، قائمةٌ في الناس بهذا، قدم الله - تبارك وتعالى-  الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر عن الإيمان بالله هنا؛ لأنَّ السياق يقتضى هذا وهى خَيْرِتَّهم للناس، أي خَيْرِتَّهم للناس؛ لأنَّ الإيمان بالله أول صلاحه للفرد, وأما الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هذا نفعه للغير ثم الفرد، فلما كان السياق هو في بيان منفعهتم للناس قُدم هذا، ما قال تؤمنون بالله وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، بل قال : {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، فقدَّم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لأن هذا هو الأنفع والأحسن للخلق، هذا بيان خيرتهم وأنهم خير الناس للناس.

ثم قال - جلَّ وعَلا- : {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}، لو آمن أهل الكتاب اليهود والنصارى ودخلوا في هذا الدين هذا خيرٌ لهم وهذا أفضل لهم، ولكن منعهم عن الإيمان ما منعهم للحسد، الكبر، يقول اليهود لماذا تخرج الرسالة والنبوة والملك مِن بنى إسرائيل تخرج إلى بنى إسماعيل، لا، لا نقبل ذلك فآثروا الكفر على الإيمان عياذًا بالله، النصارى ضلوا في دينهم, وظنوا بما افتروه في الدين أنَّ عيسى هذا هو ابن الله, وأنه أتى ليخلصهم وتعلقوا به ورفضوا ما سواه وتعلقوا بأنه هو سيأتيهم مرة ثانية بعد أنْ رُفِع بل بعد ما اعتقدوا فيه أنه قُتِلَ وصُلِبَ ومات ثم ارتفع بعد ذلك وأنه سيأتى، عاشوا على هذه الأوهام والأكاذيب التي افتروها, ومنعهم هذا عن الإيمان بالله واتِّبَاع النبي محمد - صلوات الله والسلام عليه-.

يقول - جلَّ وعَلا- : {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ}, أي بالنبي والقرآن المنزل, {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}، كان هذا أفضل لهم وأحسن لهم، الخير هنا الخير على ما هو أفضل تفضيل هنا, بل هذا خير وما سِواه شر، قال - جلَّ وعَلا- : {الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}منهم المؤمنون الذين هداهم الله - تبارك وتعالى-  إلى الإيمان بنبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم- كما الشأن في بعض اليهود الذين آمنوا بالنبى ويؤمنون به إلى قيام الساعة, وكذلك الشأن في النصارى الذين آمنوا بالله - تبارك وتعالى-  وبرسوله، {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}، لكن الأكثرية فسقت عن طريق الله - تبارك وتعالى-  بمعنى خرجت عنه، وكان أكثر هؤلاء الذين فسقوا عن طريق الرَّب - تبارك وتعالى-  اليهود فإنَّ النبي في حياته - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمن به عشرة مِن اليهود، فقد قال - صلى الله عليه وسلم- : «لو آمَن بى عشرة مِن اليهود لآمنت اليهود», فعنادهم وكبرهم وكفرهم أشد, {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}.

ثم قال - جلَّ وعَلا- : {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى}، هذه بشرى مِن الله - تبارك وتعالى-  لأهل الإيمان وإخبار بالغيوب المستقبلة أنَّ الضرر الذى سيقع على هذه الأمة مِن اليهود والنصارى مِن أهل الكتاب ضرر محدود هو أذى مجرد أذى، قال : {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى}، {إِلَّا أَذًى}، استثناء، أي لا أنْ يكون أذى, والأذى نوع مِن الضرر لكن ضرر صغير، الأذية باللسان, بالسب, بالشتم, بأنْ ينالوا منكم بعض النصر الجزئى في بعض المعارك، أذى يتأذى بهم أهل الإيمان لكن أنْ يستأصلوهم, أنْ يردوهم عن دينهم ويكفروهم, أنْ يفتنوهم نهائيًا، لا، قال : {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}[آل عمران:111], { {إِنْ يُقَاتِلُوكُمْ}, إنْ قاتلتم أهل الكتاب, {يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ}، النتيجة الحتمية أنْ يولوكم الأدبار أي ينهزموا ويعطوكم ظهورهم منهزمين, { ثمَّ لا يُنْصَرُونَ}، ثم لا ينصرهم الله - تبارك وتعالى-  وقد كان، وقع الأمر كما أخبر الله - تبارك وتعالى- به, فإنَّ النبي في حياته - صلوات الله والسلام عليه- قاتل اليهود وفى كل معركة ولوا الأدبار، قاتل بنو قينقاع وانتصر عليهم، قاتل بنى النضير وانتصر عليهم، قاتل في خيبر وانتصر عليهم - صلوات الله والسلام عليه-، ذهب إلى الروم وانتصر عليهم - صلوات الله والسلام عليه-، في غزوة تبوك, والهزائم التي جاءت المسلمين شيء جزئى كما حصل في مؤتة, ثم بعد ذلك استرداد المسلمون الأمر وغزوهم فانتصروا عليهم, حتى لم يمر على المسلمين مائة سَنَة بعد وفاة النبي - صلوات الله والسلام عليه- إلا وقد كان العالم أهل الكتاب كلهم قد استسلموا للإسلام وعدا الإسلام فوق الجميع وسقطت الكنيسة الكبرى الكنيسة الشرقية الرومانية، شرقية الرومان انقسموا إلى كنيستين، كنيسة شرقية والتي كانت عاصمتها روما، فالكنيسة الشرقية استسلمت وسقط إمامها الأكبر وهو قسطنطين, وبقيت محصورة مستضعفة, وبقيت كذلك الكنيسة الغربية أيضًا محوطة، وفتح المسلمون الأندلس, وتمت كلمة الله - تبارك وتعالى- , وانتصر المسلمون نصرًا حاسمًا على الدين كله, كما قال - تبارك وتعالى - : {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33], {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}، {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}[آل عمران:111]، ثم بيَّن الله - تبارك وتعالى-  ما فعله بهم نتيجة كفرهم، قال: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا}، الضرب يأتي بمعنى الطبع ومنه قول العرب : ضُربت هذه العملة في كذا، أي  طبعت هذه العملة, ومنه الضرب بمعنى النصب نقول ضربت الخيمة أي نصبتها, والضرب المعروف وهو العقوبة، تقول ضربت زيدًا بمعنى مثلًا نلته بعصا أو عقوبة، فضربت عليهم الذلة بمعنى نصبت عليهم فأصبحوا كمن ينصب عليه الذُّل يصبح خيمة له كأنه استظل بها, أو ضربت بمعنى طبعت عليهم الذلة, والذلة معروفة وهى الذلة ضد العزة فهو نوع الإستخذاء والعبودية والرضا بالحسنة والأمر الدنيئ وعلو الغير عليه، {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا}، في أي مكان يثقفوا، {ثُقِفُوا}، بمعنى أنه تُمُكِّن منهم وقُبِضَ عليهم فيكونون مِن أهل الذلة والاستخزاء, وليسوا مِن أهل العزة والأنفة، ضَرب الله - عزَّ وجلَّ- عليهم هذا, {أَيْنَ مَا ثُقِفُوا}، قال - جلَّ وعَلا- : {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}، {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ}, الحبل سبب, أي سبب مِن الله - تبارك وتعالى-  أنْ يعزهم لبعض الوقت، {وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}، سبب من الناس أنْ يمدهم الناس بسبب يأتون به ويثقون به هذا يكون تقدير مِن الرَّب - تبارك وتعالى-  لحكمة يريدها, كما نعيش هذه الآية في هذا الوقت بعد اثنين وعشرين وأربعمائة وألف مِن حياة النبي - صلوات الله والسلام عليه- في هذه المائة الأخيرة اليهود الذين لم يكن لهم ذِكر, وكانوا في كل هذا الوقت تحت قهر الإسلام وذُل المسلمين إذا بهم ينتشون ويقيمون دولة لهم في فلسطين, يساعدهم الناس كل الناس النصارى يقفون معهم ويساعدونهم, والمجوس يساعدونهم, ويوم قامت دولتهم اعترفت بها كل أُمم الأرض حتى الشيوعيون الذين يؤمنون بالدين كانوا أول دولة تعترف بهم وتعيدهم بل هي الدولة التي درَّبت كتائبهم في أوربا الشرقية, {حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}، لحكمة يريدها الله - تبارك وتعالى-  لتأديب هذه الأمة لما كفرت ورجعت عن أمر الإسلام وأخذ الإسلام أراد الله - تبارك وتعالى-  أنْ يعلمها ويؤدبها فسلط عليها هؤلاء فهذا استثناء.

أما الأساس أنهم {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}[آل عمران:111]، {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ........} [آل عمران:112], ثم : {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}، باء تأتى بمعنى استحق ومنه قول مهلهل بوء بشسع كُليب، لما قتل الفدية التي أرسلوها له، شاب أرسلوها له وقتله وقال له بوء بشسع كليب، أي شسع نعل كُليب أي أنت لا تساوى إلا هذا, أي لا تستحق في الوزن إلا هذا، وباء بمعنى رجع، {بَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}،أي رجعوا بعد كفرهم بغضب مِن الله - تبارك وتعالى-  أو باءوا استحقوا غضب الله - تبارك وتعالى-  بكفرهم, {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}، نَسَبَ الله - تبارك وتعالى-  إليه الصفة وهى مِن صفات الكمال وهى صفة تليق بذاته - سبحانه وتعالى-، غضب الله ليس كغضب العباد، غضب البشر ثورة وحماس ورغبة في الانتقام وغضب الله لا يقوم به - سبحانه وتعالى-, ولا شك أنَّ الغضب صفة كمال وليس صفة نقص وهو يليق بالله - تبارك وتعالى-,  فهى صفة ذاتية للرَّب - تبارك وتعالى-  ولها أثر فمن آثار غضبه - سبحانه وتعالى-  أنْ يعاقب وأنْ يهين وأنْ يزل وأنْ يُدْخَل النار وأنْ يُعَذِّب العذاب الأليم, هذا مِن أثر غضبه وليس هذا معنى الغضب أي مَن فسَّر الغضب بأنه العقوبة هذا فسر الأمر بلازمه وحرَّف معنى الصفة.

فهذا الله - تبارك وتعالى-  يغضب ومِن آثار غضبه أنْ يُعاقِب - سبحانه وتعالى-  كما في الحديث : «إنَّ ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله, ولن يغضب بعده مثله»، فهذا الغضب مِن صفة الرب - تبارك وتعالى-, ومِن آثار العقوبة التي يُنْزِلها الله - تبارك وتعالى - في أعدائه في الدنيا أو في الآخرة، {وَبَاءُوا}, أي هؤلاء اليهود, {بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}, أهل الكتاب بكفرهم, {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ}, {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ}, نُصِبَت عليهم, { الْمَسْكَنَةُ}، أصل المسكنة مأخوذة مِن السكينة والمسكنة نوع مِن الذل والخضوع تمسكن الإنسان فيتمسكن لعلو عليه، يتمسكن لفقره، يكون مِن فقره يكون مسكين، فضربت عليهم المسكنة نوع مِن الخضوع والذل والسكون هذا شعور نفسى بالانهزام والشعور بالضعف والاستكانة، {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ}, أي طُبِعَت عليهم, أو نصبت عليهم نصبًا، {ذَلِكَ}, هذه عقوبة مِن الله - تبارك وتعالى-  لماذا عاقبهم الله - تبارك وتعالى-  بهذه العقوبات، قال : { بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}، {بِأَنَّهُمْ}, بأنهم لأنهم فهذا السبب، {كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}، {كَانُوا}, أمر مستمر، آباؤهم وأجدادهم مِن الأساس هم ورثوا هذا الكفر وآمنوا به أي آمنوا بهذا الكفر, وعملوا بمقتضاه, فهم على منوال الأقدم منهم, وما زال يكفرون بآيات الله ما ذالوا هذا فاليهود كفروا بآيات الله بعيسى وقالوا في أمه ما قالوه والنصارى كفروا بآيات الله، كفروا بنبيه - صلوات الله عليه وسلم- وبما أنزل الله - تبارك وتعالى-  على عيسى ثم بما أنزل على محمد - صلوات الله والسلام عليه-، {كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ}.

هذا فعل اليهود, {يَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ}، ليس لهذه الآية مفهوم أنَّ قتل الأنبياء يكون بحق في بعض الأحيان يكون بحق، لا يكون قتل نبى بحق أبدًا، لأنَّ النبى معصوم أنْ يفعل عملًا يستحق عليه القتل، بل إنما يقتلون الأنبياء بغير حق فتأكيد بغير حق أنَّ هذا فقط عدوان أي ما عندهم أي زريعة يتذرعون بها أنَّ النبي يستحق أنْ يُقْتَل بل يقتلون الأنبياء بغير حق، الأنبياء جمع نبي والنبي هو النبيء أي المنبأ الآتي بالأخبار العظيمة، النبأ هو الخبر العظيم, وهذا مِن الله - تبارك وتعالى-  ليخبرهم الله - تبارك وتعالى- بالأخبار العظيمة ويطلعه على غيبه ويقيمه لدعوة الناس إلى طريق الله - تبارك وتعالى-  وهذا عدوان عظيم فالذى يكفر بالله يكفر بآيات الله ثم يعتدى على رسل الله، أنبيائه, يقوم بقتلهم، ارتكبوا هذه الجرائم الكبرى فلذلك فعل الله - تبارك وتعالى-  ما فعل أنْ ضرب عليهم الذلة، ضرب عليهم المسكنة، باء بغضب منه، سلَّط الله - تبارك وتعالى-  عليهم، {ذَلِكَ}, كل هذه العقوبات, {بِمَا عَصَوْا}، عصوا أمر الله - تبارك وتعالى-, {وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}, {وَكَانُوا}, كذلك صفة مستمرة, {يَعْتَدُونَ}, {عَصَوْا}، العصيان يأتي عن الطاعة، أمروا بالطاعات فعصوا عنها, {وَكَانُوا يَعْتَدُونَ},  والذى هو تجرؤهم على معاصى الرب - تبارك وتعالى-  فيعتدوا, فقد جمعوا كل أنواع الكفر وكل توابعه، كفروا بآيات الله، قلوا الأنبياء، هذا أمر عظيم جدًا, كل ما يأمرهم الله - تبارك وتعالى-  به يعصون، افعل كذا لا يفعل، لا تفعل كذا يعتدى، فهذا كل الجرائم والموبيقات ارتكبوها بدءًا بالكفر بآيات الله، دليله الواضح - سبحانه وتعالى- ثم عدوانًا على رسله.

{وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ}، ثم عدم تنفيذهم لأمر الله - تبارك وتعالى -, ثم اعتدائهم بعد ذلك على معاصي الله - جلَّ وعَلا- مِن أجل ذلك ضربهم الله - تبارك وتعالى-  بما ضربهم به، هذه الآيات دلائل واضحات أنَّ هذا القرآن مِن عند الله - تبارك وتعالى-، فإنَّ الواقع قد جاء بعد هذا يبين أنَّ ما أخبر الله - تبارك وتعالى-  به وقع كما أخبر به - سبحانه وتعالى-، ما يدلك على أنَّ هذا القرآن, كتاب الله - تبارك وتعالى-  المنزل على عبده ورسوله محمد - صلوات الله والسلام عليه- ، ولا شك أنَّ كلام الله - تبارك وتعالى-  على أهل الكتاب على هذا النحو فيه أولًا تحذير للأمة أنْ تقع فيما وقع فيه أهل الكتاب فيعاقبها الله - تبارك وتعالى-  بما عاقب به أهل الكتاب؛ لأنه ليس عقوبة الرَّب - تبارك وتعالى-  لأهل الكتاب خاصة إذا ارتكبوا ذنب وعاقبهم الله - تبارك وتعالى-  ليس لهم خاصة وإنما إذا ارتكبت هذه الأمة كذلك ما ارتكبه أهل الكتاب يعاقبهم الله - تبارك وتعالى-  كما عاقبهم.

نكتفي اليوم بهذا, وأُصَلِّي وأُسَلِّم على عبده ورسوله محمد, والحمد لله ربِّ العالمين.